|
المجتمع الاستهلاكي.. انهيار مقولات الحداثة
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 1280 - 2005 / 8 / 8 - 11:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هل كان مجتمع الاستهلاك نتاج عقلانية عصر التنوير، ومن ثم الحداثة المرافقة للثورة الصناعية، وما بعد الصناعية، أم انحرافاً عنها ؟. هل أن أمراض هذا المجتمع وتناقضاته واختلالاته تحصيل حاصل لذلك النمط العقلاني الذي هو إفراز نظام رأسمالي محكوم بأزمات تتكرر على الدوام ؟.. ألهذا ينبري أحد دعاة ما بعد الحداثة، وهو جان بودريار، لتفكيك بنى هذا المجتمع، وبيان مأزقه؟. يلعب النظام الرأسمالي على وتر الحاجات، جاعلاً من الاستهلاك محور حياة البشر ونواتها المركزية التي تتأسس على إثرها المواقع والقناعات، حيث تتكرس التراتبية الاجتماعية / الاقتصادية، وتغدو فكرة السعادة، بحسب بودريار ( هي المرجعية المطلقة للمجتمع الاستهلاكي ) أو ( معادل الخلاص )(1).ويكون التمسك بأسس هذا المجتمع ومقولاته ضمانة المرء للقبول والاستمرار، وإلاّ تعرض إلى النبذ والإقصاء. فالمرء حر في أن يتحرك على وفق مقتضيات المجتمع الاستهلاكي الذي يُخضعه لإكراهات ملزمة، وأن يختار من ضمن الحدود التي يتيحها ذلك المجتمع. فمن حقك أن تمتلك، ولكن ( انطلاقاً من اللحظة التي لا يعد فيها أرض للجميع )(2). ومن حقك أن تعمل ، ولكن ( عندما يصبح العمل، في نطاق تقسيم العمل، سلعة قابلة للتبادل، أي عندما لا يعود ملكاً حقيقياً للأفراد )(3). إذ ذاك، يتم تدمير البيئة تحت ضغط الوفرة، وتُحرق ( احتياطات الإنسان ويُعرض شروط بقائه للخطر من خلال ممارسة لاعقلانية )(4). وفي الوقت الذي يخلق فيه المجتمع الاستهلاكي منظومات قيمه، وأنساق علاقاته، وعلاماته، يخلق أساطيره أيضاً. يحل بطل الاستهلاك بديلاً من بطل الإنتاج، يقول بودريار ( إن السير الحياتية النموذجية لـ (SELF MADE MEN ) ـ صنع الإنسان ذاته ـ وللمؤسسين والرواد والكشافة والمستوطنين، التي كانت تعقب سير الأولياء، والرجال التاريخيين، صارت اليوم سير حياة نجوم السينما والرياضة واللعب، وبعض الأمراء الذهبيين، أو الإقطاعيين الدوليين، باختصار، صارت سير حياة كبار المبذرين )(5). إنهم يتجلون في لحظات إفراطهم في الاستهلاك، الذي يعد، على وفق تلك المعايير، فضيلة ووسيلة للوجاهة الاجتماعية. ويخبرنا بودريار؛ بأن ما يجري إشباعه هو ( حاجات نظام الإنتاج، وليست حاجات الإنسان الذي تبنى، على جهله، المنظومة كلها، على خلاف ما يعتقد )(6). يسلك الإنسان، انطلاقاً من معلومات زائفة، في مناخ مبرمج من التضليل، وبمفارقة مؤداها أنه يستخدم أدوات وطرق النظر العقلي لدعم نظام لاعقلاني في جوهره وإطاره العام. ففي مجتمع يفرض فيه نظام الإنتاج نظام الحاجات، ويكون الهدف فيه ليس إنتاج الخيرات بل إنتاج الوجاهات، الذي من شأنه، في النتيجة، أن يوجد الفاقة، أو كما يقول بودريار ( لا يمكن أن يكون في أي مجتمع كان ثمة وجاهة بدون فاقة ، فكلاهما مترابطان بنيوياً )(7).. نقول في مجتمع مثل هذا ، يفرض النظام مبدأ أن ما هو في مصلحة المؤسسة الرأسمالية هو في مصلحة الأفراد. وربما على هذه القاعدة، تنشأ أيديولوجيا النظام الرأسمالي / الصناعي كلها، حيث يغدو الاستهلاك ( منظومة توفر تراتب العلامات واندماج الجماعة، وهو ، تالياً ، أخلاقية { منظومة قيم أيدلوجية } وجهاز اتصال وبنية تبادل )(8). ويتحدث بودريار عن محاصرة المتعة ونفيها في ظل نظام الاستهلاك إذ يفقد الفرد ـ على عكس ما يظن ـ استقلاله ( ليدخل في نظام معمم من تبادل وإنتاج قيم مرمّزة، حيث يكون كل المستهلكين مضمنين فيه، طردياً، وعلى الرغم منهم. بهذا المعنى، الاستهلاك نظام دلالات، مثل اللغة، أو مثل نظام القرابة في المجتمع البدائي )(9). يُدمج الفرد في الجماعة، وتدجن الجماعة تحت تأثير خطاب الاستهلاك، فمثلما تستثمر موارد الطبيعة والبشر، يتم استثمار اللغة ( اغتصابها ) لإنشاء