كمال التاغوتي
الحوار المتمدن-العدد: 4539 - 2014 / 8 / 10 - 19:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أقدم وسائل المواساة: المرتبة الأولى: يرى المرء في كل ضائقة أو كارثة تحل به شيئا يدفعه لجعل شخص آخر، أيًّا يكن، يعاني...المرتبة الثانية: يرى المرء في كل ضائقة أو كارثة عقابا له، أي تكفيرا عما اقترفت يداه ووسيلة للإفلات من السحر السيئ الذي قد يمارسه عليه انحياز حقيقي أو وهمي للقدر.
نيتشه: الفجر (الفقرة 16)
الإيمان بقوة مفارقة تدبّر شؤون الكون بعد خلقه وتمامه عبر قوانينَ ثابتةٍ لا يطور بها التبدّل إلا إذا توفرت شروط بعينها، ذلك هو عماد الذهنية الدينية في صلتها بالذات والأشياء معا. لا تخلو ديانة - حتى الوثنية ذات التعدد الوسائطي – من الاعتقاد في إله ذي حرية وقدرة مطلقتين تعفيانه من قيود الزمان والمكان المنغرسين في بنية الكائن الحائل الزائل بالضرورة. فإن يعتقدْ الموحّدون في إله واحد مستبد بالأمر كله دنيويا وأخرويا، يؤْمِنْ الوثنيون كذلك بهذا الإله لكنهم يعضدونه بآلهة وأنصاف آلهة لها وظيفة الوسيط بين الفاني المعرض للكون والفساد وبين المتعالي روحا مرفرفا خارج أسوار الوجود المتحيّز ضمن حدود لا يتجاوزها. هذا القاسم المشترك بسطه النص القرآني وهو يكافح المنافحين من الوثنيين بما لفظه: " وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱ-;-لسَّمَٰ-;-وَٰ-;-اتِ وَٱ-;-لأَرْضَ وَسَخَّرَ ٱ-;-لشَّمْسَ وَٱ-;-لْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱ-;-للَّهُ فَأَنَّىٰ-;- يُؤْفَكُونَ" [سورة العنكبوت الآية 61] ويعلق الرازي قائلا:
"نقول لما بين الله الأمر للمشرك مخاطباً معه ولم ينتفع به وأعرض عنه وخاطب المؤمن بقوله:
يا عبادي ٱ-;-لَّذِينَ ءامَنُواْ [العنبكوت: 56] وأتم الكلام معه ذكر معه ما يكون إرشاداً للمشرك بحيث يسمعه وهذا طريق في غاية الحسن، ... قال مع المؤمن العَجب منهم أنهم إن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ثم لا يؤمنون. (مفاتيح الغيب)
فالوثني – المشرك – على يقين من وجود الله وكون الموجودات الأخرى من إنشائه، لكنه رغم قناعته لا يقنع به بل يردفه بآلهة أخرى يعتقد في شفاعتها عنده فهي ضامن وجسر تواصل لا ينقطع، يُهرع إليها كلما حاق به مكروه أو رام تحقيق رغبة. لذلك كان تصفية هذه الوسائط من أولويات التوحيد عموما والإسلام على وجه الخصوص. وما كان إلحاحه على التنزيه – إذ الله يتعالى عن كل كائن، مرئي أو غير مرئي – من باب السعي إلى تجريد الاعتقاد والارتفاع به فوق مستوى الحسي المباشر. " فَاطِرُ ٱ-;-لسَّمَٰ-;-وَٰ-;-تِ وَٱ-;-لأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱ-;-لأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱ-;-لسَّمِيعُ ٱ-;-لْبَصِيرُ" (الشورى آية 11) لكن ما دشنه النص القرآني شهد ضروبا من التحوير بناء على التأويل المدجج أصاحبه بأدوات وجّهت الفهم ووسعت الهوة بين المسلم وبين النص. ولما كان التوجه العام ينحو صوب الركون إلى التبرير عموما: أقصد البحث عن مبرر غالبا ما يكون عُذرا، لقد قلبت العديد من المعادلات، واستعاد الجمهور الواسع طرقا في التعاطي مع الأحداث والمتغيرات منها ما يطال الفرد ومنها ما يطال المجموعة تجعل منها علامة على مشيئة المتعالي في تدبير كل صغيرة وكبيرة. فحتى العثرات اليومية العادية في واقع قائم أساسا على الصراع يرجعها العقائديون إلى