أولاً :
ممهدات انتفاضة آذار ضد النظام الصدامي :
لم تكن انتفاضة الأول من آذار 1991 ، ضد النظام
الصدامي ، وليدة ساعتها أبداً ، بل كانت تلك الانتفاضة نتاج تراكمات هائلة لمعاناة
الشعب العراقي من الحكم الدكتاتوري الذي مارس منذُ مجيئه إلى الحكم عام 1968 ، أبشع
أساليب التنكيل والاضطهاد، ومصادرة حقوق وحريات الشعب ، حيث لم يمضِِ يوم واحد دون
أن يغمس صدام حسين وجلاديه أيديهم بدماء خيرة الوطنيين من أبناء الشعب ، لكي يقمع
أية معارضة للنظام الحاكم ، ولسياسته المعادية لمصالح الوطن .
ولم تسلم أية قوة
سياسية من بطشه ، بدءاً بالشيوعيين والديمقراطيين ، وانتهاءً بالقوميين
والإسلاميين، بل لقد جاوز صدام حسين كل ذلك ، ليبطش بمعظم قيادات حزبه كذلك.
لقد
سنّ صدام القوانين الجائرة ، التي تبيح له إعدام كل من انتمى إلى أي حزب سياسي ،
دون حزبه لكي يخلو له الجو لفرض دكتاتوريته على الجميع ، ولكي يصبح حر اليدين
في اتخاذ كل القرارات الخطيرة التي تتعلق بمصير الشعب والوطن ، فكان أن أقدم على شن
الحرب ضد الجارة إيران ، بالنيابة عن الولايات المتحدة ، وبتخطيط منها ، ودفع
خلالها الشعب العراقي دماء غزيرة لمئات الألوف من خيرة شبابه ، هذا بالإضافة إلى
تدمير اقتصاد البلاد ، واستنزاف ثرواتها ، وإغراقها بالديون .
وما كاد الشعب
العراقي يجر أنفاسه ، ليعود إلى الحياة الطبيعية ، حتى فاجأه صدام حسين بجريمة أخرى
، بإقدامه على غزو الكويت ، والتنكيل البشع بأبنائها ، ونهب كل ما امتدت إليه يد
النظام من أموال وممتلكات الدولة الكويتية ، وأبناء الشعب الكويتي على حد سواء .
ووجدت الولايات المتحدة ضالتها المنشودة في إقدام صدام على غزو الكويت ، لتنزل
قواتها ، وطائراتها الحربية في السعودية ، ولتملأ الخليج بأساطيلها الحربية ،
بالتعاون مع حلفائها الغربيين ، بغية توجيه ضربة قاصمة للعراق ، مستخدمة كل الوسائل
العسكرية المتاحة لها ، ومن أحدث ما أنتجته مصانعها من تكنولوجيا الأسلحة ، لتنزل
أقصى ما يمكن من الدمار بالبنية الاقتصادية والعسكرية للعراق ، وإلحاق أبلغ الأذى
بالشعب العراقي ، وفرض الحصار الاقتصادي عليه لتجويعه وإذلاله وإفراغ العراق
من كوادره وعلمائه ، والعودة به خمسون عاماً نحو الوراء .
ثم أوقفت الولايات
المتحدة الحرب في 28 شباط 1991 ، بعد أن أبدى صدام حسين كامل استعداده لتنفيذ كل ما
تطلبه الولايات المتحدة ، لقاء بقاء نظامه ، وبقاءه هو على رأس النظام .
لقد ورط
صدام جيشه وشعبه ، ووطنه ، في حرب كانت نتائجها محسومة سلفاً لصالح الولايات
المتحدة وحلفائها الغربيين ،و أصرّ على البقاء في الكويت ، وبدا الأمر وكأن صدام
يريد حقاً إنزال الكارثة بشعبه ووطنه ، فلم يشك اثنان في عدم قدرة صدام على الصمود
بوجه أعتى وأقوى الدول الإمبريالية ، بما تملكه من أفتك أنواع الأسلحة ، وأشدها
تدميراً .
وهكذا وقعت الواقعة ، وحلت الكارثة التي توقعها الجميع ، ودفع الشعب
من جديد ثمناً باهظاً من دماء مئات الألوف من شبابه ، وإنزال أقصى ما يمكن من
الدمار بالبنية الاقتصادية ، والعسكرية للعراق ، وجرى إذلال جيشه وشعبه .
