سليم يونس الزريعي
الحوار المتمدن-العدد: 1280 - 2005 / 8 / 8 - 11:32
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يطرح خطاب بعض الجماعات الإسلامية حول الصراع مع الغرب الاستعماري في راهنيته نسقا فكريا يحاول تغييب وعي المواطن العربي عن جوهر الصراع بأبعاده السياسية والاقتصادية والاستراتيجية ، ليجعل منه صراعا بين الأديان .
ذلك النسق الأيديولوجي من التفكير ، إنما يحاول تكييف كل فعل معادي للأمة العربية بشكل قسري على أساس أنه يستهدف في الأساس الدين الإسلامي كعقيدة ، وهذا بدوره يفترض الرد بديمومة بث دعائي يستهدف عقول الأجيال الشابة ضمن منظومة أيديولوجية وثقافية مختارة ، من شأنها أن تنظر إلى الغير بريبة وشك وعدم ثقة وعدائية ومن ثم الاتكاء على مجد كان ، من أجل الهروب من مواجهة حالة العجز والتأخر أمام التفوق والتقدم العلمي والاقتصادي للغرب أو للثقافات الأخرى .
هذا في وقت تتسع فيه المسافة بين الإسلام الشعبي " إسلام الأغلبية الساحقة " والإسلام الإيديولوجي ، حتى يكادا أن يكونا على طرفي نقيض ، فالإسلام الشعبي ينطلق من قيم التسامح والحق والعدل بصرف النظر عن المذهب أو العقيدة أو الجنس أو العرق ، على أساس أن الدين لله والناس جميعا شركاء في أوطانهم ، والأرض معمورة بهم جميعهم حيث الأخوة الإنسانية ، فيما ينطلق الإسلام الأيديولوجي من ثقافة التفوق باعتبارهم أي " الجماعة الأيديولوجية " الحقيقة المطلقة الوحيدة ، التي تنطلق من أبجدية احتقار ثقافة الغير .
وأمام هذا الكم من عدوانية الغرب الاستعماري في العراق وفلسطين وفي أكثر من مكان من الوطن العربي سواء في شكلها المباشر أو غير المباشر ، تستمرئ تلك الجماعات التلويح " بنظرية الضحية " وزرعها ضمن منظومتها الفكرية والتبشير بها من أجل إثارة الحمية الدينية ضمن محاولاتها الفكرية استعداء قطاعات واسعة من الشباب العربي على الغير ، باعتبار أن " الإسلام كعقيدة " هو المستهدف ، وأن هناك حربا صليبية تستهدف الإسلام في عقر داره ، ولذلك يجب التصدي لهذه الحرب التي تجري على الأرض العربية بالرد عليها في عقر دارها .
ولأن الواقع يقول بأن هناك تعد استعماري تقوده الدول الرأسمالية الغربية يستهدف الأمة العربية في أكثر من مكان ، فإن من السهل على أولئك الادعاء بأن الإسلام كعقيدة مستهدف في ذاته ، كما أن المسلمين مستهدفون في ذاتهم ، ومن ثم تحويل تلك الهجمة الرأسمالية الغربية على الأمة ، إلى نوع من أنواع الصراع الديني ، بما يسمونها " الحرب الصليبية " هذه الثقافة التي تنكر قيم التسامح والحق والعدل والأخوة الإنسانية باعتبارها الأهداف والقيم التي يجب أن يناضل من أجلها الإنسان ضد كل المستغلين ، أيا كان الدين الذي يعتنقونه ، إن هي إلا محاولة لخلط الأوراق من أجل تغييب الأسباب الحقيقية للصراع الذي يدور ، بكل ما يحمل ذلك من تضليل فكري ومجافاة للواقع .
غير أن ما فات تلك الجماعات أن الأمة بكل مقوماتها الثقافية والحضارية مستهدفة ليس لأنها تدين بالإسلام ، ولكن لأن مصالح تلك الدول القائمة على سلب خيرات الشعوب تتناقض مع مصالح الأمة العربية في الزمان والمكان المحددين، ذلك أن سياسات تلك الدول تحكمها في الأساس المصالح ، والتي هي نتاج أيديولوجيا النهب الإمبريالي في أشد مراحله تغولا باعتبارها تجلي منظومة تلك الأفكار التي ترسم معالم السياسات الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية من أجل استمرار ذلك النهب الإمبريالي في أي مكان من الكرة الأرضية في الوطن العربي وفي غيره ، ومن ثم فإن هذه المصالح تتغير بتغير الظروف الدولية وموازين القوى للأطراف الأخرى وكذا مصالحها .
ومع ذلك لا يمكن أن يعزا ما تعانيه الأمة العربية من تفتت وضعف إلى العامل الخارجي وحده رغم أهميته ، وإنما يجب تحميل العوامل الذاتية التي راكمت كل تلك المرارات والخيبات والتي فتحت الأبواب أمام مثل هذا الفكر ذو الخطاب الماضوي الذي يحاول الحجر على الحاضر بعقلية الماضي ، مسؤولية ما نحن فيه.
