أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - خالد سليمان - لماذا لا يصدّق المثقفون العرب ماساة الجارالكردي؟















المزيد.....


لماذا لا يصدّق المثقفون العرب ماساة الجارالكردي؟


خالد سليمان

الحوار المتمدن-العدد: 1285 - 2005 / 8 / 13 - 09:58
المحور: القضية الكردية
    


للحديث عن المثقف العربي وموقفه تجاه " الكرد وقضيتهم نحتاج لبداية قاسية تضع الحديث عن الثقافة وتمثلاتها الأخلاقية التي تحدث عنها المفكر الراحل أدوارد سعيد ، في دائرة الشك والريبة في آن واحد.
ولا بأس من أن نبدأ بـ " أدوارد سعيد " نفسه وصمته حيال مأساة مدينة حلبجة والأنفال رغم إطّلاعه على معلومات وفيرة حول مراحل السياسة الجينوسيدية التي مارسها نظام البعث ضد الكرد . ففي حياة سجالية مستمرة كرّسها هذا المفكر للدفاع عن القضية الفلسطينية والبوسنيين والتشيشانيين لم يلتفت الى ذلك الممشى القصير الذي يفصل دم الأكراد عن دم الفلسطينيين جغرافياً . وتجنب بذلك سؤال صعب لم يوجهه له أحد وهو ( أيمكن تقليم تاريخ العرب من الشوائب من خلال قتل الكردي وأنفلته ووضعه في حلقات تمرين الإفناء؟).
نترك هنا هذا السؤال لنعود إليه فيما بعد ، ونحاول الولوج الى حوار قد لا يخلو من " الطرشنة " كمقدمة منطقية له ولأبعاده القصدية في تناول الأشياء – الأشياء الكردية والعربية ضمناً وصمتاً - ، ونبدأ بكلمات كتبها وقالها مثقفون وكتاب عرب تحمل من العنف والقسوة قدراً كافياً لمبررات دولة البعث في إستخدام الأسلحة الكيمياوية والأنفال والتقبير الجماعي .
نبدأ بشاعر وصحفي كردي وهو "فريد زامدار" وافقه الحظ في الإقامة بدمشق، وكأي كاتب كردي يقيم في مدينة عربية يحاول للوهلة الأولى التعرّف على المثقفين العرب ومواقفهم المتباينة تجاه الكرد والثقافة الكردية, ثم وافقه الحظ أيضا ان يلتقي بالقاص زكريا تامر في كافيتيريا فندق الشام مكان اللقاء بينه وبين الشاعر محمد الماغوط.
القصة تبدأ من هنا , والغريب فيها هو تلك الكلمات التي قالها "تامر" بحق الكرد بمجرد سماعه اسم كردستان :
شو كردستان يا أخي ,أنتم عراقيين ولكم كأي عربي عراقي حقوق المواطنة, الا انتم وكل ما فعلتم وتفعلونه منذ البداية ولحد الآن أعمال شغب وعمالة للاستعمار ,انتم عملاء الاستعمار. ثم يتابع ويقول
لا تقارنوا أنفسكم مع الفلسطينيين ,أنتم لم يكن لديكم يوما ما أرض ولا وطن محتل كالفلسطينيين. ولعلمك _ الكلام موجه لفريد زامدار_أنا أعطي الحق للنظام العراقي في قصف مدينة (حلبجة) بالأسلحة الكيماوية, لأنكم حملتم السلاح ضده.
تعبر هذه الكلمات عن ذهنية فاشية تبيح القتل والإبادة ضد الكرد , وهي بالتالي - ذهنية الكاتب المذكور - تبيح أية عملية اخرى مشابهة لمأساة (حلبجة) وعمليات الإبادة الجماعية ضد الكرد والأمازيغ وشعب جنوب السودان ,وتبارك أساليب الحكومات في القتل والإرهاب دفاعا عن هيبة "الأمة". بهذا يطلب تامر من نموره السابقة الخضوع لشروط الصيد ويضع "صدام" في محل الصيّاد كشخصية أخرى في عالمه القصصي. والغريب في أمر هذا الكاتب هو كرهه حتى للأدب الكردي: " أنتم , حتى أدبكم محلي, شو "كوران" انه لم يكن شاعرا مبدعا وهو معروف محليا فقط وليس عالميا ".
