مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 4562 - 2014 / 9 / 2 - 09:23
المحور:
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
محاولة الكاتب عصام الخفاجي اختزال الاختلاف بين اليسار التقليدي أو الرسمي و اليسار الجديد , في الستينيات و السبعينيات , بموضوعة الاستيلاء على السلطة , فيها الكثير من التبسيط .. و أيضا مجموعة من أحكامه الأخرى , مثل قوله بأن الحزب الشيوعي العراقي بقي مسكونا بحلم ( أو كابوس ) الوصول إلى السلطة حتى أواخر الثمانينيات ( الفترة التي "تحالفت" فيها قيادة الحركة الشيوعية العراقية الرسمية أولا مع قاسم ثم مع البعث ) .. فوتت اللهجة التبريرية للكاتب دفاعا عن الحركة الشيوعية الرسمية , عليه و علينا , فرصة مهمة لفهم تعقيدات الستينيات و السبعينيات بما في ذلك ظاهرة اليسار العربي الجديد , و لتقييم الظاهرة ككل بعيدا عن مواقف الإدانة أو التمجيد المسبقة , من شخص عاشها عن قرب .. و ينطبق هذا على فهم ظواهر أو أطروحات بعينها , كالكفاح المسلح مثلا , هل كان طرحه من جانب اليسار الجديد وليد عصره أم أطروحة خاصة باليسار الجديد ( نعرف مثلا أن الكفاح المسلح لم يسقط كأسلوب "نضالي" إلا بعد خروج منظمة التحرير من بيروت عام 1982 ) .. و أيضا ميله إلى التخفيف من تبعات السياسة السوفيتية على مواقف الحركة الشيوعية العربية الرسمية , و محاولة تبريرها ضمنا بمرجعيات إيديولوجية ما و ليس بمصالح سلطوية أو "اجتماعية جديدة" .. و أيضا مروره بسرعة على الخلاف حول طبيعة "الأنظمة الوطنية أو التقدمية" بين اليسار التقليدي أو الرسمي و اليسار الجديد : نعرف أن اليسار الجديد عموما انتقد هذه الأنظمة , وصولا إلى معارضتها النشطة ( كتابات العفيف الأخضر و كتاب الصراع الطبقي في مصر لمحمد حسين ) .. حتى الآن هذه ملاحظات متوقعة إلى حد ما , أعتقد أن الكاتب نفسه كان يتوقعها , أو أنها قيلت بشكل أو بآخر في سياق الحوارات حول مواقف الحركة الشيوعية الرسمية في تلك الحقبة .. لكن أحد أهم الأفكار التي قدمها الدكتور الخفاجي في نقده لليسار العربي الجديد هو تحليله الطبقي للظاهرة , إذ يعيد نشوء اليسار الجديد إلى فئتين اجتماعيتين : المهمشون , المهاجرون الجدد إلى المدن , الذين كانوا يشعرون بالغربة عن الدولة و بالعداء لها , و من هؤلاء ستأتي غالبية راديكاليي لا الحركة الشيوعية فقط , بل و البعثية , و سينحاز جيلها الثالث إلى الحركات الإسلامية الشعبوية , حسب الكاتب .. و أيضا من محترفين حزبيين و خريجي جامعات و مدارس اعدادية انسدت آفاق صعودهم في السلم الاجتماعي , مرة أخرى حسب الخفاجي .. الغريب أن توصيف الكاتب للطبيعة الطبقية لليسار الجديد يتطابق مع تحليل هربرت ماركوزه لليسار الجديد نفسه , و هو الذي يعد أحد مفكري اليسار الجديد الرئيسيين .. و يتطابق أيضا مع بعض التحليلات التي تتناول الثورات العربية الراهنة ( بعض كتابات الدكتور أحمد برقاوي الأخيرة مثلا ) .. في محاضرة في برلين الغربية عام 1967 قال ماركوزه أنه في المجتمع ذي البعد الواحد حيث ينجح النظام السائد في تدجين أية معارضة ضده , و تصبح المعارضة نفسها جزءا من النظام , يمكن لمعارضة النظام القائم أن توجد فقط بين الناس الذين يعيشون على الهامش , إما في غيتوهات "المحرومين" , التي تضم الأقليات القومية و العرقية عادة , أو داخل الطبقة أو الفئات الاجتماعية "المحظوظة" نفسها , لكن من أفراد بقيت أفكارهم و رغباتهم خارج دائرة تحكم آليات السيطرة الاجتماعية السائدة .. يؤكد ماركوزه أن اليسار الجديد كان "كابوسا" للماركسيين القدامى , كيسار يستند إلى أفكار نيو ماركسية ( ماوية , غيفارية الخ ) , أو إلى أفكار نيو أناركية أو لا سلطوية , نشأ منفصلا عن الحركة العمالية التقليدية أو الرسمية , و لا يعرف نفسه طبقيا أو اجتماعيا .. لكن هنا يتبدى لنا التناقض الصريح في اليسار الجديد , في اعتماده على فكرتين متناقضتين تماما , حتى لو أدتا لنفس النتائج على صعيد نقد السائد أو نقضه , لكنهما تختلفان بعد ذلك لدرجة التناقض .. بين لاسلطوية المجالسية أو الأناركية كما عبر عنها العفيف الأخضر و غيره من لا سلطويي يسار السبعينيات الجديد , و بين إيديولوجيا سلطوية لدرجة الشمولية كالماوية , و بقية التفريعات الماركسية من غيفارية و غيرها .. هذا المنشأ الملتبس لليسار الجديد , الذي يقوم على تناقض لا يقل عن تناقضه مع اليسار القديم , التقليدي و الرسمي , هو ما يحير فعلا , و هو على الأغلب المدخل الضروري لفهمه .. لكن هذه الحيرة ستنجلي ما أن يتذكر المرء الثورة الثقافية الصينية .. تمثل الثورة الثقافية الصينية , و التي هي سر سحر الماوية عموما , تمثل ذلك التركيب المعقد بين الشعبوية و العفوية الجماهيرية شبه المطلقة من جهة و بين السلطوية أو المركزية الشديدة التي تبلغ درجة تأليه الزعيم من جهة أخرى .. كانت سلطة ماو على الحزب الشيوعي الصيني , و الدولة الصينية , آخذة بالتراجع بسبب فشل سياساته , خاصة القفزة الكبرى إلى الأمام .. اضطر الرجل لأن يقوم بنقد ذاتي , الأمر الذي يعرف معناه جيدا أعضاء الأحزاب الستالينية , لكنه كان ما زال يحتفظ بصلاحيات مهمة , رغم أنها كانت تتقلص بانتظام , و الأهم , كان يحتفظ بوضعية الزعيم الروحي للحزب و للبلاد .. استغل ماو و من حوله : زوجته و بعض الكوادر الحزبية و العسكرية الطموحة , شعبية ماو تلك لمهاجمة البيروقراطية الحزبية و العسكرية و الدولتية التي كانت تهمش ماو شيئا فشيئا , منظمة هجومها المضاد لاستعادة سلطة ماو و تعزيز نفوذها هي من ورائه , هكذا بدأت الثورة الثقافية عام 1966 .. قال ماو للحراس الحمر , للشبيبة , و للطلاب , أن يهاجموا بأنفسهم "العناصر البرجوازية" في الحزب و السلطة و حتى داخل الجيش , "التحريفيين" , و أن يتولوا تطبيق هذه السياسة بأنفسهم , و يدمروا كل ما يعود إلى الماضي من عادات و أفكار و ثقافة .. كانت الحركة الناشئة جماهيرية حقا , هاجم الشباب أساتذتهم و مسؤولي البلديات و المنظمات الحزبية , و في حالات غير نادرة , أقرباءهم و حتى آباءهم .. عطلت المدارس و أرسل "التحريفيون" إلى الريف ليتعلموا من الفلاحين .. حلت الفوضى في كل مكان , توقف العمل في كثير من المصانع , و حتى في الجيش , حل "التوجيه السياسي" مكان التدريب العسكري , تماما كما أمر الرئيس ماو .. جرت حملات علنية للتطهير , لمحاكمة و إذلال و حتى إعدام قادة حزبيين و مثقفين و معارضين مفترضين لماو .. دمرت معابد و آثار تاريخية , كل ما ينتمي إلى الماضي إما أحرق أو أهين , بينما بلغ تقديس