ناصر بن رجب
الحوار المتمدن-العدد: 4520 - 2014 / 7 / 22 - 22:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تأليف: آن سيلفي بواليفو
ترجمة وإعداد: ناصر بن رجب
ملخّص
إنّ قانونيّة القرآن (أي الاعتراف بالقرآن ككتاب مقدّس) لها ميزة تختصّ بها عن غيرها (من النصوص المقدسة الأخرى) من حيث أنّها مُعلَنة داخل النّص القرآني نفسه. فدراسة الصيغة التي جاء فيها هذا الإعلان تكشف لنا عن بَرْهَنة قوّية جدّا تُضفي على التِّلاوات المحمّدية سلطة قرآنيّة. كيف تتناسق هذه البرهنة، ذات المظهر الموحَّد، مع الحقيقة التاريخيّة للمسار الذي سلكته الجماعة الإسلامية لإضفاء الطابع المُقدَّس على القرآن، وخصوصا في ضوء فرضيّات المستشرقيْن جون ونسبرو وألفريد-لويس دي بريمار؟ ونحن إذ نميِّز بين عمليّة تثبيت النّص النهائي وبين الإعتراف بسلطة النّص باعتبارهما المكوِّنين لهذا المسار، فإنّنا نفترض تطوُّرًا غير متوازي لهذين العنصرين: إنّ التعبير عن سلطة النصوص المحمّدية يكون قد سبق فِعْليَّة هذه السلطة، التي هي بدورها قد تكون سبقت مسار تثبيت النّص. وهذا التعبير داخل النّص لا يكون نتيجةً لهذه القانونيّة ولكن سبَبًا لها.
(الحلقة الثانية)
سؤال:
نرى إذن أنّ هناك برهنة قويّة داخل النّص القرآني لصالح قانونيّة القرآن. هذا إلى جانب القانونيّة الفعليّة التي تنبع من واقع أنّ الجماعة الإسلاميّة تعترف لهذا النّص المحدَّد، القرآن، بسلطة فريدة. لنطرح إذن السؤال التالي: هل هذه الصياغة، صياغة القانونيّة، داخل النّص، سابقة أم لاحقة للقانونيّة الفعليّة للنّص القرآني؟ بعبارة أخرى، هل أنّ الصياغة التي ترد داخل النّص هي سبب أم نتيجة للمسار القانوني (التسليم بقدسية القرآن) الذي حدث داخل الجماعة الإسلاميّة؟
الأجوبة الأولى: أ. لويس دي بريمار و ج. ونسبرو
لنتأمّل مواقف هذين الباحثين.
الأول يُفرّق بين ظاهرة تدوين القرآن، التي امتدّت على الأقل إلى نهاية القرن السّابع، عن ظاهرة قانونيّة القرآن التي قد تكون امتدت، من جهتها، إلى القرن العاشر. فقد كتب دي بريمار: "إنّ تدوين القرآن امتدّ على الأقل إلى نهاية القرن السّابع"، ويضيف: "(...) مسار قانونيّة القرآن امتدّت إلى القرن العشر ميلادي. أي إلى غاية الإعلان النهائي، سنة 936 م، عن القراءات التي وقع السماح باستعمالها لقراءة النّص النهائي الوحيد" (دي بريمار، 2004، 26-27).
يقصد دي بريمار بـ "قانونيّة" هنا التثبيت النهائي للمُصحف القرآني الذي تنبثق عنه السلطة المقدّسة المعترف بها.
من ناحية أخرى، في كتيّبه الشيّق المعنون "في أصول القرآن، مسائل الامس، مقاربات اليوم"* (2004)، يشرح على سبيل المثال طريقة مفيدة لمقاربة المقاطع الجدالية في القرآن. فهو يقدّمها كالتالي:
"إن الجدل الذي دار حول القرآن في فترات الإسلام الأولى لم يترك آثاره داخل كتب التاريخ ومُدوَّنات الحديث فقط. فنحن نجد أصداء هذا الجدل في القرآن نفسه. الأمر يتعلّق بجدالات يُخاطب فيها مُؤلِّف القرآن خصومًا لكي يردَّ على عدد من اعتراضاتهم. يمكننا أن نفترض أن هذه الجدالات كانت قد وقعت في الأوقات التي شهدت تأليف النصوص وذلك لأنّ هذه الأخيرة تُردّد صدى تلك الجدالات ولأنّ محرِّري النصوص حرصوا على الردّ عليها" (دي بريمار، 2004: 101).
ويواصل المؤلِّف تحليل هذه المقاطع مُقترحا اعتبارها نتيجةً وجوابا للجدل الذي دار، ليس بين محمّد والوثنيّين المكّيين، ولكن بين الجماعة الإسلاميّة الناشئة ويهود ونصارى الأمصار المفتوحة. وذلك على شكل أحاديث نبويّة مُتأخِّرة تستعيد وضع النّبي على رُكح أحداث ماضية يتمّ توظيفها لما تقتضيه الجدالات التي تدور في ذلك الحين بين المسلمين واليهود والنصارى (دي بريمار، 2004: 120، 124-125، 132-133).