يا ترى ما هذا السقوط الأخلاقي الذي يقع فيه المثقف العربي ولماذا لا يبني علاقة متوازنة مع ذاته ومحيطه الإجتماعي والتاريخي وفقاً لجماليات الأشياء وغرائز الحياة ، أين تكمن مصادر هذه الكراهية ، أهي نفسها التي أعتمدها البعث في سوريا والعراق لصناعة " نمر خاص " يحسن إفراغ لبيدو السلطة في كل يوم من تلك الأيام العشرة التي حددها زكريا تامر لمقاومة بطل قصته " النمور في اليوم العاشر " . أيكمن الخلل في الثقافة أم في رموزها وواقعها المتفسخ والمكبل تحت سيطرة أنظمة شمولية وعنفية تنتج ذاتها عبر آليات الموت وصناعة المجتمع السردي لحكايات " قبضايات "
الثورة .
يرجع سبب هذا التواطؤ بين المثقف العربي الأكثروي وبين نموذج الدولة القومي " البعثي " الى إشكالية مستفحلة في ثقافة الغالبية وهي حضور خطاب عرقي يحمل عناصر نفس الفكر الذي تعتمده الدولة التدجينية . وتضخ الإشكالية ذاتها الحركات الإجتماعية السفلية والهامشيين بـ " طاقة إنفعالية سحرية " تكمن جذورها في الحاجة الى الإستبداد كمفهوم للوطنية .
يقول الكاتب السوري لؤي حسين في هذا السياق وفي مقال نشر له في السفيرالبيروتية ( ثقافتنا مشوبة بالفهم الاستبدادي الذي يطغى عليها لدرجة أنه يسميها باسمه. ففهمنا للوطن والوطنية والاستقلال والسيادة والهوية والتعددية السياسية والفكرية وتعددية التعليم والدولة والمرأة والنخبة والشعب والحل القهري والأسلوب العنفي وحق التمثيل وحق الأقليات السياسية...الخ، كل هذا يشكل فهماً استبدادياً جميعنا مسؤولون عنه، وعلى جميعنا التشكيك بكل أفكارنا ومواقفنا المعتادة والسائدة واتهامها بالاستبدادية حتى يثبت العقل والواقع المعقول براءتها).وكان قمع دولتي البعث في كل من العراق وسوريا للكرد وإتباع سياسات التطهير العرقي ضدهم من خلال الأنفال والتجريد من الجنسية و" تشريد الأمكنة عن أسمائها " حسب الروائي سليم بركات ، جزءاً من وطنية النظام ودحض المؤامرات التي تحاك ضده .ولم يغير مسّاح العقل العربي في هذه الحال في قياساته لطبيعة محور الشرّ الكردي عن نفس المسّاح الذي أصبح حكماً جبرياً على إسرائيل في ثقافة العرب الأكثرية .
في أروقة وزارة الثقافة السورية وفي قسم الرقابة على الكتب والموافقة على نشرها كتب شاعر قومي سوري على الصفحة الأُولى من مخطوطة شعرية للشاعر الكردي " طه خليل " : ( نصوص شعرية مكتوبة بلغة مُشفرة لأُناس " وهم الأكراد خصوصاً " لا نأنس بصحبتهم ) مع عدم الموافقة.