نظام دلالي موجّه بوساطة الإعلان وأجهزة الإعلام الجماهيري. إن صناعة القطيع في ظل الأنظمة الاستبدادية / الشمولية تجري بشكل أكثر حذاقة وذكاءً في مجتمعات الاستهلاك الرأسمالية من خلال خطاب يوزع الأوهام على الجميع مساهماً في الترويض الاجتماعي ضبطاً ورقابة، معترفاً بسيادة المستهلكين ( شرط عدم سعيهم إلى الاضطلاع بدورهم على المسرح الاجتماعي.. الشعب هو الشغيلة، شرط أن يكونوا مشتتين. والجمهور، الرأي العام، هو المستهلكون شرط أن يكتفوا بالاستهلاك )(10). وبالمقابل، يحتكر النظام الاستهلاكي قنوات التأثير الإعلامية والثقافية ليزج بكل شيء في لعبة الاستهلاك، بما في ذلك ما هو روحي وثقافي. وبذا، فإن النتاج الثقافي، في هذا المناخ، لا يكون إلاّ سطحياً وعابراً وسريع الزوال، يخاطب الغرائز والانفعالات، فبدلاً من ظهور تيارات وحركات فكرية وأدبية أو فنية تطبع العصر بطابعها، تشيع ثقافة الموضة في الأدب والمسرح والموسيقى وفن الرسم والنحت وما إلى ذلك، حيث الأعمال المقدمة، التي تجد رواجاً كبيراً، براقة ومثيرة ومبهرجة، ولكن بلا عمق، في الغالب، وبلا معنى. إن ثقافة مثل هذه تحقق غرضين في آن معاً، الأول؛ هو إضعاف الحس النقدي لدى الجمهور، والآخر؛ إدماج هذا الجمهور من ضمن البعد الواحد للمجتمع الراهن. وفي هذا تلعب وسائل الإعلام والثقافة الجماهيرية دورها في صناعة الخادع والمزيف، لجمهور يستسيغ أن يُخدع، وأن يُغوى، كما يرى بورستين، أو أن الأمر يُصور وكأن الإعلان والإعلام هما فوق الصواب والخطأ، ( مثلما تكون الموضة ـ الدُرجة ـ فوق البشع والجميل، ومثلما تكون السلعة الحديثة من حيث وظيفتها الإشارية، فوق النافع والنافل )(11). إن المعايير والقيم تعرضت لخلخلة فادحة، وكل ما حدث هو تقويض لممكنات التغيير بعدما أُنتزعت من الثقافة بُعدها السالب، وبعدما أُقصي المثقف النقدي، وأُدمج في آلية النظام القائم. وقبل أكثر من ربع قرن أكــد هربرت ماركوز أن ( العناصر المعارضة، والمتغربة، والمتعالية، التي كانت الثقافة الرفيعة تشكل بفضلها بعداً آخر للواقع، هي في سبيلها إلى الزوال. وتصفية الثقافة الثنائية البعد لا تتم الآن عن طريق نفي ـ القيم الثقافية ـ وإطراحها، بل عن طريق دمجها بالنظام القائم، وعن طريـق إعادة إنتاجها وتوزيعها على نطاق واسع )(12). أما اليوم، وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وتراجع حركات التحرر في العالم الثالث وفشل خططها التنموية، وغلبة منطق العولمة، يجري تعميم النظام الاستهلاكي عالمياً، أسطورةً على الجميع الخضوع لسحرها، وآليةً لكبح الوعي النقدي وتهميشه، وإدماج الجميع بالترغيب أو بالترهيب في نظام الاستهلاك. بات مجتمع الاستهلاك علامة دالة على انهيار مقولات الحداثة مثلما أُرسيت منذ عصر الأنوار: ـ الذات الإنسانية، وهي تذوب في القطيع الاجتماعي خاسرة تفردها واستقلالها. ـ والعقلانية، التي تحولت إلى عقلانية أداتية { هذا ما يقوله ألان تورين } على خلفية لاعقلانية توسم وتؤطر وتؤسطر بنية النظام في مجملها، كما يذهب إلى ذلك بودريار، ومن قبله ماركوز. ـ والحرية، وهي تتآكل تحت سطوة وسلطة الكليانيات التي تمد سلاّمياتها خفية إلى كل جزء وزاوية من حياة البشر. الهوامش : من ( 1 ) إلى ( 11 ) جان بودريار { المجتمع الاستهلاكي ـ دراسة في أساطير النظام الاستهلاكي وتراكيبه } ـ تعريب: خليل أحمد خليل ـ دار الفكر اللبناني / بيـروت ـ ط1 / 1995 ـ الصفحات على التوالي: ( 47 )، ( 60 )، ( 60 )، ( 37 )، ( 41 ) ، ( 73 ) ، ( 72 ) ، ( 90 ) ، ( 91 ) ، ( 101 )، ( 165 ـ 166 ). ( 12 ) هربرت ماركوز { الإنسان ذو البعد الواحد } ـ ترجمة؛ جورج طرابيشي ـ ط3 / 1988 ـ دار الآداب / بيروت ـ ص 92 .
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العولمة والإعلام.. ثقافة الاستهلاك.. استثمار الجسد وسلطة الص
...
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|