فالانكسارات الكبيرة وانسداد الآفاق وتربع أنظمة القمع الشمولية والعائلية وفاقدي الشرعية والمصداقية ، شكل مناخات ملائمة لتفريخ ثقافة الكراهية والانغلاق في التفكير ليعطل العقل عن قراءة المشهد الإنساني بكامله ، وكأننا أمة معزولة في التاريخ لتخرج علينا تلك الجماعات بفكرها غير الإنساني الذي لا يرى في الآخر إلا عدوا .
فيما لم يرف لها جفن عندما استخدمها ذلك " الغرب الصليبي " على مدى سنوات تدريبا وتسليحا وتمويلا لخدمة مصالحه في مواجهته مع الاتحاد السوفيتي في أفغانستان ، فكان جهادا تحت مظلة العلم الأمريكي الصليبي !!! وتلك مسألة لا ضير فيها عند أصحاب ذلك الفكر .
وتكاد المغالطات الفكرية والسياسية لتلك المجموعات في ظل ما تضخه من إرهاب فكري بل ومادي والذي بات يصادر حق المناقشة والرأي ، بل ويرجم المخالفين في الرأي ويكفرهم ، تغّيب مشاهد الحالة الإنسانية بشمولها على اتساع الكرة الأرضية ، لتختزل تلك الجماعة الكون في دائرتهم الضيقة ومن ثم يجري تكييف العالم في ثنائية قسرية بين الخير والشر ، فهم الخير الذي يستهدفه الشر الصليبي ، وتحت هذا العنوان يضيع كل شيء .
إن تصوير الصراع والهجمة الاستعمارية على الأمة العربية باعتبارها حربا تستهدف الإسلام كعقيدة ، إنما تتعمد تغييب الأسباب الحقيقية للصراع باعتباره يستهدف الأمة ككيان وحضور مادي حضاري اقتصادي اجتماعي وموقع استراتيجي .
وإذا كان هناك من مجال لضرب الأمثلة لتبيان خطل هذا الفكر وتلك الرؤية ، التي يبدو أنها بدأت تتسرب إلى خطاب بعض قوى الإسلام السياسي ، فإننا نستحضر مشاهد الحروب الاستعمارية على مدى قرون في آسيا وأمريكا اللاتينية وأمريكا الشمالية وأفريقيا ، وحروب القارة الأوربية ذاتها بدءا من حرب الثلاثين عاما وصولا للحربين العالميتين الأولى والثانية ، والتي كانت تحركها في الأساس مصالح تلك الدول المعتدية ونزوات حكامها ، فهي لم تكن بأي حال حروبا بين الأديان ، وإنما هي حروب تحكمها مصالح تلك الدول السياسية والاقتصادية والعسكرية وبالضد من مصالح الشعوب المعتدى عليها بصرف النظر عن الدين الذي يدينون به .
ويبدو أنه فات أولئك أن هذا الغرب الصليبي هو الذي يحتضن المراكز الإسلامية وأولئك الإسلاميين الذين ضاقت بهم أوطانهم ، فلجأوا إليه بحثا عن الأمان ، فيما تنتشر الجاليات الإسلامية بعشرات الملايين في كل ذلك الغرب الصليبي ، تمارس حقوقها كاملة باعتبارهم مواطنين لهم نفس الحقوق والواجبات التي للمواطنيين الآخرين بل ويمارسون شعائرهم ، دون أن يكونوا عرضة لحرب صليبية داخلية ، ليضع علامة استفهام حول صدقية الخطاب الأيديولوجي لتلك الجماعات ومن شابههم من قوى الإسلام السياسي ومدى مقاربته من الواقع .
وبالمقابل فإن ذاكرة الجماهير العربية لا زالت تحفظ وقائع تلك الأيام عندما كانت المقاومة الفلسطينية واللبنانية تخوض الصراع ضد العدو الصهيوني في الشمال الفلسطيني من الحدود اللبنانية وفي الداخل في انتفاضتها الأولى وما قبلها دفاعا عن الأمة العربية ومستقبلها في وقت كان يجري فيه توظيف تلك الجماعات الأيديولوجية لخدمة مشروع غلاة اليمين المسيحي المتصهين في أمريكا الذي كان ولا يزال يستهدف قهر إرادة الشعوب .
ومن ثم فإن أول ما يجب وعيه لدحض كل تلك الأفكار من أجل مواجهة تلك الهجمة ، هو التأكيد على أن صراعنا مع الهجمة الصهيونية والرأسمالية الغربية بأبعادها الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية التي تستهدف الأرض والإنسان بصرف النظر عن معتقده الديني عربيا مسلما أو عربيا مسيحيا هو صراع مستمر ما استمر استهداف مقدرات هذه الأمة في الأساس .
إن مشاعر الإحباط واليأس وانعدام الأفق مع قصور الرؤية ، تدفع تلك الجماعات إلى الشطط في القول و الفعل بطرحها خطابا يكرس مفهوم العزلة الذي ينطلق من إطلاقية ذاتهم الخيرة في مواجهة إطلاقية ذات الغير الشريرة ، حيث لا مجال بعدئذ للحوار أو اللقاء وفق هذا التوصيف الأيديولوجي ، وتلك هي المشكلة , وهذا ما يجب على الأمة أن تعيه ، حتى لا تذهب أسيرة هذا الخطاب المجافي ..
#سليم_يونس_الزريعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