نؤكد هنا على تعبير "لا نأنس بصحبتهم" إذ لا يحمل من الباطنيات الثقافية الاّ فعلاً "إجتماعياً" يقتضي الإستئناس بالآخر وفق الإندماج مع صور الكاريزما الإجتماعية القومية ، أما خارج هذا فسيبقى فعل التأنسن في الفكر الذي يشتق منه الشاعر تعبيره كوضع فاقد للتسمية وللإنسية معاً . ولا بد للإشارة هنا أن هذا الشاعر اختصر الطريق وقال جملته السرطانية بخصوص ديوان " الملك الأعمى " الذي حمل في طياته قصيدة جميلة وحزينة عن أطفال حلبجة ، ولم يطل في الحديث، معلناً كرهه للكرد بطريقته الخاصة جداً . ولا تكمن المشكلة هنا مادام الوضوح إستقداماً للأشياء، لكنها تكمن في وضع تاريخي عام شكل الكاتب المذكور جزءً منه، وضع كرّس مشروع الإستبداد والعنف في ماكياج المجتمع كحقيقة قومية ،تتطلب التخلص من الغرباء عن الأُمة ، كما في الحالة الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية والتي مثّلت الرغبة الأوروبية في التخلص من اليهود والغجر والهوموسيكسويل .
للوقوف عند هذه النقطة لا بد من القول أن فكرة المجتمع المقلم عند الأوروبيين بدأ بطرد العيوب عنه وإبعاد ذلك التنوع الثقافي والإجتما- إثني الذي أحدثته الثورة الإتصالاتية الثانية في تاريخ أوروبا . وكانت التعبئة النفسية للخضوع لوجه الحداثة العدواني والتخلص من مصادر التهديد للعرق الأوروبي وتقليم المدينة الأوروبية من الأغصان الزائدة قولاً باطنياً أعلنه الألمان بدل الجميع قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. من هنا شكل الهولوكوست نقطة تحول الحداثة من توسيع مفهوم الإنسان المركز الى إستهلاليات إعلان نموذج الدولة الصانع لقوى إكراه متعددة .
كان الوضع العربي مهيئاً لقبول فكرة أنفلة الكرد على يد البعث ، ولم تكن العملية في رأي العرب الرسمي والثقافي وحتى العام سوى وضع حدٍ لمجموعات بشرية لا تنسجم مع تطلعات دولة عربية كانت تمثل طرف مهم من عمليات إعادة الفرملة الديموغرافية والثقافية والجغرافية للمنطقة .ولا يمكن تصديق الرأي الذي يقول أن عمليات الإبادة الجماعية تمت في سرّية تامة وفي ظل تعتيم إعلامي، لأن صور حلبجة التي إلتقطتها الأقمار الصناعية والصحافة الغربية أنتشرت في العالم،ثم إن المجموعات التي نجت من عمليات الموت ووصلت الى المخيمات داخل الحدود الإيرانية والتركية،هرّبت معها قدر كاف من روايات الموت وقسوة رحلة النجاة من فيالق الجيش العراقي المتوجهة الى كردستان . لكن النخبة العربية المثقفة بإستثناء أقلية صغيرة منها بقيت صامتة وغارقة في نفس الوهم الذي أسسه البعث لصناعة إنسان جديد مجرّد من الأغصان،إنسان بلا أشواك،بلا إحراج، بلا حلم، بلا طاقة، وبلا سؤال أيضاً .
وإذا راجعنا أرشيف الصحافة والإعلام العربيين حول مأسآة حلبجة وكارثة الأنفال وموقف المثقف العربي منهما لا نحصل على شيئ يذكر بإستثناء موقف الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلّة والمفكر العراقي الراحل هادي العلوي من خلال رسالة إعتذار بعنوان ( براءة الى أطفال كردستان ) نشرها في صحيفة السفير البيروتية بتاريخ 23/9/1988 وهي وثيقة أخلاقية قبل كل شيء وتمثل غضب مثقف ومفكر عربي كسر صمت العرب أمام مأسآة بشرية وأدان تاريخ مسكوت عنه في الثقافة العربية كما في هذه الرسالة التي ننشرها هنا لقيمتها الأخلاقية والثقافية للمفكر الراحل الذي يقول في مقطع منها:
إن أبناء الشعب الكردي ، أحفاد نورالدين وصلاح الدين الأيوبي ، وقفوا منذ مئات السنين ومنذ أن جمعتهم راية ألإسلام بجانب العرب . وقد نظّم الشعب الكردي المظاهرات الضخمة إحتجاجاً على العدوان الثلاثي ضد مصر عام 1956 ونظّم شعراءه وأُدباءه بعض أجمل نتاجاتهم حول ثورة الجزائر ، وقاتل مئات منهم في صفوف الثورة الفلسطينية . إن هذا الشعب هو في محنته اليوم يستحق من أخوانه العرب والمسلمين أن يرفعوا أصواتهم لحمايته من الإبادة ، وهو أضعف الإيمان ، لكي لا يسجل التاريخ بأننا علمنا وشهدنا وسكتنا).
