عفيف رحمة
باحث
الحوار المتمدن-العدد: 4532 - 2014 / 8 / 3 - 23:04
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
لقد بات واضحاً حجم الإخفاقات السياسية التي منيت بها المعارضة وعجزها في فرض شروط التغيير السلمي للإنتقال من نظام أوليجارشي استبدادي إلى نظام دستوري يضمن للشعب السوري حقه الديمقراطي في رسم خياراته الإقتصادية والسياسية.
هذا العجز رغم مأساويته لا يجب أن يفهم إلا بإطاره التاريخي وأسبابه الموضوعية، ذلك ان الرموز المعارضة خاضت بشرف معركة دونكيشوتية في مواجهة حصار سلطة متمرسة ومتمترسة أمنياً دون أن تجد هذه الرموز لمعركتها أي إرتدادات شعبية بالمعنى الثوري للكلمة.
من ناحية لم تنجح قيادات المعارضة في تشكيل حركة سياسية منظمة قادرة على فرض شروط ومسارات التغيير، ومن ناحية أخرى فشلت في إحتضان الحراك الشعبي الثائر وتولي قيادته لتحويله إلى قوة ثورية منظمة تلزم الزمرة الحاكمة التخلي عن خياراتها القمعية والرحيل.
بالطبع لا يمكن إلقاء اللائمة على هذه الرموز المعارضة التي تأرجحت مواقفها بين النرجسية النضالية حيث تحركت معتمدة على تاريخها الشخصي متجاهلة واقع مجتمعها المسلوبة حرياته السياسية منذ عقود، وحالة من الثورية الطوباوية التي لم تلقى صدى واستساغة من الشرائح الشعبية الثائرة رغم حاجة هذه الأخيرة للتغيير، واقع أبسط ما يمكن القول به أنه نتاج فراغ سياسي وتنظيمي تجذرت أسبابه عبر أربعة عقود من نظام حكم سعى جاهداً لإنتاج مجتمع منصاع فكرياً واجتماعياً ومناقض لطبيعة تكوينه التاريخي التعددي، نظام قيمه مستعارة من تاريخ الخلفاء والسلاطين أو أقل ما يمكن القول فيه أنه قائم على نمذجة سياسية وفق قوالب جامدة لا يمكن أن ينجح ويستمر إلا بممارسة إستبداد السلطة وعبادة الفرد.
عندما أنجز حافظ الأسد إنقلابه عام 1970 كان عدد سكان سوريا نحو 6.4 مليون مواطن منهم 3.1 مواطن لم يبلغوا حينها سن الخامسة عشر، شريحة يجوز القول فيها أن وعيها السياسي لم يتشكل بعد، و 3.3 مليون مواطن منهم من انخرط في تنظيم سياسي أو كحد أدنى إلتزم برؤية سياسية أو ملك وعياً سياسياً مستقلاً و منهم من كان في طور تشكل هذا الوعي كحال الشريحة العمرية بين 15 و 22 عاماً.
حسب الإحصاءات الرسمية حجم هذه الشريحة العمرية (3.3 مليون مواطن فوق سن 15) المسيسة أو شبه المسيسة لم يعد يتجاوز تعدادها اليوم (من عام 2014) 1.3 مليون مواطن تجاوز أصغرهم 59 عاماً، شريحة من الصعب أو من المستحيل اليوم انخراطها في الحراك السياسي.
عام 2014 بلغ عدد السكان المتواجدين على الأراضي السورية نحو 23 مليون نسمة، وإذا ما استثنينا هذه الفئة (فئة 59 عام وما فوق البالغ عددها نحو 1.3 مليون مواطن) وفئة المواطنين الذين لم يبلغوا بعد سن الخامسة عشرة (البالغ عددهم 8 مليون مواطن)، فإن 13.7 مليون مواطن في سوريا ولد ونشأ وتكون وعيه السياسي منذ عام 1970 حتى اليوم في حالة من إرهاب الدولة الأمني والسياسي الذي مارسته وما زالت تمارسه الزمرة الحاكمة وأقل ما يمكن القول في انعكاساته: العطالة الفكرية والسياسية للمجتمع السوري.
في العمق السياسي يمكن أن نعزي هذه العطالة الفكرية والسياسية التي يعيشها المجتمع السوري للنهج الذي اعتمدته الزمرة الحاكمة، إلا أنه لا يمكن تبرئت الحركات والأحزاب السياسية التي استساغت السلطة واستأنست القمع والإستبداد وتناست قيمها الوطنية ومبادئها السياسية وسارت في ركب نظام حزب السلطة، سلطة الحزب الواحد والحزب القائد الذي إرتكز على القمع لضمان وجوده وتثبيت نهجه في حكم سوريا.
مسؤولية لا يعفى منها الناشطون في تلك الأحزاب ولو كان عددهم لا يتجاوز بمجمله آلافاً صغيرة، لكن تبقى المسؤولية المباشرة لقيادات أحزابهم (القائلة باليسارية والتقدمية) من شيوعية وإشتراكية وقومية ووحدوية، حيث فضلت هذه القيادات البائسة حتى ثمالة بؤس الخيانة أن تلتزم بالإنتهازية منهجاً لمداواة عجزها الفكري والسياسي في التعامل مع المتغيرات التاريخية، متخذة من الطروحات القومية من مقاومة وممانعة وصمود وتصدي والقول السطحي النمطي بالعداء للصهيونية والإمبريالية براءة ذمة لسلطة إتخذت من الإستبداد منهجاً.
