|
لا تجهدوا انفسكم بقتل الناموس , فقط جففوا المستنقع
حمدى السعيد سالم
الحوار المتمدن-العدد: 4530 - 2014 / 8 / 1 - 09:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
.انا لا ادعو الى فرز البشر ودعم تفوق الجنس الأبيض وحمايته ... كما اننى لا ادعو الى التحكم في السلالة البشرية" لضبط معدلات الولادة و "تحسين" صفات البشر عن طريق ولادة الصالحين بيولوجيا فقط، بتشجيع الزواج المبكر لما يسمى "الأعراق الممتازة" فحسب، وحرمان غير الصالحين من الخروج إلى الحياة.... كما اننى لست "فرانسيس جالتون" الذى كان يقول إن "كلاب أفريقيا تكف عن النباح إذا ما تنفست هواءنا" !....كما اننى لست ممن يعطون لهذا أو ذاك حق "تقويم" البشر، وإعطاء تصريح بالحياة لمن يرى أنه الأفضل عرقا أو عقلا، وحرمان آخرين من فرصة الحياة لمجرد أنهم ولدوا ببشرة سمراء أو أقل صحة وذكاء من غيرهم ....كما اننى لست الفيلسوف اليوناني الشهير "أفلاطون"... ففي "جمهورية أفلاطون" الخيالية كان الفلاسفة وأصحاب الفكر يتمتعون بالصحة والعافية والمكانة، فيما كان غيرهم من العامة محدودي الذكاء يشغلون المراتب الدنيا من السلم الاجتماعي، فهي جمهورية متخيلة يحكمها الأذكياء فقط، وعلى هؤلاء أن يديروا أمور الحكم بحيث يتم تزويج "الأقوياء" وأصحاب القدرة العقلية والشجعان في الحروب مبكرا، ومنع المرضى وذوي العاهات من التزاوج نهائيا!....الزعيم الألماني الأشهر "أدولف هتلر" الذي تأثر بأفكار العالم البريطاني "فرانسيس جالتون" والفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه" صاحب خرافة "الإنسان السوبرمان".... وكانت نظرية هتلر النازية تعتبر الجنس الآري أرقى أجناس البشر على الإطلاق، وينبغي أن تكون له السيادة على العالم، وأصدر الزعيم النازي أوامره بإجراء عمليات جراحية لإخصاء نحو 400 ألف شخص من اليهود وضعاف العقول والمرضى المزمنين الذي اعتبرهم هتلر "أحقر شأنا من أن يمرروا جيناتهم إلى الجيل التالي"، وهي العملية التي وصمت "اليوجينيا" بالعار إلى الأبد ... لذلك أسأل نفسى دائما لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟...
مما لاشك فيه أن مجتمعاتنا شهدت ملامح التقدم المظهرى والتخلف الهيكلى ...فلدينا إنفاق شديد على الدروس الخصوصية وهذا ليس إنفاقا على العلم ومن أجل العلم وإنما هى على الشهادات ومن أجل الشهادات .....ولدينا اهتمام بتسجيل المواقف أكثر من اهتمامنا بإيجاد حلول عملية للمشكلات....ولدينا تحديث مادى دون ديمقراطية....وعلمنة بلا احترام أصيل لقيمة العلم.....وتعليم بلا تفكير نقدى أو بناء مهارات.....وانتقال إلى المدينة بلا تمدن حقيقى.....وتحول للرأسمالية بلا احترام لأخلاقياتها .....لم نسمع أن مخمورا ذبح جنديا وهو تحت تأثير الخمر !!!...ولم نسمع أن زانيا حرض على الجهاد أو قتل بنى وطنه !!!ولكننا يوميا نرى ونسمع لحى عفنه تتوضأ بدماءالاطفال والابرياء... وتصلى على اشلاء جثث المساكين والعجزة والنساء باسم الدين ...هؤلاء أضر على الاسلام من الزانى وشارب الخمر !!!... لذلك تعالوا بنا نقرأ البنية المعرفية عند العقل السلفي من خلال أصوله ومنهجه في التفكير والاستدلال ، ومعرفة ظروف تأسيسه ،وتصور ما كان عليه وما آل إليه أمره ، بغية تحليل ظاهرة العقل السلفي المعاصر ، وفهم مرتكزاته العقلية القياسية،والمساهمة في إعادة صياغته حسب أصول العقل ....نريد بهذه القراءة النقدية فتح حوارات جادة بين الحاضر والماضي،بين الواقع والتراث،من أجل إعادة ما سقط ونقص من صور التراث خلال قراءته قراءة تمجيدية،وتكميل صورته بزواياها المتعددة وأبعادها المتنوعة على صعيد النظرية والممارسة،لكي تصبح الصورة مكتملة وتوضع مادة وموضوعا للقراءة،تمكن العقلاء من تصويب النظر إليه والاستفادة منه على مستوى الفهم والممارسة.......