أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - معن الطائي - شبح ماركس ورعب نهاية التاريخ















المزيد.....


شبح ماركس ورعب نهاية التاريخ


معن الطائي

الحوار المتمدن-العدد: 4521 - 2014 / 7 / 23 - 13:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



يتحدث الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في كتابه (أطياف ماركس) الصادر عام 1993عن فكرة عامة أو هاجس فلسفي هيمن على المناخ الثقافي والتفكير الفلسفي في الغرب في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو هاجس النهاية. يقول دريدا "فالموضوعات الآخروية ل "نهاية التاريخ" و"نهاية الماركسية"، و"نهاية الفلسفة"، و"نهايات الإنسان"، و"الإنسان الأخير"، إلى آخره، كانت في سنوات 1950، أي منذ أربعين سنة، تشكل خبزنا اليومي. وخيز القيامه هذا، كان في فمنا بشكل طبيعي من قبل، بشكل طبيعي إلى درجة أني كنيته بعد فوات الأوان، في عام 1980، "تبر القيامة في الفلسفة""(1).
وحسب دريدا، أخذ مجموعة من المفكرين والفلاسفة في الغرب ينظرون لسرديات النهاية ويكتبون عنها بحماسة ظاهرة، وهؤلاء يطلق عليهم دريدا (كلاسيكي النهاية) ويرى بأن كتاباتهم شكلت ما يدعوه ب(قانون القيامة الحديث). وقانون القيامة الحديث هو التنظير الفكري والثقافي والفلسفي لنهاية التاريخ، نهاية الإنسان، نهاية الفلسفة، نهاية هيغل، ونهاية ماركس، ونهاية نيتشه، ونهاية هايدغر(2). إنها سرديات النهاية لكل المظاهر الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عرفها الإنسان على مستوى كوني منذ نشأة الحضارات الأولى وحتى اللحظة الفاصلة التي أحدثت هذه الفجوة التاريخية أو الانقطاع في استمرارية الظاهرة التاريخية بوصفها تخضع لدينامية داخلية تطورية خاصة. تلك اللحظة التي جاءت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة وأشرت انهيار المشروع العقلي الحداثي الغربي وسقوط التفاؤل البهيج لأدبيات عصر الأنوار.
يشرح دريدا في كتابه (أطياف ماركس) بأن الحديث عن سرديات النهاية يؤشر حالة من التعطيل الكلي والنهائي لجملة من الأنساق الفكرية والتصورات والمقولات الفلسفية وما ينتج عنها من ممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية سادت المجتمعات البشرية لعدة قرون. ولم يعد تراكم الخبرة العملية والعلمية والمعرفية يعني تحقيق المزيد من الضمانات لاستمرارية تقدم البشرية نحو غايات محددة في التاريخ ترتبط بخطاطات شمولية لفسفات ونظريات متنوعة تتحدث عن إمكانية الوصول إلى مرحلة الرفاهية الكاملة والسلام الشامل والتقدم العلمي المضطرد. وبهذا يصبح الحديث عن النهايات غير مرتبط بنهاية التاريخ البشري بوصفه تعاقب الأحداث الفعلية على أرض الواقع أو السلسلة المتعاقبة من الأزمنة، ولكنه مرتبط بنهاية تصورات معينة عن المسار المتصور لمنطق الخط التطوري للتاريخ البشري.
