|
الإسلاميون ومبدأ الشرعية المتساوية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1287 - 2005 / 8 / 15 - 13:32
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هل يحظى الإسلاميون بشرعية مبدئية تفوق غيرهم من الأحزاب السياسية والتيارات الإيديولوجية في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية؟ يسلم أكثر الإسلاميين بحيازتهم شرعية أكبر وأعمق من غيرهم، هذا إن لم يقرروا أنهم وحدهم الشرعيون. وأصل التسليم هذا أنهم يرون أنفسهم التعبير الأكثر قربا او اصالة أو مطابقة لهوية "الأمة" وقيمها وثقافتها. هوية الأمة وقيمها وفقا لهذا الفهم معطيات ثابتة لا تتبدل. على اختلاف في سند الشرعية، نجد مثل مفهومها هذا لدى الأحزاب العقيدية الأخرى التي عرفتها البلاد العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. فالقوميون ينفردون بالكفاح من أجل وحدة الأمة العربية وحمل رسالتها الخالدة أو صون تطلعاتها للنهوض والاستقلال. والشيوعيون يمثلون وحدهم أيضا مصالح الطبقة العاملة أو تحالف العمال والفلاحين، او "المصالح الحقيقية" للجماهير الكادحة. المشترك بين التيارات هذه استنفارها لمبدأ شرعية متعالية، سابق على "الأمة" أو "الجماهير" أو "الشعب" أو "الطبقة" في وجودها العياني والملموس، شرعية مكنونة في جوهر او هوية أو روح أو مصالح حقيقية أو قوانين تاريخية، دون ان يمكن تعريف الجوهر أو الهوية أو المصالح ... بطريقة مشتركة أو تعاقدية. نسمي هذا المفهوم الشرعية القبلية أو الشرعية العقيدية تمييزا عن الشرعية البعدية او الشرعية التعاقدية التي تتمخض عنها صناديق الاقتراع. الشرعيات القبلية ذاتية، تتعلق بنظرة كل فريق إلى ذاته، ولا تقبل المفاضلة بينها موضوعيا. يعتقد الإسلامي أن شرعيته مستمدة من ذاتية الأمة، والشيوعي من اتجاه التاريخ، والقومي العربي من رسالة العرب.. هذا حقهم، لكنه حق ذاتي غير ملزم لغيرهم، ولا يقوم عليه اجتماع سياسي مستقر. فالشرعية هذه إقصائية لا استيعابية، تقوم على الفرادة لا على الشراكة(حزبنا هو الوحيد الذي..)، وعلى الاستثناء و"الفلتة" لا على القاعدة المطردة، وعلى الامتياز لا على المساواة. وبهذا ينسف نمط الشرعية القبلية او العقيدية هذا مفهوم الشرعية ذاته بتفريغه من روح العدل والمساواة والعمومية. تفسد الشرعية وتغدو مبدا اعتباط لا قاعدة اشتراك وعموم. الشرعية البعدية، بالمقابل، مشتركة، قانونية، مساواتية. الشرعية الديمقراطية شرعية بعدية طبعا او تعاقدية. تساوي الشرعية هو اساس مفهوم الشرعية الحديثة، الشرعية التعاقدية لا الشرعية العقيدية، التي يقوم عليها ايضا نظام الأمة التعاقدية، التعددية، لا الأمة العقيدية، الواحدة تعريفا. على هذا الأساس لا يحوز الإسلاميون شرعية تزيد على غيرهم ولا تقل. ومثل ذلك ينطبق على التنظيمات العقيدية الأخرى. فحيث تحوز جماعة ما شرعية أصلية لصيقة بها فإن مفهوم الشرعية ذاته فاسد؛ وحيث يكون مفهوم الشرعية صالحا فإنه "يتوزع في جسوم" جماعات سياسية متعددة ومتعارضة. على أننا نسجل ان الإسلاميين يتميزون عن غيرهم، منذ ثمانينات القرن العشرين، بالاعتقاد أن شرعيتهم أكبر من غيرهم. وهذا لأنهم قلما يمتنعون عن التمييز بين المفهومين القبلي والبعدي للشرعية، وينزلقون بسهولة نحو تأويل قبلي للشرعية الديمقراطية ذاتها. يعرف كاتب تونسي الديمقراطية بانها "حكم الأغلبية أي حكم الإسلام باعتباره عقيدة الأغلبية" (سليم بن حمدان، نشرة الملتقى، دمشق، 1999، العدد صفر). يرد الكاتب الديمقراطية إلى حكم الأكثرية فقط مغفلا مبدا المواطنة والحقوق الأساسية وحرية القوى الاجتماعية في العمل والتنظيم وحرية الاعتقاد.. وهو يجعل من التصويت امتحانا لسلامة عقائد الناس أو لصحة إيمانهم، لا تفضيلا لبرامج اجتماعية واقتصادية وسياسية قد تستجيب لمطالب بشر يحتاجون إلى تعليم وسكن ومعيشة و...