لقد
أوقدت تلك النتائج المفجعة للحرب نار الحقد والغضب العارم على النظام الصدامي ، لدى
الجنود المنسحبين من الكويت ، تحت وابل القذائف التي كانت ترسلها الطائرات
الأمريكية والحليفة على رؤوسهم لإنزال أقصى ما يمكن من الخسائر البشرية بين صفوفهم
.
لقد كان ذلك الغضب العارم لدى الجنود ينذر بالانفجار ليطيح بالنظام ورأسه صدام
، الذي سبب تلك الكارثة ، وأستمر على الرغم من ذلك يتشبث بالبقاء في السلطة ، وهو
الذي يتحمل كل نتائجها .
ومما زاد في خيبة أمل الجنود العائدين من الحرب ، أن
قوات التحالف لم تتعرض للنظام ورأسه صدام ولا كان في حساباتها إسقاطه ، فكان
لابد وأن يتحرك الشعب ، في ظل تلك الظروف التي أنضجت الانتفاضة ، لتسقط هذا النظام
الذي سبب كل المآسي والويلات للعراق وشعبه .
ثانياً: إ نطلاق الانتفاضة ،
1 ـ في اليوم الأول من آذار 1991
، وبينما كانت القوات العراقية تنسحب من الكويت ، بحالة من الفوضى الشديدة ،
وقد تملكها الحنق على سياسة النظام الصدامي ، الذي أوصلها إلى تلك الحالة ، توقف
رتل من الدبابات والمدرعات المنسحبة في وسط مدينة البصرة ، واستدارت إحدى الدبابات
، ووجهت فوهة مدفعها نحو جدارية ضخمة للدكتاتور صدام حسين ، وأطلقت قذائفها عليها ،
وراحت تلك الجدارية تهوى متناثرة على الأرض ، وأنكسر بعدها حاجز الخوف من جلاد
العراق ونظامه ، وتفجر بركان الغضب لدى أبناء الشعب والجنود المنسحبين ،والتحمت
جموعهم ببعضها ، وراحت تندفع في مظاهرات ضخمة لم تشهد لها البصرة من قبل ، ضد حكم
الطاغية ، ولم تمضِ سوى ساعات حتى سيطرت الجماهير المنتفضة على المدينة ، وتم
اعتقال محافظها ، ونفذ فيه حكم الإعدام ، وجرى إطلاق سراح كافة السجناء من ضحايا
النظام الصدامي .
ورغم كل المحاولات التي قام بها النظام ، وحرسه الجمهوري
لاستعادة المدينة ، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل الذريع ، وأخذ لهيب المعركة يمتد
كالنار في الهشيم ، إلى كافة أرجاء العراق من أقصاه إلى أقصاه .
2 ـ وفي يوم
الأحد المصادف 3 آذار ، تم تحرير محافظة العمارة من قبضة النظام الصدامي ،
بعد معركة عنيفة استمرت لمدة ساعتين ، وانتهت باستسلام قوات النظام وأخذ لهيب
الانتفاضة يتصاعد بشكل متسارع ، ليمتد إلى مدن [الكوت] و[الناصرية] و
[كربلاء ] و [النجف الأشرف ].
وعلى أثر هذا الامتداد ، دخلت من جنوب إيران ،
القوات الموالية لزعيم المعارضة الإسلامية السيد [ باقر الحكيم ] المعروفة بفرقة [
بدر ] ، وانشرت شائعات غير موثقة تقول أن مجموعات من حرس الثورة الإسلامية ،
بعصاباتهم يدخلون معها ، وكان ذلك يمثل أمراً خطيراً للغاية على مصير
الانتفاضة ، وموقف الغرب منها ، فقد حاولت الحركة الإسلامية السيطرة على الانتفاضة
والاستئثار بها ، مما جعلها تبدو وكأنها ثورة إسلامية ، على غرار الثورة الإسلامية
في إيران .
ومما ساعد على هذا التطور في مسيرة الانتفاضة ، هو فقدان القيادة
السياسية لأحزاب المعارضة جميعاً ، فقد كانت معظم كوادر أحزاب المعارضة قد هجرت
الوطن ، بسبب الإرهاب الصدامي ، ولم تستطع تلك الأحزاب أن تقدم شيئاً عملياً مهماً
للانتفاضة ، سوى عقدها لمؤتمر بيروت .
3 ـ وفي يوم الاثنين المصادف 4 آذار
، استطاعت قوى الانتفاضة أن تبسط سيطرتها الكاملة ، على مدينتي [
العمارة ] و [ علي الغربي ] و استولت على 13 طائرة مروحية عسكرية وانظم عدد
كبير من قوات الجيش للانتفاضة ، كما وردت أخبار عن سقوط مدينة [ النجف المقدسة] ،
ومدينة[ السليمانية] في كردستان بأيدي قوات الانتفاضة .