اليوم وبإستثناء بعض طلائع الشباب الذين حملوا على عاتقهم ما يمكن أن ينتجه اندفاعهم الوطني من مخاطر القمع والملاحقات الأمنية، يعيش 13.7 مليون مواطن سوري منقسمين وفق حجم الفائدة أو الضرر الذي لحق بكل فرد منهم من جراء السياسات الإقتصادية الريعية التي اتبعها النظام وتحديداً في عقده الاخير.
فئة من هؤلاء السوريين، وهي الأكثر تضرراً إقتصادياً واجتماعياً وجدت في الإنتفاضة بفوضويتها وعبثيتها مآلها للتعبير عن قضيتها الوطنية والطبقية متسلحة بإيديولوجيا الغضب والحقد والتخريب والألم والإنتقام كشكل من اشكال التعبير السياسي عن رفض واقعها الإقتصادي.
أما الفئة الثانية حيث يغلب حضورها في المدن والمناطق الحضرية، ورغم الضرر الذي لحق بها قياساً على موقعها الطبقي نجدها قد اختارت تهميش الذات بذريعة الحياد حرصاً منها على الحياة أو العمل، وفئة ثالثة وهي ليست بالصغيرة إختارت ولأسباب انتهازية ومصلحية ضيقة أن تستمر على ما استأنسته وتآلفت معه من منهج انقيادي تبدو مرتسماته الاجتماعية بالخضوع والانصياع الفكري والأخلاقي والسياسي لمؤسسة السلطة الحزبية، الرافعة الإجتماعية للزمرة الحاكمة.
أما الفئة الرابعة وإن كنا نجد ظلالها في مختلف الطبقات الإجتماعية إلا أن جلّ أفرادها من الطبقات الفقيرة وأبناء المجتمعات الزراعية حيث وجد أفرادها في الماضوية ثقافتهم ووجدوا في الحقبة السابقة على منابر الجوامع وفي المدارس والحلقات الدينية المغلقة من يخطب بهم وينظمهم بحيث اصبحوا اليوم الأكثر حضوراً على الساحة السياسية، فئة لم ترى السلطة في عقود حكمها الماضية سبيلاً إلا التماشي مع نزعاتها الفكرية والإجتماعية كصيغة شرطية للبقاء المتبادل في الوقت الذي كانت تحارب فيه القوى الوطنية والديمقراطية التي تفتقد سوريا لحضورهم اليوم.
إن أخطر ما وصلت إليه الازمة السورية معضلة غياب الوعي السياسي الوطني التحرري الجامع والمنظم، حالة تتجاوزت بخطورتها الفراغ السياسي الذي كشفته الأحداث السياسية وتطوراتها الدامية، حيث ثبت عدم قدرة قيادات المعارضة على تحريك الشارع الشعبي الحضري والريفي، كما ثبت عدم وجود أي رابط عضوي بين مختلف التشكيلات السياسية السلمية المعارضة متواضعة الحجم و الجماعات المحلية المتمردة التي وقعت في فخ السلطة واختارت حمل السلاح والثوران كردة فعل على القمع المسلح الممنهج والمخطط له من السلطة.
حلاً أعطى السلطة المبررات السياسية والأمنية لتواجه بدورها السلاح بالسلاح، ولتتطور ساحة الصراع السياسي وتتحول إلى ساحة صراع عسكري بين مؤسسات السلطة وحركات محلية أو وافدة تحمل من العنف المسلح والإرهاب والتطرف الديني والمذهبي والكراهية أكثر من الرؤى السياسية وإن أظهرت في السطح إلتزامها بالإسلام منهجاً للدولة التي تسعى لإقامتها.
في ضوء هذا الواقع يمكن أن نفهم كيف تمكنت إدارة الإحتكارات والإقتصاديات الغربية الرأسمالية الإمساك بدفة الأزمة السورية وتحريكها في الإتجاهات التي تحقق مصالحها الحيوية، فمما لا شك فيه أن هذه الدوائر ليست بريئة مما جرى وهي الأقدر بحكم خبرتها على استغلال واستثمار الواقع في صالحها.
كما يمكن أن نفهم كيف استطاعت التيارات الإسلامية الأصولية تأطير الأزمة السورية بعد تحريك ذاك الوعي الخامد المترقب الذي تأسست حوامله البشرية على العنف والكراهية لتفرض بحكم قوتها التنظيمية والعقائدية الشكل السياسي والعسكري لمسارات الأزمة الوطنية.
اليوم، كما بات واضحاً حجم الإخفاقات السياسية التي منيت بها المعارضة، يبدو واضحاً أهمية تشكيل قوة سياسية تستفيد من تجارب التغيير الديمقراطي في العالم بقدر استفادتها من الإخفاقات الوطنية التي مرت بها المعارضة، حركة قوامها الشباب القادر على خوض معركة التغيير بروح ثورية وأدوات سلمية، والقادر على تحريك تلك الكتلة من السوريين الحالمين بالتغيير لكن المتخوفين من قمع السلطة ومن المجهول البديل، حركة قادرة فكرياً وتنظيمياً على قيادة عملية إنتقال سوريا نحو نظام دستوري جديد، خياراته الأساسية إعادة بناء الدولة وفق أسس حضارية وطنية جامعة ونظام ديمقراطي يعطي للشعب السوري حقه في تحديد الآليات السياسية والإقتصادية لتحقيق نموه الإقتصادية وتطوره الإجتماعي.
#عفيف_رحمة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