لقد جاءت نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين مشابه إلى حد كبير لنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, ففي الثانية شهد العالم أفول إمبراطوريات الظلم والجور مقابل بروز دور اكبر لشعوب العالم, فقد انتهى وبغير رجعة حكم آل ماتشو في بكين وآل هبسبرك في فينا وآل عثمان في اسطنبول وآل رومانوف في سان بطرسبرك, واستهل القرن العشرين اولى سنواته في ظهور دول جديدة وعودة دول أخرى لتأخذ مكانها بين دول العالم بعد أن حجبت تحت ظلال تلك الإمبراطوريات, وقد رافق وأعقب هذه المتغيرات تطور متسارع ومتلاحق ومتجدد في مجال الاكتشافات والاختراعات العلمية, حيث اكتشفت الأشعة كاسرة الذرة, ومادة الراديوم والبنسلين ووضعت النظرية النسبية, كما تطور الطيران وأُخترعَ اللاسلكي والغواصة والرشاشة وتقلص استعمال البخار مقابل التوسع في استعمال البترول كوقود للمكائن والمعدات والآلات الحربية والصناعية وظهور صناعة السيارات وانتشار استعمالها لدرجة جعلت القول صحيحاً, إن الإنسان خارج بيته أما أن يكون قادماً من السيارة أو ذاهباً إليها, ورافق ذلك تطور سريع بوسائل الإنتاج , لزيادة كفاءته كماً ونوعاً , لسد الحاجة المتنامية للسوق المزدهرة, و أنجز العقل البشري علوماً و معارفاً خلال القرن العشرين , يزيد أضعافا عما أنجزته البشرية طيلة مسيرتها السابقة, وخلال القرن العشرين أيضا , ونتيجة تداعيات الحربين الأولى والثانية , ظهرت إلى الوجود عصبة الأمم ومن ثم الأمم المتحدة, ولتقر البشرية بهذه الآلية الجديدة لائحة حقوق الإنسان... وشهد العالم ولأول مرة محاكمة مجرمي الحرب من الألمان في مدينة نورنبرك بألمانيا ومن اليابانيين في مدينة مانيلا بالفيليبين .كما شهد العالم بذهول ضرب مدينتي هيروشيما و ناكزاكي بقنبلتين نوويتين أمريكيتين.
أما نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين فقد شهدت انهيار الاتحاد السوفيتي وعودة دول البلطيق للظهور ثانية, وتحررت جميع دول حزام الاتحاد السوفيتي, وشهد أيضا تفكك الاتحاد اليوغسلافي وظهور كل من سلوفنيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا وربما لاحقاً مونتينكرو, وشهد أيضا انتصارات واسعة للديمقراطية وحقوق الإنسان حيث أُقتُلِعَتْ اعتى الدكتاتوريات لدول مثل بولندا و رومانيا والمجر وألبانيا, ولتنهي ألمانيا الشرقية والى الأبد, مأساة حائط برلين بلم شملها مع اصلها, ولتظهر من جديد ألمانيا موحدة واحدة , كما أرادها رائد وباني وحدتها (بسمارك), كما ظهرت إلى الوجود ثانية , دولتي سلوفاكيا وجمهورية الجيك , لقد رافق هذه المتغيرات , تطور مذهل في وسائل الاتصال وتفرعاتها, من الفضائيات والهواتف النقالة والانترنيت , واكتشاف الخارطة الوراثية للإنسان, والتوصل إلى تقنية الاستنساخ , كما تمت لأول مرة , ملاحقة رؤساء الدول بتهمة انتهاك حقوق الإنسان والإبادة , بما سمي بظاهرة (البينوشيتية) , وبجانب ذلك ولأول مرة أيضا تصدر الأمم المتحدة , قراراً بانتهاك حقوق الإنسان برقم 688 والذي يعتبر بحق سابقة تاريخية , جاءت تتويجاً مشرفاً لنضال وصراع البشرية جمعاء من اجل حقوق الإنسان , رغم إن ما يؤسف له , أن تشاء الظروف أن يصدر هذا القرار بحق بلد (وبسبب من تخلف وجهل حكامه) كان الأول في تأريخ البشرية من شرع حقوق الإنسان , بما جاءت به نصوص مسلة حمورابي في ارض الرافدين.
إن مسيرة تطور البشرية , تؤكد وبما لايدع أدنى شك , بأن هناك ترابطاً وثيقاً ومحكماً, بين ارتقاء الإنسان وتطوره الثقافي والعلمي والحضاري , وبين حجم وكم حقوقه الإنسانية وأجواء الديمقراطية التي يتمتع بها, كما تؤكد أيضا , بأن مستقبل أنظمة دول العالم وبالتحديد الأنظمة الشمولية والدكتاتورية , من بقايا القرن الماضي , لا يمكنها مصارعة رياح التغيير نحو الديمقراطية, وان هذه الأنظمة تدرك هذه الحقيقة, رغم ما تفعله للصمود أمام هذه الرياح, مقابل يقين شعوبها القاطع بحتمية حدوث التغيير.