لقد علموا وشهدوا وسكتوا ، بل حاولوا التعتيم على كل ما نشرته الصحف الغربية حول إستخدام البعث للأسلحة الكيمياوية والجرثومية ضد الكرد . ففي إحدى أعدادها في تلك الفترة نشرت صحيفة " الغارديان " البريطانية نبأ زيارة وفد بعض الدول العربية الخليجية والمغاربية لوزارة الخارجية البريطانية للإحتجاج على مواقف الحكومة البريطانية وصحافتها في فضحها النظام العراقي الفاشي على ما أرتكبته أياديه من الإجرام بحق الشعب الكردي وإستعمال الغازات السامة والمبيدات الكيمياوية ضد أبنائه من المدنيين العزل . هذا على المستوى الرسمي ، أما على المستوى الثقافي وموقف المثقف العربي من تلك المأسآة فكان الصمت حاكماً مطلقاً بإستثناء أقلية ثقافية أشرت لها آنفاً ، ولا مجال هنا للحديث عن الموقف الشعبي وقوى الشارع التي تعيش في أوكار أنتي – أمريكانية والصور التراجيدية التي تصنعها قوى الإكراه الإسرائيلية على جسد الفلسطينيين . والإشكالية المستعصية في رأي الشارع في العالم العربي هي تعاطيه مع الإرهاب الداخلي ومظاهر العسكرة الوطنية التي تحولت إلى قوى فاشية بعد سيطرتها على مقاليد الحكم كأمر روتيني يومي ، أي أن الذات الصانعة للتاريخ تأقلمت مع العنف والإستبداد ولا ترى في الشموليات القومية خطراً على حياتها .
ضمن هذا السياق العام تركز ميكانيزمات العنف ومصادره في اللاوعي الجمعي للنخب العربية السياسية والثقافية ، حاولت الأقلية الثقافية ورموزها كسر الصمت وأدانة إحتفالات الموت في العراق وجبال كردستان ونذكر هنا إسم أدونيس وحازم صاغية وعباس بيضون وإلياس خوري و وضاح شرارة وحسن داوود . لكن طغيان " الغالبيات " اليسارية والقومية والإسلامية التي لم تر من كردستان الاّ إسرائيل ثانية ، بقي في دائرة إتصال وثيق مع تلك المفاهيم التي أنتجها البعث حول الكرد وإمكانية التخلص من إرتسام وجوده على تاريخ المنطقة .ففي وقت يؤسس كاتب ومثقف مثل"حازم صاغية" فضاء ذاتي لقراءة كل خبر يتعلق بالكرد والأمازيغ والعرب الشيعة ومن ثم الكتابة فيه وتحويله إلى فضاء أوسع كي يشمل الجميع لممارسة قول شيء لم يقله المثقف العربي ، يحاول " المثقف الأكثروي " الإختباء وراء الأصالة واليسارالوطني والقومي الإجتماعي والقومي الإشتراكي الخ.. من التسمية واستراتيجياتها في الثقافة العربية.