ماو درجات غير مسبوقة حتى مقارنة بستالين أو هتلر .. ساد الصراع حتى بين مجموعات الحراس الحمر نفسها , و كثيرا ما تنافست بعنف على السلطة المحلية بعد أن دمرت عمليا مؤسسات الدولة و الحزب المحلية و حلت محلها .. ماو نفسه كان من "أوقف" الثورة الثقافية , عندما بدأت تشكل تهديدا على سلطة الحزب و الدولة , و بعدما حققت أهدافها في تقوية قبضة ماو على كليهما .. استفاد بعض المهمشين من الثورة الثقافية فعلا , ماديا و معنويا , انضم بعضهم إلى النخبة الاجتماعية التي جرى ترميمها بعد استعادة سلطة البيروقراطية مرة أخرى , و ما يزال هناك موقف إيجابي حتى اليوم بين بعض الفئات و الطبقات المهمشة اجتماعيا رغم التقييم الرسمي السلبي للثورة اليوم في الصين , عدا عن أنها ما زالت توجد في صلب دوغما الجماعات الماوية الحالية , أحد الملاجئ المتبقية "لانتقاد" النظام القائم و "النضال لتغييره" .. رغم أن الثورة الثقافية الماوية كانت النسخة الصينية عن تطهيرات ستالين , التي بلغت ذورتها في الثلاثينيات لكنها استمرت طوال حكمه و حتى بعده , لكنها تختلف عنها في بعض صفاتها الجوهرية : صحيح أن كليهما كان يهدف لتقوية سلطة الزعيم و استئصال أية بوادر للمقاومة , لكن تطهيرات ستالين ضد خصومه الفعليين أو المفترضين خاصة داخل أجهزة الحزب و الأمن و الجيش , نفذت بواسطة منظومة قمعية حزبية - عسكرية - أمنية , أما تطهيرات الثورة الثقافية الماوية ضد نفس الخصوم , فقد تمت على يد الجماهير , التي كانت تعتقد أنها تفعل ذلك لمصلحتها .. إذا استثنينا اللاسلطويين من اليسار الجديد , أي العفيف الأخضر و مصطفى خياطي و السورياليين كالجنابي و غيره و منظمة ماتزيبن الإسرائيلية , تمثل الثورة الثقافية بتناقضاتها و إنجازاتها خير تمثيل اليسار العربي الجديد , و فهمها اليوم ضروري لفهم تلك الحقبة , بل أيضا لفهم بعض سمات تطور الثورات العربية الراهنة .. من الظلم القول بأن الثورات العربية كانت نسخة عن الثورة الثقافية , الثورات العربية بدأت عفوية , بلا قيادة و لا إيديولوجيا "قائدة" , و كان لها سمات لا سلطوية صريحة , بينما كانت الثورة الثقافية ذات هدف واضح منذ البداية , و كانت تتمحور حول تقديس الزعيم الفرد .. لكن الثورات العربية التي بدأت لاسلطوية بدأت تظهر عليها بعض سمات الثورة الثقافية الصينية , و بالتالي تناقضاتها , خاصة في سوريا و ليبيا : أي أخذت تصبح ثورة سلطوية , شديدة السلطوية حتى , بأساليب لاسلطوية .. طبعا بالاعتماد على إيديولوجيا شعبوية ( مزيج من الطائفية و السلفية الجهادية ) , كما كان الحال في الصين عام 1966 .. لكن هذا الكلام يطرح من الأسئلة أكثر مما يجيب , مثلا كان مفهوم ماركوزه عن المجتمع أحادي البعد يتمحور حول المجتمعات الصناعية المتقدمة لا المتخلفة أو التابعة , إن فهم الأنظمة القائمة اليوم يتطلب أدوات قادرة على تفكيكها إلى آلياتها و مؤسساتها الأولية .. تبقى الثورات ظاهرة معقدة , أكثر تعقيدا مما تبدو , و كما قال الثوري الإسباني دوروتي , على اللاسلطويين ( أو الثوريين ) أن يحاولوا فهم العملية الطبيعية للثورة و ألا ينفصلوا عن "الطبقة العاملة" ( اقرأ المهمشين ) بحجة خدمتها بشكل أفضل .......
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