هذا موسم العمل على تغيير نظام الرئيس صدام
حسين وفقـًا لما يؤكده بأعلى أصواتهم المسئولون الأمريكيون والبريطانيون
.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف
التغييري الكبير تحشد القوات والطائرات والأساطيل البحرية ، وتعقد الاجتماعات
العلنية والسرية في واشنطن ولندن وعواصم أخرى مع زعماء المعارضة العراقية وأركانها
، ويتم إعداد الخطط المختلفة وتسريب المعلومات والتحليلات والأخبار المتـناقضة
أحيانـًا ، وتوزيع التوقعات .
لكن لا أحد يتوقف ويسأل : ماذا جرى ؟ لماذا لا يحدث هذا التحول الآن ؟ لماذا
استيقظ الأمريكيون ، ومعهم البريطانيون هذه الأيام وبعد مرور ما يقارب من اثني عشر
عامـًا تحرير الكويت والامتـناع آنذاك عن إرسال القوات الأمريكية إلى بغداد لإسقاط
النظام .. لماذا استيقظوا اليوم بهذا الشكل وكأنهم اكتشفوا ، للمرة الأولى أن صدام
حسين لا يزال حاكم العراق وأن هذا الأمر لا يطاق ؟ ما الذي حدث بعدما تعايش
الأمريكيون وتكيفوا طوال هذه السنوات مع صدام حسين بطريقة توحي أنهم مستفيدون من
استمراره في السلطة إذ حققوا بوجوده كل ما يريدون وبأقل التكاليف والنفقات
.؟!
ما الذي حدث وصدام حسين لم
يتجاوز أي خط أحمر ولم يرتكب أخطاء أكثر من العادة ولم يفعل أكثر مما فعله طوال هذه
السنوات ؟
هل العملية كلها
مسرحية كبيرة أم أنها على العكس ، وجدية وستظهر آثارها ونتائجها قريبـًا في الساحة
العراقية ؟
لا يمكن الإجابة عن
هذه التساؤلات ومعرفة حقيقة ما تخطط له أمريكا بالتعاون مع بريطانيا إلا بالتوقف
عند مسألتين أساسيتين :
المسألة
الأولى : لماذا لم يتم إسقاط نظام صدام حسين فعلا يوم كانت الفرصة متاحة تمامـًا
لتحقيق ذلك أي خلال عملية تحرير الكويت ؟
المسألة الثانية : هل انتهى دور صدام حسين اليوم في نظر
المسئولين الأمريكيين وحان بالتالي وقت إسقاطه ؟
نبدأ بالمسألة الأولى فيبدو واضحـًا من شهادات الذين خططوا
ونفذوا عملية تحرير الكويت ، سواء أكانوا عربـًا أم أمريكيين أم أوروبيين ، أن هناك
سببين رئيسيين منعا الولايات المتحدة ودول التحالف من إرسال قواتها إلى بغداد
لإسقاط نظام صدام حسين بعد الانتهاء من تحرير الكويت .
السبب الأول هو أن الدول العربية المشاركة في هذا التحالف
عارضت بشدة دخول القوات الأمريكية أو أية قوات أجنبية إلى بغداد لاحتلالها إلى أن
يتم إسقاط النظام العراقي بالقوة ومجيء نظام جديد آخر ، واعتبرت هذه الدول العربية
أن المهمة انتهت عند تحرير الكويت من الاحتلال العراقي وعند ضرب العراق بشدة
لمعاقبته على ما فعل ، كما اعتبرت أن قرارات مجلس الأمن لا تدعو إلى تغيير النظام
في بغداد .
إضافة إلى ذلك اعتبر
الرئيس الأمريكي جورج بوش أن إرسال قوات التحالف إلى بغداد سيؤدي إلى حرب شوارع
دامية وإلى سقوط عدد كبير من القتلى في صفوف الأمريكيين ، كما اعتبر عدد من كبار
المسئولين العرب أن أي نظام يفرضه التحالف العربي- الدولي بالقوة على العراقيين لن
تكون له أية قدرة على البقاء والاستمرار .
السبب الثاني لعدم إرسال قوات التحالف إلى بغداد لإسقاط
النظام بعد تحرير الكويت هو حرص دول التحالف أو أغلبيتها الكبيرة على بقاء العراق
موحدًا والخوف من أن يؤدي غزو هذا البلد وكل ما سيرافق ذلك من عمليات إلى تفكيكه
وتقسيمه إلى دويلات وتعريض المنطقة بأسرها لأخطار كبيرة .
وفي الواقع أن عملية تحرير الكويت رافقتها
مخاوف جدية عربية ودولية من وجود أخطار تهدد العراق في حال انهارت قواه العسكرية
تمامـًا . الخطر الأول إيراني ويمكن أن يتخذ شكل تشجيع ودعم الشيعة في العراق على
إقامة دولة لهم في الجنوب ترتبط بعلاقات وثيقة أو تحالفية مع طهران ، أو شكل تشجيع
الشيعة على تسلم الحكم في العراق بدعم من القيادة الإيرانية ، وبالتحالف مع بعض
العناصر المعارضة لصدام حسين .
الخطر الثاني المحتمل كردي بحيث يؤدي إقامة دولة كردية في شمال العراق تجذب
إليها أعدادًا كبيرة من أكراد تركيا وإيران وسورية .
