|
الإنسانيّة هي كل ما نحتاج إليه
كلكامش نبيل
الحوار المتمدن-العدد: 4547 - 2014 / 8 / 18 - 08:07
المحور:
حقوق الانسان
قد يتساءل أحدنا عن سبب ما نحن فيه اليوم، عن سبب هذا الحال المزري، عن هذه الفرقة والضعف والضياع، ويقف حائرا، عاجزا يبحث عن الحلول، أو ما يمكنه أن يفعله ليوقف كلّ هذه الأنهار المختلطة من دماء ودموع، عمّا يمكنه أن يقدّمه ليوقف هذه الفوضى ورحى الحرب التي تطحن الجميع بلا رحمة وبقسوة قلّ نظيرها، أو كنّا نعتقد بأنّها قد إنقرضت منذ أن غادرتنا القرون الوسطى وأنهى العالم آخر فصول الحربين الكونيّتين.
إنّ ما يجري اليوم إقتران للمأساة والمهزلة في شكل جديد قديم، شكل يثير الأسى والغثيان في الوقت ذاته، هو جديد لأنّ الإنسان بطبعه لا يمكن ان يشعر بمأساة الآخرين – إلاّ ما ندر – حتّى تصيبه ذات النار، فهو شكل جديد في بقعة ما من بقاع الأرض ولكنّه أزليّ بالنسبة لمجمل العالم، لكأنّ الحروب والأحزان تأبى إلاّ أن تقترن بمصير البشر، كجزء من صيرورة تاريخهم المجنون. لربّما كنتم تسخرون من الحروب الاهليّة في رواندا، وتقولون بأنّها بلد متخلّف؟ لربّما لم نكن نأبه للحرب الأهليّة في لبنان أو جنوب السودان؟ كما إنّنا كنّأ ندير القنوات بسرعة عندما نسمع عن تلك الحروب الطاحنة في أفغانستان، الهند وباكستان، يوغسلافيا السابقة، حرب فيتنام، والحرب المنسيّة الآن في شرق الكونغو الديمقراطيّة، وعشرات الحروب والكوارث التي لا نسمع عنها شيئا في أميركا اللاتينيّة. لم نكن نعتقد يوما بأنّ سوريا ستكون بؤرة صراع مماثل، ولم نتخيّل لوهلة أن نرى مأساة أكثر من مليون عراقي مهجّر في القرن الحادي والعشرين. ربّما ينزعج البعض الآن من متابعة أخبارنا، ويسارع في تغيّير القناة، ففي النهاية هنالك عشرات القنوات التي تبثّ الأفلام المسليّة، ولا بأس ببعض المسرحيّات أو قنوات الأغاني، "لم أهتمّ وأؤرّق حياتي بكل هذه المآسي التي لا نهاية لها؟" قد يقول أحد المواطنين في بلد مستقرّ ينعم بالسلام، وقد يذرف آخر بضع دمعات بعد أن يحزن لمشهد ما على قناة إخباريّة، ثم ما يلبث أن ينساه بعد قليل. في كل هذه الدول التي ذكرتها وعشرات غيرها ممّا فاتني ذكره، كان ولا يزال هنالك ثمّة أناس مسالمون، عقلاء، يحلمون، يحبّون ويرغبون في أن يعيشوا في سلام، لكنّ جنون ساستهم أو بربريّة عقائد سائدة في أرضهم أفسدت عليهم حياتهم. لطالما تصوّرت الإنسان حكاية ستنتهي يوما ما، حكاية لا يحقّ لأحد أن ينهيها قبل الأوان، فما الحياة إلاّ فرصة وحيدة لهذا الإنسان، وهي فرصة قصيرة بذاتها وقد تتخلّها الكثير من المعاناة والإنكسارات وقليل من الأفراح والمسرّات، فكيف لشخص ما أن يسرق هذه الفرصة وينهي هذه الحكاية بضغطة على الزناد أو سكّينة عمياء تجزّ الرقاب بما أنّنا نعيش في القرون الوسطى الجديدة؟
إنّ كل ما يشهده العالم اليوم هو بسبب السياسة المجرّدة من الأخلاق، والعقائد البالية المليئة بالخرافات والتي تريد إنهاء العالم، ثقافات موت تتوق للنهاية بدل أن تستمتع بجمال الحياة وديمومتها، بالإضافة إلى أنانيّة متجذّرة فينا تمنعنا من أن نشعر بآلام الآخرين حتّى تطالنا النار. بإيجاز إنّنا ندفع ثمن إنحسار الإنسانيّة فينا، لا أعرف إن كانت هي الإسم الجدير للتعبير عن المشاعر الطيّبة المتحضّرة التي نقصدها عندما ننطق بإسم الإنسانيّة العظيم، خصوصا وأنّ هذه المشاعر موجودة لدى الحيوانات أيضا، ويفتقد إليها كثير من البشر في يومنا هذا، ليصدق ما قاله الأديب اللبناني الكبير ميخائيل نعيمة "ما أكثر الناس وما أندر الإنسان!"، لقد قالها في أوائل القرن الماضي، فماذا تراه سيقول لو أنّه أبصر فضائع عصرنا الحالي؟ لكنّ التاريخ يقول بأنّ الإنسان لم يبلغ بعد درجة التحضّر التي نتوهّمها أحيانا، فقد أفتتح القرن الماضي بمجازر الأرمن والآشوريّين والسريان واليونانيّين في جنوب تركيا، وإنتصف القرن بهولوكوست رهيب طال اليهود والغجر والشيوعيّين والروس والبولنديّين والمعاقين والمثليّين وغيرهم الكثير، ومجازر الجزائر وفيتنام وغيرها. لطالما كانت تلك الحملات المجنونة بدوافع دينيّة أو عرقيّة أو أيديولوجيّة، تحرّكها المصالح السياسيّة والإقتصاديّة في الخفاء، فما الحرب إلاّ لحظات من الجنون الجمعي تصيب الشعوب وتجرّدهم من إنسانيّتهم.
