حسام كصاي
الحوار المتمدن-العدد: 4552 - 2014 / 8 / 23 - 10:30
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
هناك فرقاً فجاً حول موضوع الديمقراطية بين الواقع والخيال, بين الفعل والقول, بين الفكر والممارسة, الذي حقق الإنقسام على ذاته وأحدث شرخاً واسعاً في الفكر العربي المعاصر, وفي المجتمعات التي جزئت المجتمع العربي إلى طائفتين متخاصمتين, وما زالت الديمقراطية لم تبلغ الكمال والجمال حتى في بلدها الأم أثينا, أو في المجتمعات التي بلغت فيها الدول ذروة التحديث ومرام النهضة والحدّاثة والتطور على شتى الأصعدة, .. بل وكيف تحوّلت الديمقراطية, كسيّاق تاريخي من مفهوم يسعى لتحقيق رفاهية الشعب والأمة إلى مفهوم يَطمْح إلى تحقيق أجندات النخب الحاكمة, وإن تطلب ذلك المروق بالديمقراطية والتحايل عليها والتجاوز على قيمها وثوابتها, أو بالأحرى إلباس التسلط والإستبداد زّي الديمقراطية وهنا تكمن أكذوبتها وزيّفها وهزالتّها.
فلم تعد الديمقراطية تشير لمعنى حكم الشعب بواسطة الشعب, بمعنى لم يبقى هناك _ خصوصاً في الدول التي تشهد إنزياح كبير نحو التفرّد بالسلطة وبروز حكومات الطوائف وغياب التعددية الدينية والسياسية (الحزبية) _ ديمقراطية لينكولينيه, وإن ما عاشت الأمم والشعوب هو مجرد ديمقراطيات فاشية أو نازية وشوفينية, او لينينيه او ستالينيه, هذا إذا أرتقت للفهم الديمقراطية, ومما لا شك فيه إن هذه الفاشية الديمقراطية الإمبراطورية هي لا تساوي القمع والإستبداد, بل إنها أنكى وأخطر من الإستبداد ذاته, لأنها تلقي الحجة على الأخرين بأعتبارهم مستبدين, ثم يُعامل معها على إنها ديمقراطية فعلية.
ففي العالم العربي جُل ما تشهد النظم السياسية وتنغم منافعة هو الديمقراطية من النوع الثاني (الديمقراطية الإمبراطورية) أو (الديمقراطية الفاشية), لأنها ديمقراطية لم تأتي بطريقة حقيقية ناجحة ونابعة من واقع عربي, بل جُل الديمقراطيات العربية اليوم هي إما جاءت كنتاج لسياسات الإستعمار على أجنحة الطائرات الإستعمارية, أو جاءت كمخرج ومآل لأفول حربٍ اهلية وصراعات طائفية داخلية, لم يغب دور الأستعمار الخارجي في التعاطي والتعامل معها.
أي بمعنى إنها ديمقراطيات تأتت بطريقة تغذّية عكسية, لم تتهيأ الأرضية المناسبة لها ولا المناخ اللائق بها, مما تحوّلت إلى صدمْة ونكسة لم يفلح العرب برسم خارطة طريق للإنتقال إليها, وهو ما عزز موقف التسلط والإستبداد والقمع, .. وسد أفاق التحوّل إلى الديمقراطية أو بالأحرى زاد من صعوبتها من خلال وضع العقبات والعراقيل الموضوعية والمادية والمعنوية (السايكولوجية) لتأكيد الممانعة العربية للديمقراطية.
وهذه الممانعة حولت الديمقراطية لأن تكون مجرد مسرحية يقوم بها مدربي ولاعبي السيرك وقراقيش الهزل والضحك على الجمهور لإسعادهم وتمتعهم بالمشاهد الساخرة حد السذاجة, .. من خلال التستر والتنكر بالأقنعة والتبرج بمواد التجميل والأصباغ للظهور إلى جمهور الأمة مظهر الساخر والضاحك على الذقون, وهذا هو جوهر الديمقراطية العربية اليوم, التي تمارس ابشع انواع الضحك على الذقون والهزو والإستخفاف بالعقل العربي, فلا يُناسب وصف الديمقراطيات العربية أكثر من وصف المسرحيّة التي تأخذ الجانب الشكلي وتعتني به مع تغييب شُبه تام للجوهر والمضمون, وتلك هي رثاثتّها وهي تنبثق للشارع العربي تارهٍ.