كانت التحولات الكبيرة التي شهدتها المجتمعات البشرية في النصف الثاني من القرن العشرين السبب الفعلي في إطلاق وترويج سرديات النهاية على نطاق واسع، حيث ساهمت تلك التحولات في تقويض "أي تاريخ موضوعي ومتجانس للأحداث. يتناول دريدا أطروحات فوكوياما حول نهاية التأريخ بالكثير من التشكيك والسخرية، ويقارن بينها وبين أطروحات أكثر عمقاً من الناحية التحليلية والمنهجية لفيلسوف فرنسي من أصل روسي هو ألكساندر كوجيف. يعتبر دريدا أن ما يقوم به فوكاياما هو نوع من التشويش والانكار المتعمد من أجل تدعيم النموذج الأمريكي لليبرالية الديموقراطية، هو يقوم بذلك الدور بمهارة كبيرة. "فهو من جهة يمنح الثقة لمنطق الحدث التجريبي الذي يحتاجه عندما يتعلق الأمر بالهزيمة النهائية للدول الماركسية كما يقال وبكل ما يمنع الوصول إلى الأرض الموعودة لليبراليات الاقتصادية والسياسية، ولكنه من جهة أخرى ينزع الثقة باسم المثالية العابرة للتاريخ والطبيعة عن منطق هذا الحدث نفسه، التجريبي كما يقال"(3).
يعلن فوكوياما انهيار جميع أشكال الانظمة السياسية والاقتصادية والثقافية التي انتجتها الحضارات البشرية والمجتمعات الحديثة بعد أثبتت فشلها في تحقيق الرفاهية والحرية واحترام حقوق الإنسان، ولم ينجح في الصمود سوى النظام الليبرالي الديموقراطي على الطريقة الأمريكية. فالنموذج الأمريكي هو الحالة المثالية لنهاية التاريخ الإنساني بوصفه قائماً على مفهوم الصراع بين الحضارات والثقافات المختلفة. بينما يرى ألكساندر كوجيف أن هناك نماذج متنوعة وبدائل أثبتت نجاحها بعيداً عن النموذج الأمريكي. يشير دريدا إلى الانطباعات التي خرج بها كوجيف بعد عودته من زيارته لليابان عام 1959، "ولقد استخلص كوجيف إثر عودته من زيارة قام بها، بوصفه موظفاً كبيراً من موظفي المجموعة الأوروبية، بأن الحضارة اليابانية "ما بعد التاريخية" قد سلكت طرقاً متعارضة تماماً مع "الطريق الأمريكي". وإن السبب في ذلك ليعود إلى "التعاظم الخام" للشكلانية الثقافية في المجتمع الياباني. فلقد أعطت اليابان حينئذ لنفسها هذه التسمية بمرح عميق، ومجنون، وضالع في عالم الحلول المتخيلة"(4).
رفض كوجيف فكرة أن الليبرالية الديموقراطية الغربية هي لحظة نهاية التاريخ الإنساني، نهاية الشيوعية الماركسية. وكوجيف لايرفض فكرة نهاية الشيوعية الماركسية بوصفها النهاية التي تنبأ بها كل من هيغل وماركس للتاريخ، ولكنه يرفض تقبل فكرة هذه النهاية بوصفها تعزيزاً للنموذج الأمريكي، والذي يدعوه هو بالكاليفورني. فهناك منافسة شديدة بين النظامين الرأسماليين الأمريكي والياباني. هذه النهاية الأمريكية تختزل الإنسان إلى الحيوانية.
فالحديث عن الحريات ومجتمعات ما بعد التقسيم الطبقي ومجتمعات الوفره التي يستطيع الجميع فيها الاستهلاك والإمتلاك هو حديث دعائي فج يتعامى عن هيمنة النزعة المادية وتراجع القيم الإنسانية الحقة في مجتمعات الليبرالية الديموقراطية الأمريكية. يؤيد دريدا أراء كوجيف، ويظهر شكاً كبيراً في تقبل فكرة أن الطريقة الأمريكية ومظاهرها المختلفة هي النمط الثقافي لفترة ما بعد التأريخ.