ولا يخفى أن أغلب الأمم الانسانية المعاصرة انطلقت في نهضتها من خلال إعادة قراءة تراثها الممتد المستمر إلى حاضرها،حيث مارست عليه عمليات النقد والمراجعة والإضافة......ولكن المشكل الذي نعانيه يكمن في أن تراثنا قد توقف عن النمو منذ قرون طويلة بحيث يفصله عن الحاضر بون شاسع،ومع هذا التوقف نقرأ تراثنا قراءة تمجيدية لا نقدية !! .... حيث نظن فيه أنه تراث مقدس بلسان حاله.....ومن الناحية النهضوية حيث نحسب فيه أنه ملجأ للنظريات العلمية والعقلانية،والنظم الإدارية والقوانين الدستورية!!..... لذلك تجد العقل السلفى مثقل بضغط الحاضر ومواكبته،وخاضع لسلطة تراث كتب بعقل فقهي قد توقف عطاؤه منذ زمن بعيد،مما جعله فاقدا لاستقلاله وحريته في النقد والبناء،مكتفيا بترديد تراثه تذكرا لا مكتشفا ولا مستفهما،فتحول عقله من كونه أداة تفكر ونقد إلى آلة حفظ وتذكر!! ....
لذلك نرى العقل السلفى يقرأ قراءة تمجيدية لمصنفات ابن تيمية بأنه يدين المنطق والكلام والفلسفة ، وأنه درأ تعارض العقل مع النقل ......ولكن هذه الدعوة لا تصمد أمام أى قراءة نقدية ترد الفروع إلى أصولها ، والمفاهيم إلى انساقها المعرفية ،والتي تثبت بما لا يدع مجالا للشك فيه بأن فكر ابن يتيمة غارق في الكلام والفلسفة حتى أذنيه، وأنه بقي يتحرك ويفكر ضمن هذا الفضاء وكان مهموما بنفس السؤال الذي شغل الذين أتوا قبله ووجه لهم نقده الحاد ، هذا في جانب الغيبات .... وفي الجانب الآخر فقد انتصر لفكر ابن حنبل في تقديم النقل عن العقل ، وأن العقل أداة نقل وتنزيل ، وليست أداة فهم وتأويل ......علما بأن ابن تيمية قد تأثر بفلسفة أبي البركات البغدادي،وأبي الحسين البصري،ويعترف في مناسبات أقل بتأثير ابن رشد الفلسفي في فكره !!...على صعيد أخر تعالوا بنا نأخذ سيرة الإمام مالك كنموذج لقراءة نقدية نحاول فيها استكشاف قيم الحريات ومكانة الرأي الاخر في سيرته ومسيرته العلمية والسياسية،كل ذلك في إطار(الاستفهام لا الاستذكار)وفي سياق قراءة(نقدية لا تمجيدية)بغية اكتشاف مدى تأثير العقل الفقهي على عقل المتلقي المعاصر في تكوين القراءة التمجيدية،وتأسيس القراءة الاستذكارية،خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن أغلب الذين كتبوا التاريخ كانوا فقهاء؛مفسرين؛ومحدثين كابن جرير الطبري،والذهبي،والبخاري،وأبي زرعة،وابن كثير،وابن الأثير،وغيرهم.... فالإمام مالك عاصر زمن خلفاء بني أمية بعد الوليد،وخمسة من خلفاء بني العباس....فهو إذن مخضرم عاش عهدين من عهود الملك العاض والجبر،وقد رأى وعرف عن كثب ماذا حل بالمخالفين لبني أمية في الفكر والرأي من قمع وتنكيل،حيث كانت تلك الفترة تعتبر بدايات الإنقلاب السياسي والمنهجي على نمط الخلافة الراشدة ومنهاج النبوة،وقد اتسمت تلك الحقبة بكثرة الصراعات خاصة من أهل العلم وأصحاب الفكر الحر كـ(ثورة الحسين،وابن الزبير،وابن الجبير،وابن الأشعث،والنفس الزكية)،ولكن ما لبث خلفاء بني أمية أن أختصروا المسافة الفاصلة بين القلم والسيف وذلك من خلال المال والهدايا والمناصب،أو بأساليب الاقصاء والتهميش والتعليق وجز الرؤس،ولعل حادثة استباحة مكة وحرق الكعبة وقتل ابن الزبيرواتباعه.....واستباحة المدينة المنورة والفتك والهتك بأهلها.....وفاجعة كربلاء ومقتل سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم،خير دليل على إغتيال قيمة الحرية،واحترام الرأي الأخر كما جاءت في ثنايا نصوص الوحي والهدي النبوي!! ....
