|
التراث .. أداةً لتزييف الوعي
علي المدن
الحوار المتمدن-العدد: 4563 - 2014 / 9 / 3 - 21:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قبل أيام أحضر لي أحد الأصدقاء مسوَّدة كتاب ألَّفه أحد الأشخاص المتحولين للتشيع على المذهب الإمامي، وكان عبارة عن دراسة في أكثر من ألفين وخمسمئة صفحة جمع فيها (أو هكذا أراد كما جاء في المقدمة) رواة الحديث الموجودين في سلاسل التراث الحديثي السني ممن نسبوا للتشيع أو اتهموا به أو بالرفض وفقا لكتب الرجال السنية. المحاولة سبقتها دراسات عديدة كتبها كتّاب وباحثون شيعة، ولأهداف وأغراض متنوعة، فالبعض رأى فيها محاولة لمنح المصداقية والوثاقة للرواة الشيعة (وتبعا له التراث الشيعي) بحسب معايير الجرح والتعديل السنية، والبعض الآخر يريد إحراج الجانب السني بالقول إن فكرة الاستغناء عن الرواة الشيعة تتسبب بضياع واهدار جزء كبير من التراث الحديثي السني، والبعض الثالث وجدها فرصة للتفاخر والتباهي بدور الشيعة ورواتهم في حفظ السنة النبوية والتراث الإسلامي ونقله ونشره، أو حتى التقريب بين مذاهب المسلمين وردم الهوة الفاصلة بينهم، أو التأكيد على ظلامة الشيعة وبخسهم وقدحهم من قبل علماء السنة ... إلى غير ذلك من أهداف علمية أو مذهبية أخرى. في كل مرة يتم جمع الرواة من صنف ما (منسوبون للتشيع أو النصب)، لينظر في حكمهم (توثيقا أو تضعيفا)، من أجل تحقيق غرضا ما من الأغراض المتقدمة أعلاه. السؤال هنا: هل عادت تلك الدراسات بنفع يذكر على واقع العلاقة بين المذاهب الإسلامية وأتباعهم؟ أرى أن الجواب بالنفي، والأسباب في رأيي كثيرة. لقد أبقيت عن قصد التصنيفات التي يتعاطها هذا الفريق من الباحثين على حالها. استخدمت كلمات من قبيل "التراث السني" والتراث الشيعي" والرواة السنة" والرواة الشيعة" و"معايير الجرح والتعديل" ووو مع قناعتي أن هذه الكلمات بحاجة إلى مراجعة تاريخية صارمة، ونقد علمي لمضامينها ومداليلها، وكيف تشكلت؟ وكيف تطورت؟ ومدى صلاحها للتعبير عن واقع التاريخ الإسلامي المعقد، العلمي والاجتماعي والسياسي منه على حد سواء. إن ضآلة جدوى هذه الدراسات، أو حتى عدمها، يعود إلى العقليات التي تغذيها، وإلى الرؤى الفكرية التي تنطلق منها، وإلى المعايير العلمية التي يبحث بواسطتها. إن الفهم الضيق للحقيقة في إطارها الديني الخلاصي المذهبي يحجب عن العقول رؤية الواقع كما هو. وإن المعايير البحثية التي تخلط بين وظيفة العلم في الكشف عن الواقع مع الصراع حول الشرعية والمصلحة وتبكيت الخصوم، لهي أعجز ما تكون عن بلوغ الصواب في التفكير والمناقشة. إن منطق "الإلزام" (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) هو منطق لا يكترث للحقيقة، ولا تشغله المعرفة، إنه منطق زجري قمعي إخضاعي دوغمائي، لا يقارب الأفكار إلا في إطارها التنافسي، وليس الكشفي التحرري التنويري. إن الكشف عن طبيعة التناحر البشري ذي الغطاء المقدس الزائف في تاريخنا الإسلامي مهمة جليلة حقا، ونحن في أمسّ الحاجة لها، ولكن ليس من دون التسليم بالدوافع الأيديولوجية لاختلافاتنا، والاعتراف بطابعها الدنيوي، وفقرها المنهجي، الذي ولّد كل هذا التناحر. على أن الكتابات المعاصرة من أمثال الدراسة التي تحدثتُ عنها في بداية المقال أشد سوءا بما لا يقاس مع كتابات غيره، فمع أنني خبير جدا بالظروف التي يتم فيها تأليف هكذا أعمال، وما يرافقها من سطو على جهود الآخرين وشراء لأتعابهم وبحوثهم وأوقاتهم بثمن بخس (وهناك مؤسسات وأسماء وهمية كبيرة جدا عاشت ولازالت تعيش على هذا النحو وسوف أفضحها في يوم ما)، إلا أن هذه الدراسة حوت المساوئ كلها!! ولا أعرف حتى الآن من جمع هذا الكم الهائل من الزيف والجهل في جنس أمثال هذه الأعمال كما فعل هذا المؤلف في دراسته هذه!! فهو يلبّس ويموّه على قرائه، وينقل النصوص بتصرف دون أن يشير لذلك، ويجهل طبقات علماء الجرح والتعديل ومراتبهم وألفاظهم، ويخلط بينهم زمنيا، فيقدم المتأخر (بل والمعاصر) ويؤخر المتقدم، بل إنه لا يميز كتب الجرح والتعديل عن كتب الورّاقين، ولا كتب المسانيد عن شروحها!! إنه المثال الحي لما كان القدماء يسمونه: حاطب ليل. لقد أخبرت صديقي أن هذا الرجل "المتطفل" لصٌ غير محترف، وأن ضرره على التشيع أكثر من نفعه؛ إذ إن عمله لا يكشف حقيقة ولا يقنع مسلما باحثا، بل هو يفعل العكس تماما. لقد آن الأوان للجم الغرائز الانتهازية الحمقاء عن أن تعصف وتتلاعب بتراثنا، كفانا تزييفا للوعي والتاريخ.
#علي_المدن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بذرة التفلسف
-
السياسة والأمل
-
الرئيس فيلسوفا
-
متى يكون السياسي فاشلا؟
-
الأساطير المؤسسة للعمل السياسي في العراق: السياسة كحرفة
-
هل يؤسس الإلحاد مذهبا إنسانيا في الحب؟ نقاشات تنموية في فضاء
...
المزيد.....
-
الضربات الجوية الأمريكية في بونتلاند الصومالية قضت على -قادة
...
-
سوريا.. وفد من وزارة الدفاع يبحث مع الزعيم الروحي لطائفة الم
...
-
كيفية استقبال قناة طيور الجنة على النايل سات وعرب سات 2025
-
طريقة تثبيت تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 2025 TOYOUR BAB
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال اقتحم المسجد الأقصى المبارك 21
...
-
” أغاني البيبي الصغير” ثبت الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي عل
...
-
زعيم المعارضة المسيحية يقدم -ضمانة- لتغيير سياسة اللجوء إذ أ
...
-
21 اقتحامًا للأقصى ومنع رفع الأذان 47 وقتاً في الإبراهيمي ا
...
-
24 ساعة أغاني.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 على النايل
...
-
قائد الثورة الاسلامية:فئة قليلة ستتغلب على العدو المتغطرس با
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|