يصر فوكاياما على أن ما يحدث مع نهاية القرن العشرين هو حالة الحضور الكلي للنموذج الأمريكي، حيث يتوقف التاريخ ويتحول لحاضر أبدي، إنها اللحظة اللانهائية للحاضر، حاضر سرمدي. ويستبدل فوكوياما النموذج الشيوعي الماركسي الذي وصفه ماركس بأنه لحظة نهاية التاريخ، كما تصوره هيغل من قبله بوصفه ارتقاء تدريجي جدلي نحو غاية محددة، بالنموذج الأمريكي لليبرالية الديموقراطية. يسلم فوكوياما بمقولات هيغل وماركس وهايدغر عن إمكانية تحقق لحظة أبدية في المستقبل تنحل فيها الصراعات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية ويتعطل عندها مفهوم التطور الجدلي المتعاقب للظواهر التاريخية، ولكنه يعارض الترويج للشيوعية الماركسية بوصفها التحقق المثالي لتلك اللحظة السرمدية. فجميع الدول والثقافات على تنوعها واختلافاتها تسعى بجهد حثيث من أجل تبني أو إعادة إنتاج النموذج الأمريكي على كافة المستويات. لايرى دريدا هذه النهاية، ويقوم بقلب المفاهيم والتصورات على طريقته لتتحول لحظة النهاية المفترضة إلى لحظة بدايات جديدة. "هنا تبدأ بالتحديد تاريخانية التاريخ، وهنا أخيراً يكون لها الحظ في أن تعلن عن نفسها وفي أن تعد نفسها. وهنا حيث ينتهي الإنسان، وينتهي متصور محدد للإنسان، فإنه هنا تبدأ الإنسانية المحضة للإنسان، للإنسان الآخر بوصفه آخر. أو هنا أخيراً يكون له الحظ في أن يعلن عن نفسه وفي أن يعد نفسه"(5).
نهاية التاريخ هي نقطة انطلاقة جديدة نحو الطابع الأكثر جوهرية لمفهوم التاريخ والإنسانية. ولن تكون هذه النقطة هي النموذج الأمريكي لمجتمع الاستهلاك الفائق والسرعة والتجميع العشوائي للظواهر والصور والترفيه والمتعة السطحية والدعاية والإعلان والصورة المثالية المرضية للجسد الإنساني والذي تحول إلى عارضة متحركة للترويج عن سلع ومنتجات تجارية بحتة. فقد تشيء الجسد الإنساني، تماما كما تشيأت الروح الإنسانية، من خلال نمط العمل والإنتاج أولاً، ومن خلال صورة الممثل الهوليودي النجم والرياضي الشهير بوصفهما التجسيد الحضاري المادي لصور الآلهة اليونانية والأغريقية القديمة. وهذا بالتحديد ما يطلق عليه كوجيف بحيونة الإنسان، ويرفض التسليم بأن تلك الحيونة هي اللحظة النهائية الأبدية للتأريخ البشري.
والسؤال المركزي هنا هو (هل جاءت معارضة دريدا لأطروحات فوكوياما من منطلق المحاججة الفكرية، أم من منطلق التمركز الذاتي، في طابعه الفرنسي الاستعلائي الذي لا يقبل بالتسليم بإمكانية نهوض أي فكر وأي فلسفة وأي ثقافة خارج حدوده الجغرافية؟).
قد يكون دريدا نفسه منتبهاً لهذه الحالة، على افتراض أنها حقيقة واقعية، في معرض نقده لفكرة فوكوياما عن نهاية التاريخ. فالاشارة إلى كوجيف بالتحديد يمكن أن تكون مناورة ذكية من قبل دريدا لطرح النموذج الأوربي الغربي في نسخته الفرنسية بوصفه التطبيق الأكثر إنسانية ومعقولية من النموذج الأمريكي لليبرالية الديموقراطية.
ورغم التطابق الظاهري بين النموذج الثقافي الأمريكي والنموذج الأوروبي الغربي إلا أن المثقف الأوروبي الغربي يحرص على التأكيد على البعد الإنساني والحضاري للثقافة الأوروبية الغربية في مواجهة نزعة الأمركة. النموذج الثقافي الأمريكي، حسب المثقف الأوروبي الغربي، ما هو إلا نسخة مشوهة من النموذج الثقافي الأوروبي الغربي.