وهكذا، فإنّ تأليف هذه المقاطع الجدالية يجب إنزالها، بالنسبة له، كجواب لحاجة الجماعة الإسلامية في الحقبة التي لحقت الفتوحات الأولى. وعليه، فإنّ صياغة قانونيّة النّص القرآني، هنا، تُعتبَر كنتيجة لضرورة تثبيت عُلْويَّة نصٍّ قرآنيِّ أوَّل تُجاه معارضين له.
من الممكن أن يكون جواب دي بريمان عن سؤالنا الذي نحن بصدد طرحه كالتالي: الصياغة القانونيّة للنّص هي نتيجة تساؤلات أثارتها داخل الجماعة الإسلامية المواجهات مع جماعات أخرى تحمل كتبا قانونيّة مُخالِفة. غير أنّ تأكيده القاضي بأنّ الإختيار النهائي لتخوم النّص القانوني بين دفّتي المصحف من طرف الجماعة هو اختيار جاء مُتأخّرا جدّا، لا يسمح لنا بالإعتقاد بأن دي بريمار يعتبر القانونيّة الفعليّة للنّص داخل الجماعة الإسلامية قد تكُون سابقةً على صياغة هذه القانونيّة التي ترد في النّص القرآني ذاته.
لنتفحّص الآن هذا الأمر داخل أعمال ج. ونسبرو. الجواب الذي يُقدّمه هذا الأخير قد يكون، بالمقابل، أنّ صياغة القانونيّة داخل النّص هي لاحقة للقانونيّة الفعليّة التي أضفتها الجماعة الإسلاميّة على النّص القرآني، وتكون كذلك نتيجة لها. فالجماعة الإسلامية، وهي في الوقت الذي تختار فيه النّص، وتصوغه أو تُنقِّحه بنفسها، فهي تقوم في ذات الوقت بصياغة قانونيّته. هذا، على الأقل، إذا تمشّينا مع الفرضيات التي كان قد صاغها في إطار نقدٍ أوسع للمصادر الإسلامية. ففي كتابه الأهم Quranic studies : Sources and Methods of -script-ural Interpretation (Wansbrough, 2004 [1977])، يتساءل عمّ إذا كان تحليل النصوص الإسلامية لقرون الإسلام الأربعة الأولى هو الذي قد يسمح بمعرفة أفضل لمختلف مراحل ترتيب شكل المصحف المتداول اليوم. وهدفه من ذلك هو الدراسة المُنظَّمة للخصائص الشكليّة لسلطة النّص باعتبارها عامل انبعاثِ جماعة دينيّة مُستقلّة وواعية بذاتها. وهو يعتقد أنّه بإمكانه، انطلاقا من التفاسير، الكشف على أن أربعة اصناف "أدبيّة" للكتابة قد وقع استخدامها تِباعًا: جدالي، طقسي، تعليمي وفقهي. ويستعمل ونسبرو لذلك مجموعة من الأدوات والعبارات التقنيّة المتأتّية من تفسير الكتاب المقدّس. والمصادر التي تهمّه بصورة أخصّ هي تفاسير القرآن المقترنة في نظره بتكوُّن القرآن. وهو يفرّق بين خمسة أصناف من التفسير: هاجادي haggadic (وهو يتناول قصصا هدفها الوعظ)، هالاخي halakhic (التشريع والأَحكام)، مَسُّوريتي masoretic (خلق جهاز كتابة بغية تثبيت النّص بواسطة المراجعة والشرح يقوم به فريق خلال مدّة طويلة)، بديعي واستحضاري.
هذه الدراسة تقود إلى خلاصة أنّ مسار قانونيّة النّص القرآني قد يكون حدث بصورة تدريجيّة جدًّا، وبالتوازي مع تطوّر التفسير "الهالاخي" (ونسبرو، 2004: 51)، وذلك عندما يقع الشعور بالحاجة إلى نصّ مرجَعي في ميدان الفقه أو السلطة: "لا يتمّ تثبيت نصّ قانونيّ إلا فقط بعد الرّبط مع حُكم يقدَّم كمرسوم إلاهي، وهذا أساسا نتيجة لإلحاح جدالي" (ونسبرو، 2004: 227).