ولما زال الملك الأموي المشبع بالأحكام القبلية والعسكرية والاستبدادية وعدم احترام قيمة الحرية والرأي الأخر....حل محله الملك العباسي،حيث لم يكن الوضع الجديد بقيادة البيت العباسي بأحسن حال من الذين سبقوه في قمع الرأي الأخر،وأغتيال قيمة الحريات،وفي هذه الأجواء المشبعة بالأحكام الإقصائية العسكرية كان الإمام مالك يرقب أوضاع العباسيين خاصة أبي جعفر المنصور،مستحضرا تلك الصورالبشعة التي سجلها التاريخ ووعاها عقل الإمام مالك؛من أحراق الكعبة،واستباحة المدينة،ومحنة كربلاء،وغيرها.وكأنه يرى أن حرية الفكر وقيمة الرأي الأخر أصبحت أثر بعد عين،حيث أقبرت بسيف السلطة السياسية.....الامام مالك فى داخل نفسه كان يرى أن هنالك نوعا من الصراع قائم بين السلطتين؛سلطة السيف،وسلطة القلم،وفي هذا الوضع المتصارع كانت السلطة السياسية تستخدم بعبع(الفتنة)كوسيلة لترويض السلطة الدينية،وأمام هذا المنطق المتخلف من السلطة السياسية لم يجد الإمام مالك سبيلا لعمل سلطته الدينية إلا الاندراج الخجول والبطيء في هذا المسار الحتمي،مع ما يتطلبه الأمر من مخرجات وآليات دفاعية،وما يلازمه من تغييب للنقد الذاتي،وحرية الأخر،ومن تلك المخرجات فتاوى بحرمة الخروج عن أئمة الجور،وتجريم مشاركة الخارجين على خلفاء الظلم.......كل ذلك اعتبارا منه بماضي التجربة التاريخية الذي لم يتبين منها إلا أن الخارج لم يأت إلا بما هو أكثر فسادا،وأبلغ فتنة،وأهتك للحرمات!!....لذلك نرى الإمام مالك يضم سلطته العلمية إلى السلطة السياسية معلنا عن نفسه كجزء من شوكتها،وذلك من خلال المراسيم المعروفة والشارات التي تفرق بين دائرة الموالاة والمعاداة؛من بيعة الخليفة،وقبول هداياه،ومشاركته في مجالسه،والحث على إقرار شرعيته،والتنديد بالخارجين على سلطته،وعدم التحريض عليه،ومساندة المخالفين له......وبعبارة أخرى فإن منطق السلطة السياسية(الخلفاء)هذا يفرض على السلطة الدينية(الفقهاء)شحذ الآليات الدفاعية الواقعية لتغييب الأخر،وإلغاء النقد العقلاني المعرفي لهذه السلطة السياسية بما يعني تكريس الاستبداد(وتغويل الخليفة على الرأى الأخر)!!....
