|
كنا ننتظر دستوراً
سيار الجميل
الحوار المتمدن-العدد: 1279 - 2005 / 8 / 7 - 12:10
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
اثارت مسودة الدستور الدائم للعراق الجديد والتي اعلنتها لجنة كتابة الدستور العراقي ردود فعل عنيفة لدى مختلف الاوساط السياسية والثقافية النخبوية وحتى الشعبية والحزبية العراقية، بسبب ما تنطوي عليه من أهداف ومبادئ ومضامين مشوهة لا يمكنها ان تكون قانونا أساسيا للعراق والعراقيين. واعتقد ان نخبا وجماعات واحزابا وجماهير عراقية قد خدعت خدعة كبرى على امتداد قرابة سنتين ونصف السنة من زوال النظام السابق على امل ان يبدأ فجر جديد للعراق تتحقق فيه المساواة والعدالة والتحرر وبدايات الديموقراطية خصوصا ان العراق قابل لأن يبدأ عهدا تاريخيا جديدا ويكون مشروعا مدنيا حضاريا على ايدي كل ابنائه وإن انكفأت سلطته المركزية، ومهما كبرت حجوم تناقضاته المريرة. ولكن المؤسف له حقا، ان العراق سار في طريق صعب ضمن المراحل السياسية الفاشلة التي مر بها وهو يعالج اوضاعه المزرية ويلعق جراحاته ودمائه.
لقد كان العراقيون يأملون بأن يبدأ عهد جديد يتساوى فيه الناس بكل اطيافهم والوانهم واعراقهم واديانهم واساليبهم. وذلك من خلال دستور علماني مدني صرف يوحدهم على اهداف وطنية ومبادئ حضارية، ولا يفرق بينهم أبدا، ومضامين تكفل بناء مشروع حضاري للعراق والعراقيين من كل النواحي خصوصا ان المواطنة والوعي الوطني من اهم ما يمكن التركيز عليه دستوريا. لكن يبدو ان سياسات معينة قد سار عليها القادة الجدد بمباركة الاميركيين الذين يبدو انهم يصرّون على أن يجعلوا العراق حقلا لتجاربهم الصعبة بالقضاء على الارهاب الدولي في منطقة الشرق الاوسط!!
ان العراق بحاجة فعلا الى الديموقراطية، ولكن لا ان تكون اسلوبا يستخدمه الاسلاميون من الدعويين او المجلسيين او الاخوانيين او غيرهم لتحقيق شعاراتهم غير القابلة للتطبيق. وهناك اولويات لا يمكن التغاضي عنها باسم الديموقراطية، خصوصا ان العراقيين يعانون منذ زمن طويل من انتفاء الامن والنظام ونقص في الخدمات والكهرباء والماء وكل متطلبات الحياة الكريمة.
إن العراق الذي يطمح ابناؤه أن يكون فعلا بلدا نموذجيا لقوة امكاناته المتنوعة، لابد له من الاستقرار السياسي وان يجد في صفوفه من له القدرة على ان يقود دفته الى شاطئ الامان في خضم هذا العصف المأكول الذي يأخذ به من دون ان ينال طعم الاستقرار في اي يوم من الايام. ان العراقيين الجدد الذين تولّوا قيادة العراق ، كان عليهم جميعا ان يعلنوا عن اجندتهم الحقيقية قبل ان يتسّلموا حكم العراق وكان عليهم ان يعملوا بمبدأ الشفافية والصراحة لا ان يعلنوا مسمّيات عدة ويستعيروا جملة شعارات يوهمون بها الناس ردحا من الزمن كي يعلنوا اليوم عن اجندة اجدها ويجدها غيري لا تمت للهوية الوطنية العراقية بأي صلة! إن على من يحكم العراق والعراقيين ان يكون فوق كل الانتماءات وكل الاتجاهات والنزعات وضد كل التماهيات الا التماهي مع العراق والعراقيين.