4 ـ وفي يوم
الثلاثاء 5 آذار ، قامت لجنة العمل المشترك بنشاطات سياسية لدعم الانتفاضة
،تجلت في إرسال الرسائل إلى كل من الأمين العام للأمم المتحدة [ديكويار] والى
حكومات الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن ، والى حكومات الجوار ، سوريا وإيران
وتركيا والسعودية والكويت ، والى جامعة الدول العربية ، ومنظمة المؤتمر الإسلامي ،
داعية إياهم جميعاً إلى الوقوف إلى جانب الشعب العراقي ومساندته من أجل الخلاص من
حكم الطاغية صدام حسين ونظامه الفاشي ، وناشدهم تقديم العون الضروري ، من المواد
الغذائية والطبية . وأكدت تلك الرسائل على أن هذه الانتفاضة ، هي انتفاضة الشعب كله
، بكل فئاته وقومياته ، وأحزابه السياسية الوطنية ، وأنها تستهدف الحرية ، وتطبيق
حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية للشعب العراقي كافة .
5 ـ وفي يوم
الجمعة المصادف 8 آذار ، وقعت معارك عنيفة حول[ البصرة ]، بين قوات النظام وقوات
الانتفاضة ، وتم خلال تلك المعارك دحر القوات الصدامية ، وإحراق 10 دبابات ،
والاستيلاء على 30 دبابة أخرى سالمة ، وتم إحكام السيطرة على محافظة البصرة . وقد
حاولت القوات الصدامية القيام بهجوم جديد على البصرة على المحور الشرقي ،
مستخدمة 12 دبابة ، وتم لقوات الانتفاضة دحر الهجوم ، بعد تدمير 4 دبابات
والاستيلاء على الدبابات الثمانية الأخرى ، واستسلام القوات الصدامية لقوى
الانتفاضة .
وفي اليوم نفسه حدثت مظاهرات عنيفة في مدينتي [الموصل] و[الرمادي] ،
لكن القوات الصدامية كانت قد استعدت لها ،وقمعتها بقوة .
أما في كردستان ، فقد
سيطرت قوات الانتفاضة على مدينتي[ أربيل] و[كركوك ]، ومناطق واسعة من كردستان ،
واستولت على كميات كبيرة من الأسلحة والمعدات ، ووقع في الأسر وحدات كبيرة من قوات
الجيش الصدامي .
وفي بغداد قامت مظاهرات صاخبة في أحياء[ الشعلة]
و[الحرية] و[الكاظمية] و[الثورة] ، لكن القوات الصدامية استطاعت السيطرة على الموقف
، بعد أن استعملت أقسى أساليب العنف ضد المتظاهرين ، وكان النظام الصدامي قد كثّف
تواجد قواته في تلك الأحياء تحسباً لكل طارئ، نظراً لما عُرف عن سكان هذه الأحياء
من الكره الشديد للنظام .
6 ـ وفي يوم الثلاثاء ، 12 آذار ، جرت
محاولات جديدة لقوى الانتفاضة في مدينة الثورة ، أحد أحياء بغداد ، إلا أن قوات
صدام قمعتها بشدة .
وفي الفرات الأوسط استطاعت قوى الانتفاضة هذا اليوم من
السيطرة على مدينة [الحلة] ، بعد قتال شرس مع قوى النظام ، وجرى اعتقال جميع
المسؤولين الحكوميين فيها .وقامت القوات الصدامية هذا اليوم بمحاولة لاستعادة[
كربلاء ]، و[العمارة ]، بعد أن مهدت للهجوم بقصف مدفعي ، واستخدمت الطائرات
المروحية في قصف المدينتين كذلك .
7 ـ وفي يوم الأربعاء ، 13 آذار ، أعلنت
القيادة السياسية للجبهة الكردستانية سيطرتها التامة على كافة منطقة كردستان ،
وأعلنت حل المجلسين ، التشريعي والتنفيذي ، الذين أقامهما النظام الصدامي ، وتشكيل
إدارة مؤقتة ، لحين إجراء انتخابات عامة في كردستان . وحاول النظام الصدامي إعادة
سيطرته على المناطق المحررة في محافظة صلاح الدين وديالى بقواته التي تعززها
الدبابات ، والطائرات المروحية ، والمدفعية الثقيلة ، وخاصة في محور[ خانقين ـ
جلولاء ]، محاولاً السيطرة عليهما ، وعلى[ طوز خورماتو] . وتصدت لها قوات الانتفاضة
واشتبكت معها في معارك عنيفة طوال هذا اليوم ، وتم إسقاط 4 طائرات مروحية تابعة
للنظام الصدامي .