الخطر الثالث أن يؤدي انهيار العراق وتفكيكه إلى تشجيع السنة
في وسط البلاد إلى الانضمام إلى سورية أو الأردن على أساس أن ما تبقى من العراق بعد
قيام دولتين شيعية وكردية لا يشكل دولة قائمة بذاتها خصوصـًا أن معظم الثروات
النفطية هي في الجنوب والشمال ، ونتيجة هذه المخاوف كلها وبهدف منع حدوث هذه
الاحتمالات الخطرة التي تهدد بتفجير نزاعات متعددة دينية وحدودية وسياسية وعسكرية
في المنطقة ، تم التفاهم بين دول التحالف على ضرورة وأهمية المحافظة على العراق
ككيان موحد مما يعني عدم إرسال قوات التحالف إلى بغداد والامتـناع عن القيام بأي
عمل مباشر لإسقاط نظام صدام حسين بالقوة .
إضافة إلى ما سبق هناك سببان آخران مهمان وغير معلنين
لامتـناع دول التحالف عن إرسال القوات الحليفة إلى بغداد في آذار "مارس" 1991م
لإسقاط نظام صدام حسين .
السبب
الأول المهم وغير المعلن هو أن المسئولين في أمريكا وبعض دول التحالف اعتبروا آنذاك
أن من الأفضل أنم يقوم نظام صدام حسين بنفسه تدمير ما لديه من أسلحة دمار شامل وذلك
من خلال التعاون الخاضع للرقابة الدولية مع اللجنة المكلفة بإزالة أسلحة الدمار
الشامل العراقية ، على أساس أن المسئولين في هذا النظام يعرفون أكثر من سواهم أسرار
هذه الأسلحة ويملكون الوثائق المتعلقة بإنتاجها أو اقتـنائها طوال السنوات الماضية
، أما إذا جاء نظام عراقي جديد بعد تحرير الكويت فستكون عملية تجريد العراق من
أسلحة الدمار الشامل أكثر صعوبة وتعقيدًا ، كما أن استمرار وجود صدام حسين في
السلطة يعني " شرعية أقوى" ، إذا جاز التعبير ، لإزالة هذه الأسلحة التدميرية لأنه
هو المسئول عن غزو الكويت وكل ما نتج عن هذه العملية من خراب ودمار ومصائب
.
السبب الثاني المهم وغير
المعلن للامتـناع عن إسقاط النظام العراقي بعد تحرير الكويت هو أن وجود صدام حسين
في الحكم يبرر بقاء العراق معزولا ومحاصرًا وخاضعـًا لعقوبات دولية عدة فترة طويلة
، وإلى أن يتم تجريد هذا البلد من أسلحة الدمار الشامل وإضعاف قدراته وطاقاته
المختلفة التسليحية وغير التسليحية وانتـزاع مجموعة ضمانات منه بحيث لا يعود يشكل
أي خطر أو تهديد محتمل على دول الخليج العربي أو على أية دولة أخرى .
لكن الأمر سيكون مختلفـًا إذا جاء نظام عراقي
جديد آخر بعد تحرير الكويت وتبرأ من عملية الغزو ، إذ لا تستطيع دول التحالف حينذاك
معاقبة النظام الجديد بمثل هذه القسوة والشدة وتحميله مسئولية ما ارتكبه نظام صدام
حسين .
لكن هذين السببين غير
المعلنين كانا ماثلين في أذهان مخططي السياسة الأمريكية حيث تساهلوا مع بقاء صدام
حسين في الحكم ، إذ رأوا حسنات عدة في ذلك من وجهة نظرهم .
فقد كان الدور المطلوب من صدام حسين في نظر
المسئولين الأمريكيين هو "المساعدة" على إضعاف العراق وتجريده من قواه وقدراته
الأساسية ، بمجرد بقائه في الحكم بعد تحرير الكويت
.
إذن هل انتهى دور صدام حسين اليوم في نظر المسئولين
الأمريكيين ولم تعد هناك حاجة إليه وإلى بقاءه بالحكم .؟!
الواقع أن استمرار صدام حسين في الحكم ضمن
للولايات المتحدة أفضل وأنسب صيغة حل وأقلها تكلفة ومخاطرة ومجازفة ، كما أن
استمرار وجوده في الحكم شكل أساس السياسة الأمريكية تجاه العراق ومنطقة الخليج طوال
السنوات الاثني عشر الماضية .
فما الذي حدث لكي تبدل الولايات المتحدة موقفها وتعلن مع بريطانيا تبنيها
لسياسة جديدة تهدف إلى العمل على إسقاط نظام صدام حسين .؟!
وهل دقت ساعة التغيير للنظام في بغداد ؟!
المراقب لتصريحات المسئولين
الأمريكيين الأخيرة يكتشف أن ما يجري ما هو إلا عملية سياسية- إعلامية نفسية لا
أكثر ، من خلال مسرحية سياسية- إعلاكية يوحي بواستطها الأمريكيون والبريطانيون أنهم
يريدون التخلص من النظام العراقي من دون توفير وتأمين الإمكانات الفعلية والحقيقية
لإحداث التغيير في العراق ..!!
أما التغيير في العراق فينـتظر إما حدوث إنقلاب عسكري مفاجئ من الداخل قد
يأتي قريبـًا أو لا يأتي ..!!
وفي انتظار ذلك تواصل أمريكا ودول أخرى عملية التعايش والتكيف مع نظام صدام
حسين ، واستغلال وجود هذا النظام لإبقاء العراق محاصرًا ومعزولا وضعيفـًا وخاضعـًا
لمختلف أنواع العقوبات وغير قادر على التأثير على مسار الأحداث في الموقف
.
*
كاتب ومحلل سياسي- لندن