يؤكد المفكر الأمريكي بنجامين باربر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة روتجرز وصاحب الكتاب الشهير (الجهاد في مواجهة عالم المكدونالد) الصادر عام 1995، على حقيقة هيمنة النمط الثقافي الأمريكي حتى على أولئك الذين يحملون العداء والكره لهذا النموذج، " أن نزعتي الجهاد وعالم المكدونالد ناشطتان، وبارزتان معا في البلد نفسه أحيانا بل وعبر الحدث ذاته. فالمتعصب الإيراني يدير أذناً إلى الملالي الذين يدعون إلى الحرب المقدسة وأخرى إلى شاشة تلفزيون روبرت مردوخ التي تشع بدايناستي، ودوناهو، والسيمبسونز عبر الأقمار الصناعية الحائمة في الأعالي. أما المبادرون الصينيون فيتنافسون على خطب ود الكوادر الحزبية في بيكين دون إهمال متابعة امتيازات مؤسسة الـ KFC)) وفي مدن مثل نانجينغ، وهانغجو، وكسيان حيث تقوم ثمان وعشرون نافذة بخدمة مئة ألف زبون في اليوم الواحد. وفي الوقت نفسه، بادرت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية ـ حتى وهي تصارع في سبيل تجديد العقيدة القديمة، إلى الدخول في شراكة مع رجال أعمال من كاليفورنيا لتعبئة وبيع مياه طبيعية بعنوان شركة مياه القديس سبرينغز (St. Springs). ونجد القتلة الصرب منتعلين أحذية أديداس، وعاكفين على سماع مادونا عبر سماعات الووكمان الرأسية حين يقومون بالتسديد من خلال نظارات بنادق القنص على مدنيي سيراييفو المتزاحمين في سعيهم إلى ملء آنية الماء العائلية. لقد لاذ دراويش التزمت والنازيون الجدد الهائمون بموسيقى الروك لإيصال رسائلهم التقليدية إلى الجيل الجديد، في حين يعكف الأصوليون على تدبير المؤامرات الافتراضية عبر شبكة الإنترنت"(6). لاتبدو الثقافة الأمريكية مهتمة بالآراء السلبية التي يطلقها المثقفون الأوروبيون الغربيون أو المثقفون المنتمون إلى الثقافات المحلية الأخرى. فهي الثقافة التي استطاعت فرض نفسها على مستوى كوني وهزمت مختلف خصوصيات الثقافات المحلية للمجتمعات البشرية. وتظهر نبرة الانتصار ونشوة الهيمنة واضحة على مقولات المفكرين الأمريكيين اليمينيين من أمثال دانييل بل وفرانسيس فوكوياما وبنجامين باربر.
إن النزعات التي تجتاح المجتمعات البشرية في العواصم والمدن الكبيرة والصغيرة منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى هذه اللحظة لاتعدو أن تكون في مجملها اندفاعات مشبوبة من قبل الجماهير لتبني النمط الأمريكي في التفكير وأسلوب الحياة والعمل. وقد أدى تغلغل النموذج الثقافي الأمريكي في مختلف المجتمعات إلى إحداث فجوة كبيرة بين الثقافة ومظاهر التراث المحلي وخصوصية الانظمة السياسية والاقتصادية من جهة، وأسلوب التفكير والحياة والعمل على مستوى جماهيري من جهة أخرى. تلك الفجوة كانت من بين الأسباب البارزة في زعزعة الاستقرار النسبي لدول كثيرة وانهيار انظمتها الاقتصادية والسياسية، مثلما حدث مع الاتحاد السوفيتي سابقاً والحكومات الشيوعية السابقة في دول أوروبا الشرقية والدول العربية في ما يعرف بالربيع العربي.