8 ـ وفي يوم الخميس 14 آذار ، أحكمت قوات
الانتفاضة سيطرتها على كافة محافظة العمارة ، وقتل محافظها ، وجرى تعيين محافظ جديد
لها من قبل قوى الانتفاضة .وفي محافظة[ بابل] تمكنت قوات الانتفاضة من السيطرة على
[المحمودية] ،القريبة من بغداد ، وعلى[ المسيب] و[اليوسفية ] و[سدة الهندية]
و[القاسم]و[الحمزة ] وتمكنت قوات الانتفاضة من السيطرة على كافة مراكز الشرطة
وأسلحتها ، وتم إطلاق السجناء الوطنيين من سجونها . وخلال معارك الحلة ، قتل كل من
المحافظ [عدنان حسين ] ومدير الشرطة [ جبر محمد غريب ] ، وأمين سر حزب البعث لفرع
الحلة [ طه ياسين ] ، ومدير أمن الحلة المقدم [ مزعل ] .
وفي الديوانية تمكنت
قوات الانتفاضة من السيطرة التامة على المدينة ، وانظم محافظ المدينة إلى قوات
الانتفاضة ، فيما قتل أمين سر حزب السلطة [ خالد عبد الله التكريتي ] ، كما سيطرت
قوات الانتفاضة على مدينة [النعمانية] ،وسيطرت على مراكز الشرطة ، ودوائر الأمن
فيها ، خلال ساعات رغم استخدام القوات الصدامية الطائرات المروحية ضد قوات
الانتفاضة ، التي تمكنت من إسقاط 3 طائرات منها .
وفي الكوت ، كانت تدور معارك
شرسة بين قوات الانتفاضة والقوات الصدامية طوال هذا اليوم ، كما دارت معارك عنيفة
في منطقة [ كرمة على ] شمال البصرة ، واستطاعت قوات الانتفاضة تدمير عدد كبير من
الدبابات التابعة للنظام الصدامي ، وقد دامت المعركة زهاء 9 ساعات . كما تم في هذا
اليوم تحرير مدينة [ مخمور ] التابعة لمحافظة [أربيل ]، أضافه إلى قرى [ باكرك ] و
[ياسين أغا ] .
وفي هذا اليوم تعرضت مدينتي [كربلاء ] و[النجف] إلى قصف مدفعي ،
وبالدبابات ، وطالت الأحياء السكنية ، ومراقد الأئمة ، التي أصيبت بإصابات مباشرة ،
وفتحت ثقوباً في قبابها .
وفي هذا اليوم أيضاً تم تحرير مدينة [ النشوة ] ، شمال
البصرة ، واستسلم أعوان النظام الصدامي فيها لقوات الانتفاضة . وفي هذا اليوم أيضاً
، أنفجر بئران نفطيان في كركوك ، نتيجة القصف المدفعي للقوات الصدامية ، واشتعلت
النيران فيهما .
وفي يوم الجمعة ، 15 آذار تمت عملية تحرير مدينتي [
المشرح ] و[ الكحلاء ] ،وتم تطهير محافظة العمارة من القوات الصدامية ، تطهيراً
تاماً .
حاول النظام الصدامي هذا اليوم ، السيطرة على مدينة[ جلولاء ] ودارت
معارك شرسة بين قوات الانتفاضة ، والقوات الصدامية ، وانتهت المعارك بهزيمة القوات
الصدامية ، ومقتل أمر الفوج المهاجم الرائد [ علي صالح الجبوري ] ، واستولت قوات
الانتفاضة على 4 دبابات سالمة .
وهكذا استطاعت قوات الانتفاضة فرض سيطرتها على
المناطق الجنوبية ومنطقة الفرات الأوسط ، ومنطقة كردستان بكاملها ، خلال أسبوعين ،
وأصبح النظام الصدامي في تلك الأيام قاب قوسين أو أدنى من السقوط ، لكن سيطرة القوى
الإسلامية على الانتفاضة ، والاستئثار بها ، ورفعها للشعارات الطائفية والمتطرفة،
وعدم وجود قيادة ميدانية حكيمة تمثل القوى السياسية الوطنية المؤتلفة ، بموجب ميثاق
دمشق ، وضرورة رفع الشعارات الصحيحة التي تؤكد على الوحدة الوطنية ، وإقامة نظام
ديمقراطي تعددي ، كل هذه الأمور جعلت قوى التحالف ، بقيادة الولايات المتحدة ،
وكذلك السعودية ودول الخليج تقلق من سيطرة القوى الإسلامية المقربة من إيران على
الحكم في العراق ، وما يسببه ذلك من خطورة على مصالحهم في المنطقة ، وجعلتهم يضعون
كامل ثقلهم إلى جانب النظام الصدامي ، وتمكينه من استعادة سيطرته على البلاد من
جديد .