ما المطلوب منّا اليوم؟
المطلوب أن نبقي الإنسان في داخلنا حيّا، ألاّ نتحوّل إلى مجرمين، أن ندرك بأنّ ألم الطفل هو ذاته في كلّ مكان، أنّ خوفه هو ذاته في العراق وسوريا وإسرائيل وغزّة والكونغو، لا فرق بينهم جميعا، فلا يؤثّر العرق ولا اللون ولا الدين ولا الإسم على تلك المشاعر الإنسانيّة، أن تدركوا بأنّ الموت واحد، والدم واحد ولونه أحمر حيثما ذهبنا، وأنّ مشاعر الخوف والقلق والفقدان والأسى الحقيقيّة تدقّ بذات العنف في نفوس هؤلاء المتألّمين. أن تعرفوا بأنّ حزن طفل مثابر يخشى فقدان مستقبله وإشتياقه لفصله الدراسي هو ذاته في سهل نينوى وسنجار وتكريت والأنبار وتلّعفر، أنّ جوع الأطفال في آمرلي المحاصرة هو ذاته جوعهم في أي مخيّم نازحين في العراق أو بقيّة أنحاء العالم. المطلوب أن نتجرّد من كلّ شيء إلاّ إنسانيّتنا، فهي الشمس التي ترشدنا إلى الحقيقة، حقيقة أنّنا واحد لا يتجزّأ. نريد منكم أن تدينوا بحق ما يرتكب من فضائع ضدّ أبناء شعبنا من الأيزيديّين في سنجار، من خطف وذبح وتهجير وتجويع وإكراه على تغيّير المعتقد، أن تدينوا بحق الجرائم الشبيهة بالنازيّة في تهجير المسيحيّين من الموصل وسهل نينوى التاريخي وسلبهم كل ما يملكون والإستيلاء على منازلهم وأدويتهم وأموالهم وإغتصاب كنائسهم، نريد منكم أن تدينوا ما حصل في تلّعفر من قتل وتشريد للسكان، وما يحصل في آمرلي وجلولاء وبشير، وتدينون أيضا تهجير مئات الآلاف من العوائل الآمنة من تكريت ومدن الأنبار وغيرها، وقتل الأبرياء ممّن أضحوا أسرى لدى تنظيمات إرهابيّة لا تعرف الرحمة بسبب قصفهم معهم أو تفخيخ الإرهابيين لمنازلهم، أو ترويع للسكّان الآمنين في بغداد. لا تفقدوا إنسانيّتكم بأن تتعنصروا لجهة دون أخرى، فما أن نذكر جريمة ضد أناس أبرياء حتّى ينبري لنا من يقول ولماذا لا تتكلّمون عن الآخرين؟ إنّ هذا السؤال بحدّ ذاته يثير الإستغراب، لكأنّه موافقة ضمنيّة على جرائم الفئة التي ينتمي إليها وعتاب وإتّهام للآخر وكأنّه يوافق على جرائم أخرى. لتعلموا بأنّ من يدين جريمة لدوافع إنسانيّة يدين كل الجرائم الأخرى لذات السبب، هم وحدهم العنصريّون الذين يقلّلون من ألم الإنسان لأنّهم يرتكبون جرائم بحق الآخر فتعميهم دماء ضحاياهم عن رؤية ما يرتكبون من فضائع.
الإنساني الحقيقي اليوم ينظر إلى الجميع بذات العين، يتعاطف مع الجميع، يساندهم بما يقدر أن يفعله، يدين تلك الفضائع ويعرّيها أمام الرأي العام الدولي الذي يلتزم الصمت المخجل أزاء كل ما يحصل من إنتهاكات لحقوق الإنسان، أمّا العنصريّين فهم يرفضون حتّى أن يدينوا بل ويبرّرون جرائمهم بوجود جرائم أخرى حدثت عبر التاريخ أو تحدث اليوم ضدّ جهات أخرى، وهنا تتجسّد قمّة الإنحدار الإنساني والأخلاقي بأن تبرّر الجريمة، لأنّ هذه الفئة الأخيرة فقدت إنسانيّتها لأقصى حد، لدرجة لم تعتد تنتمي إلاّ لفئتها الضيّقة، وغاب عنها شعورها الإنساني. وهنا نتذكّر قول الأديب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو "لسنا ننشد عالما لا يُقتل فيه أحد، بل عالما لا يمكن فيه تبرير القتل."