تلك المشيئة. وعلى هذا السمت خبا نجم القوانين الطبيعية "الثابتة" لاسيما السببية. إن الذهنية السائدة ضمن نمط الإنتاج الرأسمالي الاحتكاري في طور انهياره محكومة بآلية الإحالة هذه، إذ ما من خطب يصيب أو نعمة تطيب إلا ويبحث لها الفرد الأعزل أمام شراسة النظام عن "تفسير" مفارق. ولولا ضيق الحيز لبسطت العديد من الأمثلة؛ لذلك أكتفي بالإشارة إلى تعليل استحال أيقونة أولئك الذين ينفرون من تحمّل مسؤولية أي أزمة عظُمت أو صغُرت، فالاختبار والانتقام زوج أثير لدى أغلبية المتدينين ويجتمع طرفا هذا الزوج في عبارة الابتلاء. ذلك أنهم يبررون تسلط الظالم والأوبئة والفاقة بل وأعراض الانحطاط القيمي وغيرها من وجوه التدمير الحسي والذهني والوجداني إما باختبار لقوة الإيمان إذا تعلق الأمر بمن يقاسمهم المعتقد نفسه ( فالتفرقة لا يحدها الانتماء إلى دين واحد، والمذهبية أشد وأعمق ) وإما بعقاب عاجل إذا تعلق بمن يختلف عنهم. يبتني على ذلك أن قلب المتدين الأسباب والنتائج، وصارت هذه موضع تلك، إذ لا يبرر تهافت الوعي وانحطاطه بسيطرة الرأسمالية الاحتكارية في طورها الاستهلاكي وما جندته من فيالق تسطح الفكر وتبلّد الوجدان، إنما يبرر التهافت على السلع بالتخلي عن تعاليم المعتقد فيه وإصابة "البصر والبصيرة" بعمى مقصود. ومثل ذلك مثل من يفسر ارتفاع درجة الحرارة في فصل الخريف بحاجة السفرجل والرمّان إليها وليس بتأقلم الثمرتين وتكيفهما مع بيئتهما. انقلاب المواضع هذا أدى في أغلب الأحيان إلى السَّكِينة والاطمئنان قد يبلغان درجة التواكل. والتواكل هاهنا ليس إلا التملص من تحمل المسؤولية، مسؤولية الفعل البشري وشرطه. وما التدمير المسطّر سلفا لصالح قوى استعمارية في جوهرها إلا وجه من وجوهه، إذ يعلن "المنفذون- الأدوات" أنهم إنما يحملون مشروع تطهير ويستدعون في ذلك، أحيانا عن وعي، قصة النبي نوح، وليس لديهم من مشروع – إن جازت تسميته بذلك – عدا البقاء على قيد الحياة والسير على ما يضعونه من صراط يرونه مستقيما لا عوج فيه. إن تجريد حِراك الإنسان على وجه الأرض وحركة الظواهر الطبيعية ذات القوانين الكونية من فعاليتها يؤول رأسا إلى العدمية، فسواء استند المرء إلى مشيئة الله المتعالي أو إلى خطيئة أوّلية أو إلى سوق يرخي بكلكله على تطور علاقات الإنتاج فيسقط الطبيعي على المصطنع والثابت على المتحول أو الارتهان إلى مرحلة نضج ثورية وانتظارها لهو التواكل عينه وغض البصر – حرجا أحيانا وجهلا أحيانا- عن مسؤولية الإنسان والسعي حثيثا نحو العطالة والعقم. ويمسي كل حراك يروم تغيير شروط الوجود الإنساني ضربا من اللعنة لا بد من التطهّر منها عبر القرابين البشرية على مذابح النمط المهيمن. يبدو إذن أن هذه التصورات العقائدية قد استوطنت عباراتها وأيقوناتها جل التيارات الفكرية والإيديولوجيات المتصارعة، فإذا كان الرأسمالي الليبرالي قد استبدل – وهذا ليس عاما – بالإله سوقا تقصم ظهر الضاربين في الأرض، فقد جعل الرأسمالي المتدين السوق حيزا للـ"تدافع" كما يحلو لأصحابنا قوله، في حين استكانت زمرة من اليساريين إلى الوعد والوعيد بعيدا عن الفعل الثوري، وهو فعل لا يعترف بالمناسبة، أقصد التناسب بين قلب علاقات القوة و"نضج الصراع"، بل إن هذا الفعل هو ذاته وقود إنضاج الصراع فيمسي الانتظار – فنّ اليائسين – نظارات سوداء تحفي العاهة ولا تعيد للعين إبصارا.
#كمال_التاغوتي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