وهذا يتضح من فعل المهدي(الخليفة)مع مالك(الإمام) حينما وظف سلطة العالم وفق استراتيجية النظام السياسي ومنطق الصراع... حيث طلب الأول من الثاني أن يضع له كتابا نصيا لا عقلانيا يضبط به شؤون المتمردين فكريا على نظام الملك خاصة وإن ظاهرة الفكر الحر الناقد لفكرة شرعية توريث الإمامة السياسية والدينية،قد استفحلت مع تسارع وتيرة النقد المعرفي للعقل الحشوي الفقهي على أيدي ما يسمى في كتب الفرق(بأهل الأهواء والبدع)....وهكذا أصبحت العلاقة المتميزة بين الإمام والخليفة على كافة المستويات هي القانون الأساسي السائد بين الفضاءات السياسية والفقهية،كإرسال العطايا،والهدايا الملكية،وتقليد المناصب،وقبول الشفاعة،والهبات،والمسامرة،والزيارات،وطلب الصحبة في السفر!!... على صعيد أخر كانت علاقة مالك(الإمام)بأبي جعفر(الخليفة)رمز السلطة العباسية على نفس ذات الوتيرة والنغمة من خلال توظيف سلطة القلم لصالح تعزيز ملكه،وثبيت سلطانه،وحسم مخالفيه في الفكر والرأي !!... العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية ليست مجرد علاقة عابرة،بقدر ما هي علاقة مصالح بين طرفين أو حليفين،تتناغم فيها القيم بالمصالح،والمثل بالوقائع،والاحكام المسبقة بالأحكام الموضوعية،والوعي المغلوط بالوعي السليم،مما يجعل هذه العلاقة تكتسي أحيانا طابع التماهي الكامل بين الحليفين أو السلطتين.....و توالت على الإمام مالك هدايا وعطايا الخلفاء والأمراء حتى أنه جعل له راتبا ثابتا كما يناله الوزراء والقواد......وقد اقنع مالك الخليفة بضرورة تفريغ العلماء والفقهاء لتأمين الجانب الفكري والعقلي من الأفكار المناهضة لمسألة توريث الإمامة السياسية والإمامة الدينية(السف والقلم)...ويبدو أن هذه العلاقة وهذا التماهي جعل بعض أئمة العلم يستنكر على الإمام مالك هذا التماهي مع السلطة الجائرة....حيث يقول ابن وهب:عن مالك،دخلت على أبي جعفر،فرأيت غير واحد من بني هاشم يقبلون يده،وعوفيت،فلم أقبل له يدا .... ولعل مالك قد عوفي من تقبيل الذات ولكنه قبل القيم الصادرة عن تلك الذات،وقد يكون هذا من مالك من باب سياسة الأمر الواقع،والتكيف مع الأوضاع في إطار(ليس في الإمكان أبدع مما كان!!)،أو قد يكون إلتزاما منه بالحكمة المشهورة في زمانه بأن:من تعرض للسلطان أرداه،ومن تطامن له تخطاه،وشبهوه في ذلك بالريح العاصفة التي لا تضر بما لان لها من الشجر ومال معها من الحشيش،وما استهدف لها من الدواح العظام قصفته!!.....
هذه الآليات الدفاعية والذهنية التبريرية عن السلطان، والنفس من قبل بعض الفقهاء ومنهم الأمام مالك ، والتماهي مع الخلفاء في المواقف والمواقع هي التي ولدت ظاهرة تناقض المشاعر والسلوك والمفاهيم،المتنامية لدى العقل الفقهي التمجيدي؛ مشاعر متناقضة بين الاحتساب والتأييد..... بين التمتع بالهدايا السلطانية ولبوس الزهد...... بين منطق الاستقلال والتبعية والاستلحاق،مما جعل العقل التمجيدي في وضعية مرتبكة،تتراوح بين القبول والرفض، بين التفسير والتبرير، بين الاعتراف والاستبهام، وهكذا امتلأ العقل الفقهي التمجيدي المعاصر بهذه الظاهرة المتناقضة ليصبح مخزنا ومستودعا ومنتجا لمفردات وأفكار،تعطل قيم الوحي،وتربك الحاضر،وتشوش المخيال الجماعي!!....لقد جوبهت من قبل الناس عامة بالاستنكار والنقد،حتى أنهم أرسلوا إلي مالك من يسأله هل يجوز قبول هدايا الخلفاء،فأجاب مالك بأنه لا يجوز!!....فقال له الرجل:كيف لا وأنت تقبلها؟ فأجابه مالك بلسان الحال أنه يعلم ما يفعل،وأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان!!....وقال له بلسان المقال:أرأيت إن كنت آثما فهل تريد أن تبوء بإثمي وإثمك؟!! وقد ذكر الذهبي في إعلامه بعض من تلك الهدايا والعطايا والمنح والثروة الهائلة التي خلفها مالك،فقال:خلف مالك خمس مئة زوج من النعال،ولقد اشتهى يوما كساء قوصيا،فما مات إلا وعنده منها سبعة بعثت إليه.....قال يحي بن يحيي: إنه باع منها من فضلتها بثمانين ألفا.... لذلك عندما ظهرت أفكار المعارضين لسلطة الخلافة على السطح،وأصبح لها رموز ومفكرين في بغداد،وبدأت هذه الأفكار تنتشر وتنساب إلى قلب المدينة المحافظة،وهنالك أحس الإمام مالك بخطورة حرية الرأي على النظم الوراثية المستبدة،فقام بموجب القانون الاساسي الذي يجمع بين السلطتين السيف،والقلم ..... فقام بواجب الدفاع مستخدما في ذلك آليات الدفاع كأصدار فتاوى تكفيرية واستباحية ضد المخالفين والمعارضين والمتمردين في إطار المعادلة الثنائية(أهل الأهواء،مقابل أهل السنة)،(وأهل الفرقة،مقابل أهل الجماعة)،بغية الحفاظ على الوضع الراهن ومن أجل ذهب السلطان !!!...ولا يخفى أن هذه الفتاوى وهذا الاسلوب مع المخالف في الرأى يضع كلية الحرية وقيمة احترام الرأى الأخر عند السلف موضع الشك والريبة!!