أنتقد الشاعر عباس بيضون العقلية العربية وإزدواجيتها مع الأشياء في سياق مقال كتبه في جريدة السفير أثناء إلقاء القبض على رئيس حزب العمال الكردستاني عام 1999. وتطرق بيضون الى إزدواجية هذه العقلية عندما تصمت أمام كارثة الأنفال وحلبجة وتصرخ ضد تركيا وقمعها للأكراد . ولا تختلف هذه الإزدواجية برأيه عن إزدواجية السياسة الأمريكية في مساندتها للكرد في كرستان العراق وإعتبارها نضال الكرد في كردستان تركيا إرهاباً. ثم أنها عقلية كانت تقيس المواقف وفق الصراع العربي – الإسرائيلي من جانب والتحالفات الإسرائيلية التركية من جانب آخر.
وبإمكاننا القول أن كتابات هذه الأقلية الثقافية رغم أنها جاءت متأخرة كما يقول عباس بيضون في أكثر من كتابة نقدية للذات، لكنها تشكل موقفاً أخلاقياً وإنسانياً ويمكن إعتبارها " ندرة " في زمن التخاذل الثقافي أمام منتوجات العنف القومي. في مقال بعنوان " شقيقنا الكردي " في عدد جريدة السفير يوم 3/ مارس /2000 كتب بيضون ( شقيقنا الكردي تركناه طعمة للغاز الخانق والمدافن الجماعية للأحياء والصخور القاتلة. وحين سألني كردي كيف لي أن أهتم بثقافات بعيدة ولا ألقي نظرة على ثقافة الجوار. وجدت ما قاله حقاً لكنني لم أقل له انني رأيت صور حلبجة ايضاً في مجلات أجنبية وعلمت بخطة الأنفال من كتاب مترجم عن الأنكليزية.ولم أقل له إنني ام أكن في يوم مع إضطهاد الأكراد لكني لم أعرف في المنطقة جماعة أو شعباً أو شخصاً غير مضطهد.لم أقل له إننا ننسل كثيراً هنا لفرط ما نكره الحياة. ننسل كثيراً لكي لا نتألم لموت الأطفال . وأننا لا نفكر بأن موت الأطفال مختنقين بالغاز يهز العرش حقاً. إذا لم يوضع الله مجدداً على الصليب ). " تركناه طعمة للغاز " لا تعني هذه الجملة الاّ الصمت الذي يقتضي إعتذارالمثقف العربي ليس لشقيقه الكردي فحسب بل لكل أشقائه ولذاته أيضا. لأن المنطقة إمتلأت بالإضطهاد والقهر ضد الجميع ومن قبل الجميع وليس هناك " عوام لاتينو " يحكموننا. بل هناك "عوامٍ" جاءوا من مستنقعات محلية مع تماثيل ضخمة وجاهزة للتخويف وصناعة مجتمع الرخويات الثقافي. لقد فقدت الثقافة عظامها وتحولت إلى كائن رخوي لا يستطيع مقاومة أي قدم يدهسها في أي زمن وفي مكان محدد .
بالعودة إلى إحتياجنا لبداية قاسية للحديث عن المثقف العربي والموقف من كل تلك المآسي التي تم ذكرها في سياق هذا الكتاب، نرى أن كتاب كنعان مكية "القسوة والصمت" الذي عرّف الأنفال بالنخبة العربية،هو أقسى "بدايات" ممكنة ومُتَخيلة بين محاكاة قسوة الدولة العربية التوتاليتارية وبين تجريب فكري لممارسة الصمت عند المثقفين الأغلبيين.