ان ما اعلن في مسودة الدستور التي طرحت على العراقيين يشكل مخاطر جمة لا قِبَل للعراقيين بتحملها. وفي مثل هذا الظرف الصعب الذي تزداد فيه الاحتقانات والاضطرابات وتطغى عليه الاحقاد والكراهية بفعل الانقسامات التي اثارتها ممارسات المحاصصة الطائفية تحول العراق من سجن كبير عاش العراقيون في اقبيته على عهد صدام حسين الى كانتونات حزبية وطائفية تسعى جميعا باسم مسودة دستور دائم ان تمزّق العراق اشلاء من خلال مسمّيات شتى! ان العراقيين الذين نحرتهم التناقضات الاجتماعية العنيفة وزادت من تنافرهم جملة الانقسامات السياسية وخصوصا بعد سقوط الطاغية صدام حسين لا يمكنهم ان يبقوا ساكتين على مواد دستور غريبة جدا لا تمت لهم بأي صلة، بل لم يشعروا انهم امام دستور حضاري ووطني يحمل مشروعا لحياة جديدة للعراق والعراقيين.
العراق لم يكن في اي يوم من الايام جمهورية اتحادية اسلامية، اذ لم يكن منقسما في السابق حتى يعلن عن تركيب اتحادي لنفسه. ولم يكن في يوم من الايام دولة دينية يحكمها رجال دين (= ملالي) حتى يعلن عن ذلك في مسودة دستور تطغى فيها النعرات الدينية والنزعات الطائفية. ان العراق لا يمكنه ان يعيش تحت قهر اي اقلية او سطوة اي اكثرية. والعراق لن يعرف الاستقرار ان اقر اي دستور أن الدين هو المصدر الاساسي للتشريع! ولا ادري كيف يعلن "مبدأ" ان يكون العراق دولة اسلامية ومسودة الدستور تتضمن مواد دستورية مأخوذة عن دساتير غربية ومنها نصوص سويسرية ونيوزلندية وكندية وغيرها؟! لا ادري كيف يريد البعض تأسيس دولة اسلامية في العراق والعراق له قوانينه الوضعية منذ العهد العثماني وهو لا يعرف في تسيير شؤون الدولة المعاصرة اليوم الا القوانين الوضعية الغربية! ان من يريد دولة اسلامية، عليه الا يستخدم اي نص من نصوص الدساتير الغربية، بل عليه ان يرجع ليطبق الشريعة والاحكام الشرعية في كل شؤون الحياة السياسية والاقتصادية.
انني اتحدى اي نظام اسلامي (باستثناء "طالبان" في افغانستان) ان يجرّد نفسه من دساتير هذا العصر وقوانينه الوضعية كي يعيش وله برنامجه السياسي ودستوره الشرعي! لا يمكن أي قوة سياسية جديدة في العراق ان تخدع كل القوى السياسية والنخب المثقفة بدستور مشوه يدعو لجمهورية اسلامية وهو يسرق بنود دساتير غربية علمانية معاصرة! كيف لكم الادعاء ان يكون الشعب مصدر السلطات وانتم تعلنون عن جمهورية اسلامية؟ كيف لكم ان تعلنوا بأن الدستور يصون الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي وتضعون بين قوسين (باكثريته الشيعية وسنته) ويحترم جميع حقوق الديانات الاخرى؟! لماذا تنكرتم للهوية الوطنية العراقية؟ لماذا تؤكدون على الطائفية في العراق؟ لماذا اضفتم قومية اخرى (الفرس) الى قوميات العراق ووضعتموها بين قوسين اثنين ايضا؟ لماذا خلطتم الاديان بالقوميات وخرجتم على العالم وقد مزقتم العراق اربا اربا من خلال قوميات لا وجود لها اصلا؟ فاذا كان الاثوريون قومية لها معالمها وتميزها وهم اصلاء في العراق، فهل غدا الصابئة المندائيون قومية وهم عراقيون اصلاء ولكن لهم دينهم ولكم دينكم؟