وعند النظر للتاريخ من منطق الاستفهام وليس الإستذكار يتضح أن القدرية كانت فكرة سياسية قبل أن تكون فكرة عقدية كغيرها من الأفكار والشعارات،كفكر الخوارج،والشيعة،وأهل السنة،بعبارة أخرى أن فكرة القدرية في بعدها السياسي تدور على رد مزاعم بعض الخلفاء على أنهم استولوا مقاليد حكم البلاد والعباد بقدر الله،وأن قدر الله على الناس السمع والطاعة وعدم منازعة أهل السلطة،(يعني الإيمان بنمط التوريث،والرضى بمنطق الفكر الجبري الكسروي)!!....وأيضا عندما استشرت عمليات إرتكاب المعاصي والفواحش في الطبقة الحاكمة استدعيت لها النصوص والفتاوى التي تتحدث على أن مرتكب المعاصى في المشيئة والقدر،ولعل اختلاف الناس في مرتكب المعاصى هل هو مخلد أو في المشيئة أو في منزلة بين المنزلة كانت ردود فعل على معاصى الطبقة الحاكمة وما يترتب عليها من اسقاط شرعية الحكم ،ومراتب أحكام الخروج عليها.....ويروى أن غيلان منظر القدرية وقف في سوق دمشق يبيع حوائج الأمويين قائلاً:تعالوا إلى متاع الخونة،تعالوا إلى متاع الظلمة،تعالوا إلى متاع من خلف الرسول في أمته بغير سنته وسيرته.....فمر به هشام بن عبد الملك فغضب ونذر إن تولى الخلافة بعد عمر بن العزيز ليقطعن يدي غيلان ورجليه،وقد فعل ذلك وللأسف بفتوى الإمام الأوزاعي!!... ورغم ما تقدمه السلطة الدينية للسلطة السياسية من خدمات لا تنكر إلا أن السلطة السياسية على الرغم من أنها تسعى جاهدة لإحتواء السلطة الدينية إلا أنها دائما وابدا تضعها موضع الشك،مخافة أن تستعمل الأخيرة سلطتها الدينية في تأليب الرأى العام بتحريضه ولو بالاشارة على عدم شرعية هذه النظم الكسروية.....لذلك تضع السلطة السياسية بديلا مستمرا،ووجوها متجددة لضبط توازن السلطة الدينية،واختراقها ومراقبتها عن كثب.....فمثلا أبو جعفر بن سليمان بن عبدالله بن العباس واليّ المدينة،نهى مالكا عن التحديث بحديث:ليس علي مستكره طلاق......ثم دس إليه من يسأله،فحدثه به على رؤوس الناس،فضربه بالسياط!!....