لا يحمل كتاب "القسوة والصمت" الاّ جزأً قليلاً من الأنفال،لكنه أدى إلى خلق سجال عنيف في الأوساط الثقافية والفكرية العربية وشاركت فيه أسماء كثيرة للمفكرين والكتاب والصحافيين العرب . والغريب في ذلك السجال القاسي الذي جاء كملحق عربي للمأساة العراقية وسط حديقة البعث المُقَلَمَة هو إختفاء الثيمة الأساسية التي هي "الأنفال وحملات الإبادة الجماعية" لكل قصة تم سردها في سياق التسمية والتخوين،وإحالة متنها الى "حزازيات" فردية وشخصية بين المساجلين. ففي مقال نشره أدوارد سعيد في جريدة "الحياة" بتاريخ 3/12/2002 بعنوان "معلومات مضللة عن العراق" شكك في جميع تلك المعلومات والوثائق التي نشرها كنعان مكية عن الأنفال والجينوسيد في العراق،وأتهمه بالعمل لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وتقديم معلومات مضللة لإدارة جورج بوش الإبن،عن بلدعربي.وشارك في ذلك السجال الإتهامي مجموعة من الكتاب والصحفيين العرب في الصحيفة ذاتها وعلى منابر أُخرى ولم يتورع البعض بإطلاق صفات عمالة مكية لوكالة المخابرات الأمريكية والـموساد الإسرائيلي.ولا نبالغ إذا قلنا أن المثقفين العرب بذلوا جهداً كبيراً لتسخيف كتاب مكية وإخراجه عن دائرة الضوء،كي لا تبقى فضيحة الصمت أمام آلة الدولة للموت في مدار البحث والتحقيق .
لم يدافع أدوارد سعيد عن نظام صدام حسين،لكن إدانته له في الصحافة العربية حصراً لم يكن كافياً،ففي مقالاته الكثيرة التي نشرتها لوموند ديبلوماتيك الفرنسية كان يغرق في سرد تاريخ أمريكا الأسود ويتجنب بذلك الحديث عن جرائم نظام البعث وأهوائه في القتل.ومن حقنا اليوم أن نسأله ولو كان في قبره، لماذا السكوت عن حلبجة وإعتبار كارثة قصفها بالأسلحة الكيمياوية صنيعة إيرانية وإبعاد صورة البعث عنها،إذ كتب بتاريخ 7 3 1991 قائلاً :(لأكثر من مرة تم التأكيد على أن النظام العراقي أستخدم الأسلحة الكيمياوية ضد مواطنيه.ولكن في أحسن الأحوال فإن هذه المسألة موضع الشك.وعندما كان العراق حليفاً لأمريكا تحدث تقرير لكلية الحرب عن إستخدام إيران للأسلحة الكيمياوية ضد الأكراد في حلبجة.ولا يتحدث عن هذا التقرير في وسائل الإعلام إلاّ أناس قليلون ).
لماذا إعتبار "القسوة والصمت" معلومات مضللة عن العراق أليست هناك طريقة أُخرى لمحاربة كنعان مكية إلاّ من خلال دحض تلك الوثائق التي تثبت الأنفال وفاشية البعث ؟
يقول الشاعر والناقد العراقي فوزي كريم في مقال بعنوان "عن أدوارد سعيد ومكية،وإستغاثة القتيل:(إن أدوارد سعيد يحاول جاهداً أن يعالج أزمة العراق مع أطماع الإمبريالية الأمريكية.ويتأمل معالجة كنعان مكية من هذه الزاوية فيأخذه الغيظ،لأن الأخير لا يكاد يرى إلاّ أزمة العراقيين في مسلخ نظام صدام حسين،إلاّ جثث القتلى وخراب القرى والمدن المهجورة. لأن الأخير أجل عداواته الى حين.أجل عداواته في حربه القومية وحربه الأُممية والإنسانية إلى حين، وتفرغ لا للحرب مع صدام حسين، بل للإستغاثة والنجدة. إنه لم يعد يملك حتى طاقة المقاومة السلبية في الصمت وتجرع الأذى والضيم )