لماذا جعلتم "الدولة العراقية جزءاً من العالمين العربي والاسلامي" من دون ان تحترموا ارادة شعب لا يمكن ان يتنكر لعروبته ولغته وتاريخه؟ فلماذا الدولة من دون الشعب؟ يبدو انكم لم تميّزوا بين "الدولة" و"القومية" و"العروبة". كيف يمكنكم جعل الدولة العراقية وحدة واحدة ارضا وشعبا وسيادة وانتم لا تفرقون بين "الدولة" و"الوطن"؟ كيف تقررون ان يكون للمرجعية الدينية استقلاليتها وكأنكم تريدون فصلها عن العراق كما هي الحال في ايران؟ وكأن الدستور الدائم يمنحها حقا تمارسه في معزل عن العراق ازاء العراقيين؟ اين هي حقوق المرأة العراقية في مسودتكم؟ لماذا جعلتم الدولة كفيلة للحقوق الاساسية للمرأة من دون المجتمع الذي كان ولا يزال يقسو عليها؟ واين هو الشعب؟ اين هي البيئة والعناية بها؟ اين هي مستلزمات الحقوق المدنية إن ربطتم ذلك باسم دولة اسلامية؟ كيف يمكنكم ان تقرروا عن الآخرين وتصادروا رأي اجيال المستقبل بمثل هذه القيود الثقيلة؟
هذا قليل من كثير مما لابد ان يقال عن مسودة دستور دائم للعراق. فهل سنرى دستورا من نوع جديد يأتي من خلال اللجنة الحالية؟ اشك في ذلك! ولكنني اعتقد أن دستورا متطورا ومدنيا ومؤهلا لقيادة العراق ومستقبله لن يولد على ايدي اناس لم يدركوا بعد حاجة العراق الاساسية لمشروع مدني ووطني لا يفرق ولا يميز ولا يقّسم ولا يحاصص. وفي الحقيقة لا يخرب!
#سيار_الجميل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العرب في سجن مؤّبد !! متى يهندسون تفكيرهم وزمنهم ومصيرهم ؟؟
-
العرب يقتلون العرب .. لماذا ؟؟
-
الليبرالية القديمة والليبرالية الجديدة : المعاني والمبادئ وا
...
-
أسئلة ما بعد الانتخابات العراقية
-
نعم لقد انتخبنا أخيراً ! الدرس العراقي الرائع للعرب
-
لمناسبة اربعينية الراحل التونسي محمود المسعدي :الموحيات الخل
...
-
الاعلام العربي :دعوة تحّولات من بشاعة المؤامرات الى خصب الشف
...
-
معايدة سياسية وفكرية لغسان تويني لمناسبة العام الجديد 2005
-
أدونيس : الشاعر السوري الغامض : مشاركات في المرافضات والتحول
...
-
دعوة صريحة من اجل غلاسنوست عراقي
-
رسالة جديدة الى العراقيين : التفكير بالبعد الثالث بعيدا عن خ
...
-
عاتكة الخزرجي : قيثارة العراق : شاعرة وقت الشفق .. حالمة عند
...
-
عبد القادر القط :استاذ الادب العربي والنقد المقارن :مفهوم تأ
...
-
نزار قباني : شاعر الرسم بالكلمات الرائعة : نسف البنى الاجتما
...
-
المسيحيون العراقيون : وقفة تاريخية عند ادوارهم الوطنية والحض
...
-
محمد شكري : الروائي المغربي المعروف صاحب الخبز الحافي :اعترا
...
-
البنية الفوقية والبنية التحتية : المفاهيم المستترة والمعاني
...
-
الى متى تبقى بلقيس في قفص الاتهام ؟ وهل من ركائز عراقية جديد
...
-
حنا بطاطو : مؤرخ العراق المعاصر مؤرخ غريب الاطوار لن يكتب أح
...
-
الدكتور سّيار الجميل لم يوّقع على اي بيان او رسالة اصدرهما ا
...
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|