مالك لم يغيب عن وعيه وإدراكه بأن الخليفة يحكم البلاد والعباد بسلطة؛السيف والجاه والمال،وليس بقيم العدل والشورى والحريات لذلك تمكن من إنقاذ ثيابه من أن تتلطخ بدم عالم من العلماء الاحرار من جراء ضرب سيف الخليفة الكسروي،إلاإنه لم يتمكن من إنقاذ بدنه من سياط أؤلئك الأكاسرة، حيث ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان!!...وعلى الرغم من وضوح نمط سياسة ملوك الجبر والعاض عند الإمام مالك إلا أنه لم يجد بدا من مجاراة هذه الأنظمة بفتاوى تجرم الخارجين عليها،وتحرم مساندة المعارضين لها،بل تستبيح دماء الناقدين لها في نظام ملكها وأخلاق ساستها؛كالقدرية والمعتزلة والخوارج والشيعة وغيرها.......وفي المقابل تفاوت سياسة الخلفاء في خطها التاريخي في تعاملها مع الإمام مالك من التقريب إلى الجلد بالسياط،ويبدو أن ذلك الخط المتعرج جعل مالك في أخر عمره يمارس عملية نقد ذاتي واسعة على مسيرته،حملته في المحصلة النهائية إلى قرار اعتزال هؤلاء الظلمة وعدم مناصرتهم ،فاختار قطع الأسباب والمسببات التي قد تحمل من جديد إليهم !!... مما لاشك فيه أن لزوم الإمام مالك بيته،وترك الجماعة والجمعات،والصلات الاجتماعية،كان بمثابة طلاق بائن مع السلطة الحاكمة...ولا يخفى أن تدافع الناس للانظمام إلى صفوف الحركة الانقلابية بقيادة محمد النفس الزكية،ولزوم الإمام مالك بيته،وانسحابه الشامل والكامل من كل مناشط الحياة العامة والخاصة،وله موقف سياسي واضح حيث كان مالك هو مفتى الناس ومحرضهم على فك الارتباط مع السلطة الكسروية القائمة آنذاك،كما وأن امتناعه عن ذكر أسباب لزوم بيته للناس ،يشير إلى ما ذهبت إليه من رأي ،فقد كان مالك يقول للناس:ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره !!....فإذا كان وعي الإمام مالك بخطورة تكبيل العقول والجوارج،وإلغاء قيمة الحريات،قد تأخر إلى أخر عمره،فإنه لم يجعله يتهيب خوض ممارسة نقد السلطة الكسروية-حليفها السابق-ولو بالسر في صورة من صور ممارسة الرفض الدراماتيكيا....علما بأن تصور هذا المشهد السياسي بين الخلفاء والعلماء تصويرا فنيا بكل حيثياته البيئية يبقى عنصرا مؤثر تأثيرا قويا في عملية تحرير القاري من هيمنة التاريخ والقراءة التمجيدية،إلى الإنفكاك والقراءة النقدية،وبالتالي التعرف على هوية خاطفي الحرية،وقيمة الرأى الآخر !! .....
على النقيض من مالك كان أبن أبي ذئب كان شجاعا واقفا ضد ممارسات السلطة الحاكمة التي غيبت الحريات والعدل والشورى،ولا يخشى في الله لومة لائم،فقد سأله أبو جعفر(الخليفة)يوما عن نفسه وسياسته:فقال: أنشدك بالله كيف تراني؟ فقال له:اللهم لا أعلمك إلا ظالما جائرا !!... كذلك انتقده في سياساته المالية،فقد قال:للمنصور يا أمير المؤمنين قد هلك الناس فلو اعنتهم بم في يديك من الفئ!!... لهذا وجهت سلطة الخليفة حلفائها( سلطة القلم) لضرب ابن ذئب بسيف الفتوى وتشويه صورته عند العامة والخاصة،حيث قام فريق الموالاة(القلم)بوصف ابن ذئب بأنه قدري(أي ناقد لنمط توريث الحكم،وسياسة توزيع الأموال،وتبرير إرتكاب معاصى الأمراء)،فقال البغدادي:(وكانوا( يقصد الفقهاء)يرمونه بالقدر وما كان قدريا لقد كان ينفى قولهم ويعيبه)!!...
حمدى السعيد سالم صحافى ومحلل سياسى
#حمدى_السعيد_سالم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انفراد :محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في بورسعيد سبتمبر19
...
-
الصقر وثقافة التغيير
-
موتوا بغيظكم جيشنا بيعمل مكرونة وصلصة
-
أنت مين ؟!
-
الحب فى زمن الثورة
-
هزيمتنا فى حرب 48 سببها خيانة الأردن للجيوش العربية وليس الأ
...
-
إلى حبيبتى اقول :
-
بالبلدى الفصيح :( لايصح إلا الصحيح )
-
أسرار عزل مرسى
-
خط الفقر وخط الفكر الثورى
-
لعنة الحسين هى سبب بلاء العراق
-
أمنيات حائرة
-
داعش هى رامبو الأمريكان الجديد
-
أين نخوة المصريون؟
-
الفيل الأبيض
-
كفاية بقر بقى !.. أفهموا يرحمكم الله
-
الفرق بين كم المشاركة وكم التصويت
-
امنحوا مصر والسيسى فرصة كى يتنفسا
-
اسلام محمد عبدالحليم بطلا لمصر وافريقيا
-
عندما يستخدم الإعلام كأفيون لتغييب العقل
المزيد.....
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
-
شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه
...
-
الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع
...
-
حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق
...
-
بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا
...
-
وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل
...
-
الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا
...
-
وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني
...
-
تأثير الشخير على سلوك المراهقين
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|