وهكذا فتحت قوات التحالف ، التي كانت تطوق قوات الحرس الجمهوري في جنوب
الناصرية ، الطريق إمام تلك القوات للعبور ، بل لقد أقامت لها الجسور العسكرية لكي
تستطيع التقدم نحو المناطق التي سيطرت عليها قوات الانتفاضة ، وبذلك بدأت مرحلة
الانحسار للانتفاضة في 17 آذار 1991 .
ثالثاً : الهجوم المعاكس للنظام الصدامي ، وبداية
انحسار الانتفاضة :
بدأ انحسار قوة الانتفاضة ، بعد منتصف شهر آذار ، حيث سمحت الولايات المتحدة
وحليفاتها لقوات الحرس الجمهوري بالعبور ، كما سمحت للنظام الصدامي باستخدام
الطائرات المروحية ، وحتى الطائرات الحربية ذات الأجنحة الثابتة ، وصواريخ ارض ـ
ارض ، وسائر الأسلحة الأخرى ، لقمع الانتفاضة ، ووقفت قوات التحالف تراقب قوات
النظام الصدامي وهي توجه كل أسلحتها نحو الشعب العراقي الذي أنتفض على حكم الطاغية
، وابتلعت الولايات المتحدة كل دعواتها بإسقاط النظام ، لا بل ساعدته ، ومكنته من
شن هجومه على قوى الانتفاضة ، وعلى ضرب المدن بكل ما توفر له من الأسلحة ،
فليس مهماً للولايات المتحدة مصير العراق وشعبه ، بل كل ما يهمها هو أن تحافظ على
مصالحها النفطية في الخليج .
وفي الوقت الذي كان المواطنون في مدن الجنوب يتصدون
لهجمات القوات الصدامية ، وطائراتها ودباباتها ، توقفت القوات الكردستانية عن زحفها
نحو مدن [الموصل ] و [ صلاح الدين ] و[بغداد] ، وقد مكّن ذلك الموقف
القوات الصدامية من تركيز جهدها العسكري على الفرات الأوسط والمنطقة الجنوبية
للقضاء على قوات الانتفاضة ، لتعود بعد ذلك إلى منطقة كردستان .
لقد كان الواجب
يتطلب من القوات الكردستانية أن تواصل ضغطها على القوات الصدامية ،وعدم إتاحة
الفرصة لها لتركز كل قواتها على المنطقة الجنوبية ، ومنطقة الفرات الأوسط
.
1 ـ ففي يوم الأحد 17 آذار ، هاجمت القوات الصدامية مدينة[ الكوت
] واستبسلت قوات الانتفاضة في الدفاع عن المدينة أمام قوات الحرس الجمهوري ،وأسلحته
المختلفة ،من الدبابات والصواريخ والمدفعية والطائرات السمتية ، وتم في البداية
إيقاف تقدم القوات الصدامية ، واستطاعت قوات الانتفاضة إسقاط طائرتين سمتيتين ،
وتدمير عدد من الدبابات ، وإنزال العديد من الخسائر في صفوف القوات الصدامية ، لكن
المهاجمين استطاعوا في نهاية الأمر السيطرة على جزء من المدينة ، بعد أن نفذ معظم
العتاد لدى قوات الانتفاضة ، واصبح موقف قوات الانتفاضة صعباً أمام قوات الحرس
الجمهوري ، المجهز بمختلف الأسلحة الثقيلة .
2 ـ وفي يوم الاثنين 18 آذار
، قامت قوات النظام الصدامي بهجوم واسع على مدينة [كركوك ] بعد قصف مركز بالمدفعية
والدبابات ، واستطاعت القوات المهاجمة ، بعد قتال عنيف ، من السيطرة على مقر
المحافظة ، ومقر الفيلق الأول ، والمطار ، ومناطق آبار النفط .