إن السير بما يتوازى وينسجم مع القرن الحالي , يتطلب رؤى ومفاهيم جديدة متطورة ومتوافقة مع ما وصلت إليه البشرية وعلاقاتها الإنسانية والسياسية والاقتصادية , و مختلفة وبشكل أساسي عن تلك التي سادت خلال العقود الأولى من القرن الماضي عن الاستعمار والتبعية والإمبريالية , و يستوجب أن تكون خطى الشعوب مسرعة وحثيثة في كافة المجالات بعد أن تركت وراءها في ساحة الوغى التي تصارعت فيها الأيديولوجيات أطلال وبقايا من ركام الاشتراكية والشمولية والدكتاتورية والاتحاد السوفيتي, إن تطور وتقدم دول مثل ما يسمى بنمور آسيا لم يحصل إلا بسبب من سلامة تعامل هذه الدول حسب مقتضيات ومتطلبات العلاقات الدولية بما يتوافق مع الرؤى الجديدة لهذه العلاقات... وبالمقابل نرى بلداً مثل العراق يمتلك كل مقومات النهوض والتقدم والتطور وصولاً إلى مصافي الدول المتقدمة , عجز عن التعامل بما يتوافق مع الرؤى الجديدة للعلاقات الدولية بسبب من أحادية فكر سلطته الحاكمة و محدودية تفكيرها و موروثها الوطني الذي يعود إلى خمسينيات القرن الماضي, فلم يستطع هذا البلد مواكبة ما وصل إليه مستوى دول مثيلة له , فرغم إطلالة الألفية الثالثة مازال خطاب هذه السلطة معلقاً بما كان سائداً قبل عقود من الزمن حين سادت الفنطازيا والخرافة والخيال القومية والثورية والاشتراكية , ردحاً من تلك الأيام وبما انعكس سلباً على تقدم وتطور الكثير من الشعوب وخاصة شعوب الشرق الأوسط ومنها العراق.
إن من المؤسف والمؤلم جداً إن هناك أطرافا عراقية مازالت تعيش أيضا أسيرة شرنقة هذا الموروث الوطني المتخلف , دون أن تكلف نفسها الإطلال على العالم الخارجي ومتغيراته خارج الشرنقة , إن تعقد القضية العراقية ومصير العراق وشعبه الرازح تحت اعتى دكتاتورية عرفها التاريخ , تحتم السعي الحثيث للحصول على دعم دولي و إقليمي , لنضاله من اجل الديمقراطية والتعددية , وبالتالي تحقيق التقدم والتطور والعيش الكريم الذي يستحقه , إن ما يؤخذ على هؤلاء انتقادهم سعي بعض المجموعات العراقية , المعروفة بوطنيتها وتاريخها النضالي المشرف لكسب موقف الولايات المتحدة , بما يدعم نضال الشعب العراقي , إن هذه الأطراف , وبسبب من ذلك الموروث الوطني , لم تر دولاً قائمة بدستورها وعلمها و مشريعها تتلقى سنوياً عوناً مادياً من الولايات المتحدة إضافة للدعم العسكري والسياسي , وهذا أمر مقبول طالما ذلك , وفي نهاية الأمر يخدم شعوبها... إن المنتقدين أدرى بأسباب تغليب الدعم الدولي والسعي إليه , إذ مازال الواقع العربي والإقليمي , وبسبب من دواعي الموازنات والحسابات الخاطئة والمصالح التجارية وهشاشة الأوضاع الداخلية للبعض منها , بعيداً عن مصالح الشعب العراقي ومعارضته الشريفة , إن ما قام به البعض من القوى الوطنية العراقية وما حققته لحد الآن من دعم دولي وتنسيق إقليمي هو نجاحاً باهراً , مادام ذلك ينسجم مع الرؤى الجديدة للعلاقات السياسية والدولية , وبما يخدم الشعب العراقي , ويقربه من تحقيق هدفه بالخلاص من الدكتاتورية و إقامة النظام الديمقراطي التعددي.
إن المرحلة القادمة , تتطلب وكحد أتدنى , التنسيق بين أطراف المعارضة , والسعي لتوحيد خطابها , والابتعاد عن النقد غير الموضوعي والتشكك و إلقاء التهم, إن مجرد النجاح في مثل هذا التنسيق سيكون حدثاً مؤثراً في مسيرة نضال الشعب العراقي , ورداً على المستهينين عن عمد بالمعارضة العراقية , سواءً كانوا دولاً أم أشخاصا, سيما وان نظام بغداد آخذٌ بالترنح والتفكك يوماً بعد يوم , وقريباً سنرى زوال آل صدام التكريتي كما زال قبلهم آل عثمان وآل رومانوف...
نوري العلي - كوبنهاكن