حريتهم الدينية. من الواضح كذلك انه يعتبر الإسلام واحدا ثابتا متماثلا مع ذاته على اختلاف البلدان والأزمنة. ينظر إليه ايضا بوصفه هوية مستغرقة كليا للمجتمعات الإسلامية تحتكر تحديد سلوك كل فرد فيها. مفهومه للأكثرية مفهوم ثابت يتحدد دينيا جاعلا من الدين عقيدة سياسية مباشرة. طبيعي إذن أن يرفض العلمانية ويرى ان ثمة مسكوتا عنه وراء فصل الدين عن الدولة هو "فصل الأغلبية عن الدولة". قد يكون صحيحا ان الأكثرية الاجتماعية التي قد تتمخض عنها انتخابات ديمقراطية تشهدها البلدان ذات الأكثرية الإسلامية هي اكثرية من المسلمين، لكن هذا أمر عارض، مستقل عن طبيعة الديمقراطية قدر ما هو مستقل عن طبيعة الإسلام. فالأكثرية الديمقراطية تختلف مبدئيا عن الأكثريات الدينية والمذهبية والإثنية في كونها أكثرية "افقية"، مؤقتة ومتبدلة. ونفترض أن انتماء المصوتين الإسلامي لن يكون محددا حصريا لسلوكهم التصويتي، بل إن وزنه سيتراجع مع رسوخ تنظيمات الديمقراطية، بينما ستتقدم عوامل حياتية من طبيعة اجتماعية واقتصادية وتعليمية وصحية... بالطبع يصعب تصور ديمقراطية في بلد إسلامي (أكثريته مسلمون) تكون معادية للإسلام، لكن ليس هناك بالمقابل ديمقراطية إسلامية إلا بمعنى ضعيف: تظهر حساسية اشد حيال المطالب الرمزية والتشريعية والسلوكية للمسلمين. الديمقراطية الإسلامية الممكنة هي ديمقراطية أولا وإلا لن تكون إسلامية. ديمقراطية بمعنى انها تعكس تفضيلات أكثرية اجتماعية، وتقوم على مبدا المواطنة المتساوية وسيادة القانون والحريات العامة، بما فيها حرية الاعتقاد. وهي إسلامية لأنها حساسة حتما حيال ضغوط ومطالب واصوات مسلمين احرارا. والشرعية التي تمنحها انتخابات ديمقراطية هي شرعية بعدية وتعاقدية، تمنح للأكثريات الانتخابية حقوقا متساوية، بصرف النظر عن دينها أو عقيدتها أو اثنيتها. إذ لا يكون مفهوم الشرعية ذاته شرعيا إلا على ارضية التساوي المبدئي بين المجموعات السياسية المتنافسة وبين الأكثريات التي تنتجها الانتخابات، مهما يكن وزن الإسلاميين أو غير الإسلاميين، المسلمين او غير المسلمين فيها. والحال إن الانتخابات تمنح شرعية للخاسرين وليس للفائزين فقط، وهذا لأنها تضفي الشرعية على اللعبة السياسية ذاتها. فهي لا تخرج الخاسرين من الشرعية (إلا إذا خرجوا عليها)، وتمنح الفائزين شرعية ديمقراطية فقط: من يصعد إلى السلطة العمومية عبر الانتخابات ينال شرعية مشروطة بان لا يعرقل وصول منافسيه إلى السلطة بالوسيلة ذاتها. الشرعية الديمقراطية لا تستنفد في تصويت واحد، بل تبسط نفسها في عمليات تصويت لا متناهية. الغرض أن الشرعية الديمقراطية تعاقدية، ليست لصيقة بعقيدة او بدين او بقومية أو طائفة، تحملها معها اينما ذهبت ومهما فعلت. الشرعية هذه توفر حلا لمشكلة التعارض بين الشرعيات العقيدية التي لا سبيل للتوفيق بينها. اختلاف الشرعيات يستبدل بشرعية الاختلاف: قوى متعددة تتنافس في مضمار واحد والتزام بقواعد مشتركة لضبط التنازع السياسي. هل يمكن التحول نحو شرعية تعاقدية بينما التنظيمات السياسية عقيدية؟ ألن يفضي ذلك إلى رد الديمقراطية إلى تصور إجرائي محض، ما يبقيها ضعيفة وفاقدة العزم وعجزة عن الدفاع عن نفسها؟ هل "الديمقراطية الغربية دين من صنيعة البشر"، حسب رأي الإسلامي السوري الأصل، اللاجئ في بريطانيا، عمر بكري (الشرق الأوسط، 7/8/2005)؟ هل التعاقد محض عقيدة أخرى؟
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
علمانية في العالم الاجتماعي أم في عالم المثل؟
-
علمانية وإسلامية وديمقراطية في السجال السوري
-
حقائق وزير الحقيقة البعثي
-
الانحلال حلا: تأملات لا عقلانية في الشرط العربي
-
البعثية السورية: من الإرادوية إلى الإداروية
-
استعصاء
-
وحيدا على قيد البقاء المطلق: حزب البعث في أسر السلطة
-
هايل ابو زيد: آخر ضحايا نظام الاستثناء الأمني
-
كلام على هيبة الدولة
-
بين السلطة والإخوان: لا بديل عن التفاوض
-
مخرج عقلاني من وضع مقلق
-
حزب الشعب الديمقراطي السوري وتحدي بناء الذات
-
المـوت الضـروري لـسـميـر قصيـر
-
شعارات حرب في شوارع المدينة!
-
ديمقراطية وتنمية في الشرق الأوسط!
-
ماذا يريد -الإخوان المستلمون-؟
-
هيمنة بوجوه متعددة، لكن بلا روح
-
أزمة أحزاب وإيديولوجيات أم أزمة حضارة؟
-
سوريا، حزب البعث، ونظام الحزب الواحد: الانفصال هو الحل
-
كلام على غائب في ذكرى إنشتاين ونظرية النسبية
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين
...
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|