وفي اليوم نفسه
قصف النظام الصدامي مدن [خانقين ] و[جلولاء ] و[طوز خورماتو] و [كلار ]،
والمجمع السكني [ صمود ] بصواريخ أرض ـ ارض، منذُ الساعة السادسة صباحاً ، مستخدماً
4 قواعد للصواريخ في السعدية ، مما أوقع أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى بين
السكان المدنيين ، ثم أعقب القصف هجوماً على طوز خورماتو من خمسة محاور هي[
طريق كركوك ] و [طريق تكريت ] و[طريق بلان ] و[طريق ينجول ] وطريق سلمان بيك ،
مستخدمة الدبابات والطائرات السمتية والمدفعية الثقيلة ، والقنابل الفسفورية
والنابالم ،مما تسبب في وقوع خسائر جسيمة في صفوف المدنيين والعسكريين على حد سواء
.
3 ـ وفي يوم الثلاثاء 19 آذار كان القتال يدور حول [مدينة كربلاء
المقدسة] ، حيث هاجمتها القوات الصدامية على محورين ،[ محور المسيب ] و[محور
الرزازة ] وحيث أحرزت القوات المهاجمة ، المتفوقة في المعدات والأسلحة الثقيلة ،
تقدماً باتجاه المدينة وحاصرتها ، وجرى قصفها بشكل مركز، بمختلف الأسلحة الثقيلة
.
كما شن النظام الصدامي هجوماً آخر على مدينتي[ النجف] و[الكوفة] بعد أن تمكن
من جلب قوات كبيرة من الحرس الجمهوري ، بأسلحتها الثقيلة .
وقام صدام حسين بتعين
حكام عسكريين في مناطق الانتفاضة ، من بين كبار الضباط الذين كان لهم دور إجرامي
كبير في الحرب العراقية الإيرانية ، فقد عين [ماهر عبد الرشيد] حاكماً
عسكرياً على قاطع الناصرية و[طالع الدوري] ـ حاكماً عسكرياً على قاطع البصرة و[هشام
صباح الفخري] حاكماً عسكرياً على قاطع العمارة و[طالب السعدون ] حاكماً
عسكرياً على قاطع الكوت و[علي حسن المجيد ] حاكماً عسكرياً على منطقة كردستان
.
4 ـ وفي يوم الأربعاء 20 آذار ، حققت قوات الانتفاضة انتصاراً لها في[
كركوك] و[السليمانية] و[أربيل] ، وأجزاء من محافظة صلاح الدين ، وبعض قرى محافظة
[نينوى ]، واستطاعت قوات الانتفاضة السيطرة على دار الإذاعة والتلفزيون في كركوك ،
و3 مطارات عسكرية ومدنية وجميع مناطق آبار النفط .
وقامت القوات الصدامية
المنسحبة من مدينة[ كركوك] بذبح أكثر من 100 طفل كردي فيها ، وأخذت رهائن من
المدنيين الأكراد ، ما يزيد على 15 ألف مواطن ، من النساء والأطفال والشيوخ.
ثم قامت القوات الصدامية بعد انسحابها من المدينة ، بضربها بالقنابل الفسفورية
والنابالم والصواريخ ، واستخدمت في قصفها الطائرات الحربية ذات الأجنحة ،
والطائرات السمتية .
أما في المنطقة الجنوبية فكانت المعارك الشرسة يدور رحاها
بين القوات الصدامية وقوات الانتفاضة في داخل مدن[ كربلاء] و[النجف] و[الديوانية]
و[السماوة ]، واستبسلت قوات الانتفاضة ، المدافعة عن المدن المذكورة ، رغم التفوق
الكبير لقوات الحرس الجمهوري الصدامية ، في الأسلحة والمعدات والخبرة
العسكرية ، وقد ذهب ضحية تلك المعارك في النجف الأشرف وحدها أكثر من 15 ألف مواطن ،
وتم اعتقال المرجع الأعلى للطائفة الشيعية السيد [ أبو القاسم الخوئي ] وجرى نقله
إلى بغداد .
وفي الوقت نفسه كانت المعارك الشرسة تجري داخل مدينة[ البصرة ]،
بمختلف أنواع الأسلحة ، مما أوقع الخسائر الجسيمة في صفوف المدنيين .
5 ـ
وفي يوم الخميس ، 21 آذار ، اقتحمت قوات الحرس الجمهوري الصدامية مدينة [الناصرية ]
رغم البسالة المنقطعة النظير لقوات الانتفاضة ، بسبب تفوق القوات المهاجمة في
الأسلحة والمعدات .