ولا يتورع الكاتب نفسه في مقال آخر بعنوان " أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي " بتشبيه علاقة المثقف العربي مع نظام البعث بعلاقة الفيلسوف الألماني " مارتن هايدغر " مع النازية :(إن هايدكر الفيلسوف الالماني الكبير،اندفع باتجاه النازية وعانق افكاره بحماس، ولم يعد، حتي آخر حياته آسفاً او شاعراً بالذنب، وهو يعبر ملايين الجثث، التي قتلت بأسلحة الافكار. لسبب قد يبدو هيناً بسيطاً في عين احدنا،هوأن هذا الفيلسوف، شأن كثيرين لم يُلحق بعالم افكاره المتألقة المثالبة معرفة كافية بالحياة العامة. حتي اصبحت تلك الافكار المتألقة غائمة بفعل المشاعر الشخصية الملتهبة، وبفعل الجهل بالكائنات الانسانية. واي اضاءة لهذه العتمة لا تتم إلا بترويض هذه المشاعر الجامحة). والمثقف العربي لم ير من الفانتازيا الصدامية سوى نموذج حلم بسماركي للعرب وتماه ساذج مع جميع تلك البطولات الداخلية التي صنعها من خلال تصغير الجميع أمام تماثيلها العملاقة. عندما سقط الطاغية و تعبت التماثيل من عدها ورؤية الدبابات لإلتقامها وجرّها في الشوارع و زهق الأطفال من تعذيبها ، ظهور المقابر الجماعية ، أرامل الأنفال، بعد كل هذا ، لم يتردد المثقف العربي من فعل تحويل قسري لكل تلك الصور التذكارية الأليمة في مزرعة البعث إلى مقولات شمولية مثل " كل البلدان العربية لديها مقابرها الجماعية وسجونها فلماذا الحديث عن العراق فقط". ولم تحرّك المقابر الجماعية بالتالي ضمير المثقف العربي كما حرّكته أوهام يومية أطلقها وزير كذاب – محمد سعيد الصحاف ضمناً – لم ير في سقوط بغداد ما رآه المثقفون العرب .
تكمن في سياق هذه الإشكالية الأخلاقية، " هايدغرية عربية " تصيب المثقف وتضعه خلف تاريخ الوجدان القمعي المهيمن على المصادر " الجوّانية " لمفهوم الإنسان المركز. وتبقى العلاقة المتصلبة بين بيروقراطية الدولة الشمولية وبين ثقافة تكرّست لتأسيس نظريات المؤامرة،عبارة عن جداريات زجاجية تنعكس فيها صور الكاريزما وملازمات الهروب من الحرية معاً .



#خالد_سليمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليلة دفنوا الأكراد...إعترافات حفّار
- مقبرة الفوانيس لشيركو بيكه س : عندما تشترط المأساة على اللغة ...
- بورتريه خلفي لمدينة مونتريال...العالم الثالث الكندي الذي لاي ...
- فرهاد شاكلي :خرج من كردستان غاضباً من المؤتلف الشعري واسترد ...
- أي أدب يُصور الكارثة ...آسيا بطلاً جغرافياً لحزن مطلق
- التقليم المُراد في الثقافة - الاخوانية - ومبدأ تخوين الشيعة
- المثقف الكردي ... الموقف من الذات أولاً
- الهروب من الحرية
- الأنفال …مصيرالانسان في يوميات القتل البعثي وإحتفالات الكتما ...
- بورتريه تركي في حرب الكوة الصغيرة في العراق
- أدب كردي جديد يظهر في العراق


المزيد.....




- تصويت تاريخي: 172 دولة تدعم حق الفلسطينيين في تقرير المصير
- الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد قرارا روسيا بشأن مكافحة ت ...
- أثار غضبا في مصر.. أكاديمية تابعة للجامعة العربية تعلق على ر ...
- السويد تعد مشروعا يشدد القيود على طالبي اللجوء
- الأمم المتحدة:-إسرائيل-لا تزال ترفض جهود توصيل المساعدات لشم ...
- المغرب وتونس والجزائر تصوت على وقف تنفيذ عقوبة الإعدام وليبي ...
- عراقجي يبحث مع ممثل امين عام الامم المتحدة محمد الحسان اوضاع ...
- مفوضية اللاجئين: من المتوقع عودة مليون سوري إلى بلادهم في ال ...
- مندوب ايران بالامم المتحدة: مستقبل سوريا يقرره الشعب السوري ...
- مندوب ايران بالامم المتحدة: نطالب بانهاء الاحتلال للاراضي ال ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - خالد سليمان - لماذا لا يصدّق المثقفون العرب ماساة الجارالكردي؟