شكلت ظاهرة استنساخ النموذج الثقافي الغربي على المستوى الجماهيري في المجتمعات المختلفة الفكرة الجوهرية لأطروحات فوكوياما حول نهاية التاريخ، ولكنه انطلق في تناولها من المستويات الاقتصادية والسياسية والفلسفية في سعيه لإضفاء الطابع الأكاديمي العلمي على تلك الأطروحات. ويشير فوكوياما في مقدمه كتابه (نهاية التاريخ وخاتم البشر) الصادر عام 1992 إلى أن أصل فكرة الكتاب تعود إلى مقال نشره في مجلة (The National Interest) عام 1989 بعنوان (هل هي نهاية التاريخ؟)، وشرح في المقال فكرته التي تنص على أن الديموقراطية الليبرالية تشكل في اللحظة الراهنة "نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية" و"الصورة النهائية لنظام الحكم البشري"، وبالتالي فهي تمثل "نهاية التاريخ"(7). لايتجاهل فوكوياما وجود الحكومات الدينية والديكتاتوريات العسكرية، ولكنه يؤكد على أن الديموقراطية الليبرالية هي أفضل ما هو متاح من أنظمة سياسية واقتصادية لحكم الدول. فالديموقراطية الليبرالية تبدو خالية من التناقضات الداخلية التي حولت معظم الأنظمة الأخرى إلى أنظمة شمولية ذات نزعة قمعية. ويبدو هذا واضحاً من خلال تحول الديموقراطية الليبرالية إلى مثال أعلى يتحتذى به من قبل جميع الشعوب التي باتت تسعى بجدية واضحة لتبني هذا النموذج الغربي أو محاولة إعادة إنتاجه ضمن النظام السياسي الداخلي المحلي. فثقافة الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع والتعددية الحزبية والبرلمانية أصبحت مطلب جميع الشعوب من أجل تحقيق قيم الحرية والعدالة وإرساء أسس المجتمع المدني.
لايتحدث فوكوياما عن التاريخ بوصفه سلسلة متعاقبة من الأحداث. فالأحداث كانت وستظل تتوالى بوصفها وقائع الممارسات البشرية على المستويات السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية. غير أن التطور التاريخي للحضارات البشرية، بوصفها عملية ارتقاء مستمر لبلوغ حالة مثالية للتنظيمات الاجتماعية، هي من وصلت إلى نقطة النهاية. ولاينسب فوكوياما هذه الفكرة لنفسه، ولكنه يردها إلى فلسفة هيغل والتعديلات التي أجراها كارل ماركس على الفلسفة الهيغيلية. "كان في اعتقاد كل من هيجل وماركس أن تطور المجتمعات البشرية ليس إلى ما لا نهاية، بل انه سيتوقف حين تصل البشرية إلى شكل من أشكال المجتمع يشبع احتياجاتها الأساسية والرئيسية. وهكذا أفترض الأثنان أن "للتاريخ نهاية": هي عند هيجل الدولة الليبرالية، وعند ماركس المجتمع الشيوعي. وليس معنى هذا أن تنتهي الدورة الطبيعية من الولادة والحياة والموت، وأن الأحداث الهامة سيتوقف وقوعها، وأن الصحف التي تنشرها ستحتجب عن الصدور. وإنما يعني هذا أنه لن يكون ثمة مجال لمزيد من التقدم في تطور المباديء الأساسية، وذلك لأن كافة المسائل الكبيرة حقا ستكون قد حُلت"(8).