وفي مدينة علي الغربي استطاعت قوات الانتفاضة السيطرة على
مقر اللواء التاسع ، من الفيلق الثالث وقد استسلم ما يزيد على 250 ضابطاً وجندياً
بكامل أسلحتهم ، وغنمت قوات الانتفاضة حوالي 500 بندقية آلية ، و30 مصفحة وسيارة
عسكرية .
6 ـ وفي يوم الجمعة ، 22 آذار ، شنت قوات الانتفاضة هجوماً على
منطقة[ زين القوس ] وتمكنت من قتل آمر الفوج ، واستسلم أكثر من 100 ضابط وجندي
لقوات الانتفاضة ، واستولت على كميات كبيرة من الأسلحة والمعدات .
7ـ وفي
يوم الاثنين 23 آذار ، جرت معارك عنيفة ، في منطقة[ فايدة ] شمال الموصل ، على طريق
دهوك وأوقعت قوات الانتفاضة خسائر جسيمة في صفوف القوات الصدامية ، وتم إسقاط
طائرة سمتيه ، واحتلت قوات الانتفاضة المزيد من الأراضي باتجاه مدينة الموصل
.
8 ـ وفي يوم الاثنين 25 آذار ، قامت طائرتان حربيتان ، وأربع طائرات
سمتيه ، بقصف مدينة[ كركوك] في الساعة التاسعة والربع صباحاً ، ثم عادت الطائرات
وقصفت المدينة مرة أخرى، في الساعة الواحدة والنصف ظهراً ، مما أوقع الكثير من
الضحايا في صفوف المدنيين .
كما دار قتال عنيف حول مدينتي[ خانقين] و[جلولاء
]،حيث استهدفت القوات الصدامية احتلالهما والتقدم منهما نحو [كركوك] .
9 ـ وفي
يوم الثلاثاء 26 آذار هبطت طائرة سمتيه ،حاملة كميات من الأسلحة الكيماوية ،
وعلى متنها 4 ضباط ، من سلاح الجو العراقي ، في إحدى المناطق الحدودية
الإيرانية ، وطلبوا اللجوء السياسي في إيران ، رافضين استخدام الأسلحة الكيماوية ضد
الشعب العراقي .
وفي الجنوب استطاعت قوات الحرس الجمهوري الصدامية دخول مدينة
[كربلاء ]، واستعادت السيطرة عليها ، بعد أسبوعين من المعارك الدامية أبدى فيها
أبطال الانتفاضة بطولة نادرة ، وقد اتهمت قوات الانتفاضة ،قوات مجاهدي خلق
الإيرانية المعارضة والمتواجدة في العراق ، بالمشاركة إلى جانب القوات الصدامية في
الهجوم على المدينة .
10 ـ وفي يوم الأربعاء ، 27 آذار ،كانت القوات
الصدامية قد استعادت مناطق واسعة من الجنوب ، وخاصة مراكز مدن [البصرة ] و[العمارة
] و[الناصرية ]، وعقد السيد محمد باقر الحكيم مؤتمراً صحفياً في طهران ، أعترف فيه
بانحسار الانتفاضة في المناطق الجنوبية والوسطى من العراق ، واتهم القوات الصدامية
بتدمير المدن المقدسة ، وقتل الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ .
وهكذا تمكنت
السلطة الصدامية من إعادة سيطرتها على مناطق الجنوب ، والفرات الأوسط ، وبدأت بدفع
قواتها نحو منطقة كردستان .
11 ـ ففي يوم الخميس ، 28 آذار ، بدأت تلك
القوات هجوماً واسع النطاق على مدينة [كركوك ] واستخدم النظام الصدامي في هجومه على
المدينة [ 6 فرق عسكرية ]مجهزة بكل الأسلحة الثقيلة ، من الدبابات والمدفعية
والصواريخ ، وبإسناد الطائرات الحربية والسمتيات ،وقد أدى القصف العشوائي الشديد
إلى وقوع الخسائر الجسيمة في صفوف المدنيين ، وخاصة النساء والأطفال ، واستطاعت
قوات الحرس الجمهوري ، بعد معارك شرسة من دخول المدينة .
كما استطاعت السيطرة
على[طوز خورماتو ]و[داقوق ] وعدد كبير من القرى المحيطة بكركوك ،حيث قامت القوات
الصدامية بتدمير جميع القرى المحيطة بمدينة كركوك ، واضطر اكثر من 100 ألف من
السكان إلى التوجه إلى [أربيل] و[السليمانية] ، هرباً من بطش القوات الصدامية
، فيما وقع أعداد كبيرة منهم بأيدي تلك القوات ، وجرى تصفيتهم جسدياً بصورة جماعية
.