إذ تتعرض الديمقراطية التوافقية في العراق إلى إنتكاسات صارت شبه يومية تحدث بإستمرار وتحقيب زمني متواصل منذ العام 2003 حتى اللحظة, من تسييس القضاء والدين, .. إلى غياب مفهوم فعلي للمواطنة, .. إلى تداول عنفي للسلطة (!!) ملفق بغطاء ديني "ثقرطي", باسم البطش والقوة واستعمال رأسمال نظام الحكم .. إلى غياب المساواة في توزيع المناصب والثروات, أي تغييب مفهوم العدالة الإجتماعية, .. وإقصاء الرأي وانتهاك حقوق الإنسان والحريات العامة, وأهمها حرية التّعبد, ومسلسل مشاهد إنتهاك وإنتكاس الديمقراطية كثيرة ومتعددة, لم تنتهي بالطبخة غير الديمقراطية لحل إشكالية المناصب الرئاسية, او حسم الصراع على الميدان أمام خطر تنامي الجماعات المسلحة والأكثر تشدداً, أو ترسيخ أنموذج مواطني يصفر إشكالية الطائفية تمهيدياً, كلها إخفاقات كان سببها هو فشل أستنبات الديمقراطية الفعلية "اللينكولينيه" وتشكيل ديمقراطية توافقية شكلية مفرغة (فاشية) من جوهر الديمقراطية الأم, تعمْل خلف الكواليس لإعداد الطبخة السياسية خارج الآليات والسيّاقات الديمقراطية الفعلية, وكُل ممارسات السلطة والعمل السياسي كانت أكثر أيديولوجية مما هي ديمقراطية, بمعنى جعل الديمقراطية وتفاعلاتها مجرد تأمين رغبات ومصالح الأحزاب ليس إلا, وهذه هي شكلانية الديمقراطية التي تم تجويفها من محتواها الأمر الذي أسس لإضطهاد الديمقراطية وإفراغها من قيمها, فلا مبدأ مواطنة فعلية هناك, ولا تداول سلمي للسلطة, ولا أحترام لحقوق الإنسان ولا تعددية حزبية, ولا عدالة أجتماعية الأمر الذي تحولت فيه الديمقراطية في العراق إلى مشكلة وعقبة وعائق أمام نهضة وتنمية المجتمع, بالوقت الذي كنا نأمل ان تكون ديمقراطية حل ومخرج سياسي, الشيء الذي أشاع حالة من الفوضى والخراب والدمار والفوضى الخلاقة وترشيح البلاد لمشروع برنارد لويس التقسيمي لثلاث دويلات مبنية على أسس طائفية ومناطقية وعرقية متناحرة ومتصارعة, .. أقليماً سُنياً وأخر شيعياً تأسياً بأقليم كردستان, بإعتباره حل إضطرارياً لكنه صار مطلباً هاماً نتيجة لظروف وضرورات فرضها الواقع المعاش ومعطيات السياسة الداخلية المحلية.
فلا مناص من هذا المأزق إلا بالتعجيل لهيكلة الديمقراطية التوافقية التي تناغمت حسياً وعاطفياً مع أدبيات الطائفية والصراع الإثني على النفوذ والموارد والثروة في البلاد, والسعي من أجل تحوّل ديمقراطي حقيقي يشتمل على تهيئة الأرضية والمناخ المناسب له, وإرساء دعائم الديمقراطية الفعلية وأستبدال أدوات السلطة الإستبدادية بآليات عمل وطني مشترك يشارك فيه الجميع دون تمييز او عنصرية, ينطلق باسم المشروع الوطني الديمقراطي الحضاري ضد الطائفية وحيثياتها, وهذا كفيل بحل كل الإشكاليات التي تجذرت في الثقافة المحلية, وخروج البلاد من نفق الإستبداد وتخليصها من قيم التسلط والإنتكاس للرجعية والتخْلف إلى التطلع إلى رحابة الحداثة ومواكبة العصر والحياة المدنية.
ففي عالمٍ يسوده الصعود الديني عن طريق حركاته الحزبية وبروز ظاهرة الإنبعاث السياسي للإسلام اليوم, بما هو إسلام سياسي وحزبي, فإن مصير الديمقراطية في أسوى حالاته المرضية, وإن مستقبلها مهدداً بالإنقراض مقابل تنامي حالة من المد التسلطي والإستبدادي الذي يعتاش على رأسمال الطائفية ومشتقاتها من فتنة وحرب اهلية وتمييز وفوضى خلاقة, وهنا تتحقق إنتكاسة الديمقراطية إن لم تعالج ذلك الإنبعاث للحركات الإسلامية ودمجها في المجتمع العربي وإقناعها بضرورة المشاركة السياسية والإيمان بقواعد اللعبة, والتمسك بالديمقراطية كخيار ديني وقومي وانساني واخلاقي, كون الديمقراطية هي الوحيدة القادرة على الحفاظ على القيم الدينية وصون العقيدة وسلامتها وقداستها لكل فرد في مجتمع تعددي فسيفسائي, كدولة العراق.
#حسام_كصاي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