من الواضح أن فوكوياما يتعمد تجاهل المساويء الكبيرة التي انطوت عليها النزعة العقلانية الأداتية في المجتمعات الديموقراطية الليبرالية. فطغيان الجانب الاقتصادي على الجانب الثقافي وعلى الهوية الفردية وسياسات الافقار الثقافي والترويج للنزعات الاستهلاكية ولانماط التسلية السطحية قد أدى بتلك المجتمعات إلى حالة من التدهور العام. فتحول الإنسان إلى سلعة في سوق العمل والاثار النفسية العميقة للاغتراب والتشيؤ وسحق الهوية الفردية وأصالتها تحت ضغط الاستهلاك الفائق واحتكار السياسة والإدارة من قبل شريحة ضيقة من المتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة وصناع القرار، يبدو بعيداً جداً عن الحالة المثالية من الاعتراف المتبادل والحرية وحق تقرير المصير التي يحاول فوكوياما أن يسبغها على الديموقراطية الليبرالية الغربية. لايعني ذلك أن العيش في ظل الحكومات الديكتاتورية والشمولية أفضل من العيش في مجتعات الديموقراطية الليبرالية، ولكن لايجب التغافل أو التعامي عن مساويء الديموقراطية الغربية بذريعة أنها تمثل أكثر الخيارات المتاحة أمام المجتمعات نجاحاً ومصداقية.
أدى الترويج المفرط للديموقراطية الليبرالية الغربية بوصفها النموذج الوحيد المتاح أمام المجتمعات الإنسانية حول العالم إلى حدوث صدامات عنيفة ومواجهات دموية بين الثقافات المحلية بتنوعها وخصوصياتها وثقافة اللديموقراطية الليبرالية الغربية المتمركزة على ذاتها. رفضت الديموقراطية الليبرالية الاعتراف بالخصوصيات المحلية، وسعت إلى إعادة استنساخ تجربتها الغربية في داخل مجتمعات وثقافات مغايرة تماماً. قادت أمريكا هذه النزعة في فرض الهيمنة والسيطرة والاطاحة بالحكومات التي لاتتقبل المباديء الديموقراطية الليبرالية ولا سياسات الاقتصاد المفتوح والسوق الحرة. وتراجع الدور الذي لعبته الدول الأوروبية الغربية في النصف الأول من القرن العشرين. ويمكننا القول بأن مقولة فوكوياما حول نهاية التاريخ كانت مقدمة منطقية مهدت لمقولة صراع الحضارات للمفكر اليميني الأمريكي صاموئيل هنتنغتون والذي تحدى الرأي القائل بأن التقدم والازدهار الاقتصادي سيقود حتماً إلى قيام ديموقراطيات مستقرة في دول العالم الثالث.
نتج عن عمليات فرض هيمنة الديموقراطية الليبرالية الغربية أسوأ الحركات والتيارات الاجتماعية والسياسية منذ الحرب العالمية الثانية، ألا وهي الأصولية الدينية. لقد تقمصت الاطراف دور المركز وتحركت بعدائية وعنف لتطبق نفس استراتيجيات الرفض والتهميش والعنف التي كان يمارسها المركز، وهكذا دخلنا في حلقة مفرغة من موجات من العنف والقتل. ولذلك كان لابد من تجاوز تلك الأطروحات النظرية والمقولات ذات الابعاد السياسية والاجتماعية والثقافية الخطيرة، والنظر إلى عالمنا المعاصر بوصفه شبكة كبيرة من الفاعلين الذين يدخلون في علاقات تبادلية غير محددة ولا محدودة، تماما كما يحدث على الشبكة العنكبوتية، ويمارس كل فاعل حضوره من خلال سياسات واستراتجيات يحددها طبيعة موقعه على تلك الشبكة.
أكد الباحث ستيوارت سم على أن صعود الأصولية الدينية وأصولية السوق الرأسمالية المتطرفة على حد سواء، يعد مؤشرا هاما لفشل السياسات الثقافية والفكرية للغرب في النصف الثاني من القرن العشرين. فقد أدت سياسات الاختزال والهيمنة إلى موجات العنف الأصولي المدمرة التي اجتاحت العالم منذ احتلال أفغانستان من قبل أمريكا وهجمات الحادي عشر من سبتمبر وحرب البلقان وحرب الخليج الأولى والثانية. ولذلك يشدد ستيورات سم على أن المرحلة القادمة يجب أن تشهد عملية إعادة بناء سرديات كبرى جديدة واستبدال النظريات الشمولية، بنظريات جديدة ذات طبيعة تكاملية تؤمن بالتعددية وتتجاوز العنف وعلاقات الهيمنة والقوة داخل الفضاء الاجتماعي، وتسمح بإقامة إمكانيات جديدة تقوم على التواصل والتكامل(9).