وقد وجه الزعيمان الكرديان [ مسعود البارزاني ] رئيس الحزب
الديمقراطي الكردستاني ، و[جلال الطالباني ] رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني ،
نداءً إلى الرئيس الأمريكي بوش طالبين منه حماية الشعب الكردي من هجوم القوات
الصدامية.
12 ـ وفي يوم الجمعة 29 آذار ، قامت القوات الصدامية بقصف
مدينة [ جمجمال ] بالقنابل الفسفورية والنابالم ،موقعة الخسائر الجسيمة في صفوف
سكانها ، ثم قامت قوات الحرس الجمهوري بمهاجمتها واحتلالها ، والتقدم نحو مدينتي[
السليمانية] و[أربيل ] مستخدمة كل ما تملكه من أنواع الأسلحة والمعدات الثقيلة
والطائرات ، مما أدى إلى حدوث هجرة جماعية كبرى للشعب الكردي نحو الحدود التركية
والإيرانية ، هرباً من بطش القوات الصدامية وأسلحتها الكيماوية التي كان قد
أستخدمها في[ حلبجة ] من قبل ، وذهب ضحيتها اكثر من 5000 مواطن خلال بضعة
دقائق ، وقدر عدد النازحين بأكثر من مليوني مواطن .
كان وضع الأكراد
مأساوياً بكل معنى الكلمة ، نيران القوات الصدامية من جهة ، وقسوة المناخ ، والبرد
الشديد، والثلوج من جهة أخرى ، مما سبب في وفاة أعداد كبيرة من النازحين .
ومما
زاد في الطين بلة ، إقدام الحكومة التركية على إغلاق حدودها بوجه النازحين ، مما
جعلهم عرضة للتصفية من قبل الطائرات العراقية التي كانت تلاحقهم ، وقوات الحرس
الجمهوري الزاحفة، وسارعت الولايات المتحدة ، و حليفتها بريطانيا إلى فرض الحماية
على المنطقة الكردية الواقعة شمال خط العرض 32 ، فيما سمي بعملية {بروفايد كومفورت
} ومنعت القوات العراقية من تجاوز هذا الخط ، كما منعت الطائرات من التحليق فوق هذه
المنطقة ، وبذلك أخذ النازحون الأكراد يعودون إلى مناطق سكناهم ، تحت حماية
الطائرات الأمريكية .
وهكذا أسقط في يد صدام حسين ، واضطر للرضوخ للأمر
وسحب قواته من المنطقة ، كما أقدم على سحب أجهزته الأمنية والإدارية ، والمدرسين
وأساتذة الجامعة من كردستان ، وقطع الطاقة الكهربائية عن مدينة دهوك .
وهكذا
أصبحت منطقة كردستان تحت حماية الولايات المتحدة وبريطانيا ، وتخلص الأكراد من
سيطرة النظام الصدامي ، وجرى تنظيم إدارة جديدة في كردستان ، من قبل أبناء الشعب
الكردي ، وجرى فيما بعد انتخاب المجلس التشريعي ، وتشكيل مجلس للوزراء ، بمعزل عن
سلطة النظام الصدامي في بغداد .
أما في الفرات الوسط ، وجنوب العراق ، فقد تمّ
إجهاض الانتفاضة بقوة السلاح ، تحت سمع وبصر القوات الأمريكية والحليفة ، بل وبدعم
منها ، وأجرى النظام الصدامي ، الذي استطاع قمع الانتفاضة والبقاء في السلطة ، حملة
تصفية وحشية لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل ، لكل من تشك السلطة الصدامية
بمشاركته في الانتفاضة ، وقدر عدد الضحايا بما يزيد على 300 ألف مواطن ، هذا
بالإضافة إلى تدمير المدن والقرى بأسلوب إجرامي بشع .
لقد خذلت الولايات
المتحدة الشعب العراقي ، وبان زيف ادعاء الرئيس الأمريكي بوش ، في أن يشهد سقوط
صدام حسين ونظامه ، فقد وجد بوش أن بقاء صدام على رأس النظام يحقق للولايات المتحدة
مصالحها ، فيما وجد أن سيطرة القوى الإسلامية الموالية لإيران يمثل أكبر الأخطار
على مصالحهم في الخليج ، ويهدد الأنظمة القائمة في هذه المنطقة الهامة ، التي تحتوي
على أكبر مصادر الطاقة في العالم .