نريد اليوم أن يساند الأبرياء بعضهم بعضا، أن يتّحدوا ويدحروا الاشرار، لا بدّ وأنّ الأخيار هم الأغلبيّة، ولكنّ بربريّة الشر وتفرّق الأخيار تجعل الاوّل ينتصر. نريد من الجميع ترك التعميمات على فئات بالكامل، لأنّ في كل فئة من هو خيّر، وهذا الخيّر لا بدّ أن نكسبه إلى جانبنا، لا نحكم عليه بأنّه شرّير فيشعر بالعزلة وينضم للأشرار في النهاية، لا بدّ أن نشعره بأنّنا معه، نساده ونشعر بآلامه، ولا نتركه ليغرق في مشاعر النبذ والترك، الطيّبون في كل فئة بحاجة للدعم قبل أن يضلّوا هم أيضا، لنبحث عن الشاة الضائعة ونعيدها إلى القطيع، والمحبّة والتعاطف وإن بكلمة صادقة نقيّة لكفيلة بأن تذيب الجليد وتلين الحديد.
لنتذكّر بأنّنا كلنا أبناء الإنسانيّة وأبناء هذه الأرض وسنبقى معا لنواصل الحياة عليها، لا تقسّموا الإنسان بتقسيمكم لألمه، مواقف طيّبة مع كل المتألّمين على هذه الأرض كفيلة بأن تعيد لنا السلام الذي فقدناه، ولنتذكّر هنا قول الأم تريزا "إذا ما فقدنا السلام، فذلك بسبب نسياننا بأنّنا ننتمي لبعضنا البعض" وهذا تماما ما نمرّ به يا أبناء العراق، فكّروا معا في ما يجمعنا، ستجدون بأنّه أكثر ممّأ يفرّقنا، فكّروا معا في مئات السنين التي قضيناها معا، ستجدون بأنّه بالإمكان المواصلة على هذا النحو إلى الأبد، فكّروا في تكاليف الحرب الباهضة، وقارنوها بالسلام الذي لن يكلّفكم شيئا ولكنّهم سيعطيكم كلّ شيء. فكرّوا معا كعراقيّين فقط وكأناس فقط.
#كلكامش_نبيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أن تناقش حقّ الحياة والحريّة في القرن الحادي والعشرين
-
كان هنالك شرق - قصيدة
-
مجتمع المظاهر وسقوط المثاليّة - قراءة في مسرحيّة الزوج المثا
...
-
إغفر يا قلب لهم - قصيدة
-
جنازة السلام - قصّة قصيرة
-
سِفر الأحزان - قصيدة
-
النقاشات البيزنطيّة تعود بحلّة إسلاميّة
-
عندما أضعنا البوصلة - قصيدة
-
ثورات منسيّة – قراءة في رواية -البشموري- للكاتبة المصرية سلو
...
-
بناء وطن للجميع - قراءة في كتاب العقد الإجتماعي للفيلسوف جان
...
-
قوس قزح
-
إنه العراق يا قوم – لا تحرقوه لأجل الآخرين
-
مستقبل الوطن رهن ورقة إنتخاب – لننقذ العراق
-
لمحات إنسانيّة – قراءة في المجموعة القصصيّة -في خضمّ المصائب
...
-
ما بين سراب الماضي الجميل ودخّان فوضى الحاضر – قراءة في رواي
...
-
بقايا صبي سيبيري عمرها 24 ألف عام تلقي المزيد من الضوء على أ
...
-
وحدة الشعب العراقي وفقا للدراسات الجينيّة – ترجمة وتقديم
-
الإنسان المنتصب؟ العثور على عظمة شبيهة بعظام يد الإنسان عمره
...
-
دراسة حديثة لبقايا بشريّة تخلُص إلى أنّ إنسان النياندرتال كا
...
-
إطلالة على الأدب الإيطالي - قراءة في المجموعة القصصيّة -حرز
...
المزيد.....
-
الجمعية العامة للأمم المتحدة تصوت لصالح قرار يطالب بوقف إطلا
...
-
الجمعية العامة للأمم المتحدة تتبنى قرارا داعما للأونروا
-
الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد قراراً يدعو لوقف إطلاق نا
...
-
الأمم المتحدة تعتمد مشروعي قرارين لوقف إطلاق النار بقطاع غزة
...
-
الأمم المتحدة تتبنى قرارا بوقف إطلاق النار في غزة فورا
-
الجمعية العامة للأمم المتحدة تطالب بوقف إطلاق النار في غزة ب
...
-
المرصد السوري: نحو 105 آلاف شخص قتلوا تحت التعذيب بالسجون خل
...
-
تونس: المفوضية الأوروبية تعتزم وضع شروط صارمة لاحترام حقوق ا
...
-
وسط جثث مبتورة الأطراف ومقطوعة الرؤوس... سوريون يبحثون عن أق
...
-
مسئول بالأونروا: ظروف العمل في غزة مروعة.. ونعمل تحت ضغوط لا
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|