ولطالما حاول المفكرون اليمينيون والمحافظون أن يقدموا الليبرالية الغربية بوصفها آخر المراحل التاريخية لتطور المجتمعات الحديثة وأن النموذج الثقافي والفكري الذي طرحته لن تتم إزاحته أو لن تظهر احتمالية لاستبداله، وكل ما قد يحصل هو بعض التعديلات الطفيفة على النظام. شكل هذا التصور الأساس الفكري لأطروحات كل من دانيل بيل وجان بودريار وجان فرانسوا ليوتار وصموئيل هنتغتون، بالإضافة إلى فوكوياما. غير أن الأزمات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والكوارث الطبيعية التي توالت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وما نتج عنها من هجرات جماعية وتغيرات ديموغرافية كبيرة، والتطورات الهائلة في مجالات العلوم وتكنولوجيا الاتصالات، جعلت مفهوم الليبرالية الغربية جزءً من المشكلة نفسها وليست وسيلة للحل وتجاوز الأزمات.

المراجع:
1- جاك دريدا: "أطياف ماركس"، ترجمة د. منذر العياشي، مركز الانماء الحضاري والمركز الثقافي العربي، قضايا العصر وصراع الحضارات، ط1، ص43.
2- المصدر نفسه، ص43.
3- المصدر نفسه، ص136.
4- المصدر نفسه، ص139.
5- المصدر نفسه، ص145.
6- بنيامين باربر: "الجهاد في مواجهة عالم الماكدونالد"، في، فرانك جي. لتشنر و جون بولي(تحرير): "العولمة. الطوفان ام الإنقاذ؟ الجوانب الثقافية و السياسية و الإقتصادية"، ترجمة فاضل جتكر، ص 47.
7- فرانسيس فوكوياما: "نهاية التاريخ وخاتم البشر"، ترجمة حسين أحمد أمين، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ط1 1993.، ص8.
8- المصدر نفسه، ص9.
9- Stuart Sim :”Postmodernism and Philosophy”, in Stuart Sim (ed.): The Routledge Companion to Postmodernism”, P 12



#معن_الطائي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إعادة تأسيس الذات في الفضاء التخييلي: رواية (فلك الغواية) نم ...
- مثالية الفعل التواصلي عند هابرماس وواقعية النموذج التفاوضي
- مغالطة الحتمية التأريخية في الفكر الماركسي
- الوطن... كذبة قصة قصيرة
- المرويات الكبرى وجماليات تزييف الواقع في الثقافة الكولونيالي ...
- في اشكاليةالخطاب النقدي العربي المعاصر
- ميشيل فوكو بين التاريخية الجديدة والمادية الثقافية


المزيد.....




- رغم تحذير الجيش الإسرائيلي.. لبنانيون يبدأون بالعودة لمناطقه ...
- مسؤول استخباراتي إسرائيلي سابق: وقف إطلاق النار اختبار للبنا ...
- الداخلية الكويتية تعلن ضبط مواطن ووافد سوري ضمن تشكيل عصابي ...
- مصر: اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان يجب أن يكون توطئة لوقف إ ...
- ما هي أبرز بنود اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان؟
- بسبب تكلفة اختيار المقعد.. شركات طيران تحقق أرباحا بالمليارا ...
- خبير ألماني: -الإسلامويّون- يفضلون استخدام السكاكين في اعتدا ...
- تحديد علامة رئيسية للاضطراب النفسي
- الرقابة الروسية تحذر من خطورة تفشي فيروس -نورو-
- مسؤول كبير في -حماس-: الحركة مستعدة للتوصل إلى اتفاق بعد -وق ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - معن الطائي - شبح ماركس ورعب نهاية التاريخ