إنّ النّص القانوني الذي لم يكن قد ثُبِّت إلاَّ حوالي سنة 800 م، أو حتّى في القرن الثالث الهجري، قد يكون مُؤلَّفا من مجموع عناصر متباينة جاءت من مصادر مختلفة والتي يكون القرآن قد تخلّى عنها شيئا فشيئا. وعليه فإنّ وِحدة النّص تقوم على أنساق تعتني بالأساليب والتنميق وقعت إضافتها لاحقًا. وكما يُلخّصه د. ماديغين، حسب وينسبرو:
"فإنّه من المستبعد جدّا ومن غير المفروغ منه إطلاقا أن تكون التفاسير الأولى شروحا لنصّ كان قد سبق وثُبِّت واكتسى سلطته القانونيّة. على العكس، لقد نشأت ضرورة هذه القانونيّة من شروط سلطة تشريعيّة وقضائية وكذلك من استلزامات الجدل من أجل فرض كتابة مقدّسة سوف تُستخدَم كـ "رمز للنُّبُوّة" (ماديغين، 1995: 351-352).
وهكذا، حسب ونسبرو، فإنّ إعلان قانونيّة وقدسيّة القرآن الموجود داخل النّص القرآني قد تكون الجماعة الإسلامية هي التي أدرجته حين كانت بصدد تأليف أو ترتيب نصّها المرجعيّ، وفي نفس الوقت تُثَبّته كنصّ قانوني. غير أنه، وتمشِّيا مع هذا المنطق، فإنّ الجماعة الإسلامية قبل ذلك لم تكن بحاجة لنصّ قرآني – وما كان لها أن تمتلك مثل هذا النّص. إنّ إعلان القانونيّة داخل النّص القرآني، وحتّى تأليف جزء من القرآن قد يكون جوابا على الضرورة التي شعرت بها الجماعة الإسلامية لاحقا للتّوحُّد حول نصّ قانوني.
وحدة الصياغة
إلاّ أنّ عنصرا في غاية الأهمّية يتعارض مع فكرة كهذه: الوحدة التي تُقدَّم فيها القانونيّة في النّص القرآني. إنّ دراستنا (بواليفو، 2010: مُلخّصة أعلاه) أظهرت قوّة وحدة البرهنة هذه، في القرآن نفسه، لفائدة إرساء قانونيّته الخاصّة. فالمخطّط الذي يقدّمه النّص بسيط: محمّد هو نبيّ حقيقي، يستلم القرآن الذي يوحيه له الله ويتلوه حرفًا بحرف. إلى هذا تنضاف وحدة بلاغيّة تُترجِم إرادة الإقناع هذه. والمنطق المُتَّبَع بسيط هو أيضا حتّى يكون قويًّا، مُبينًا، مُفحِمًا؛ فالتكرارات متعدّدة، والإيحاءات الضمنيّة يسهلُ فهمها نسبيًّا من طرف السّامع أو القارئ، والدِّقة تكمن في استعمال تلك العناصر البلاغيّة البسيطة كما هو الحال مثلا في حصر الفكرة في حلَّيْن إثنين فقط. دي بريمار لاحظ هو أيضا القوّة البلاغية لذلك التعارض الثنائي (دي بريمار، 2004: 33). وهو يُشخِّص أيضا، كما سبق ووضّحنا أعلاه، عددًا ما من عناصر وحدة النّص: اللّحمة، تنظيم وتكرار المواضيع.
ولكن، إذا كان النّص قد صيغ أو نُقِّح لاحقا تنقيحا شديدا من طرف مجموعة من الأشخاص، حينئذ كيف نُفسِّر مثل هذه الوحدة التي يتمتّع بها النّص؟ يبدو لنا أنّ أفضل إجابة لسؤالنا المطروح سابقا هي الإجابة العكسيّة: صياغة القانونيّة داخل النّص تسبق القانونيّة الفعليّة للنّص القرآني.
فرضيّة آرثر جيفري
تلك هي الفرضية التي قدّمها آرثر جيفري في مقاله "القرآن كنصّ مقدّس" (جيفري، 1950)، الذي رغم قِدمه، يبدو لنا جديرًا بأن يؤخذ بعين الإعتبار وبالخصوص فيما يهمّنا هنا. فقد كتب:
"[القرآن] من بدايته إلى نهايته هو إنتاج رجل واحد ومن فترة واحدة. الجماعة الإسلامية هي التي قامت بجمع مواد المصحف مع بعضها البعض بعد موت المؤسِّس [محمّد] وأعدَّته لكي يُستعمل من طرفها، غير أنّ محتواه كان قد سلّمه لهم المؤسّس قبل وفاته كنصّ مُقدّس. فلم يكن هذا النّص إنتاجًا للجماعة الإسلامية بمعنى أنّها هي التي كانت قد قرّرت أنّ ذلك هو مجموع الكتابات التي نَمت داخل الجماعة والتي سمعوا فيها الصوت الحقّ للسّلطة الدينيّة، بل أنّ النّص ألَّفه رجل واحد ثمّ سُلِّم للجماعة تحت سلطته كمجموعة من "الوحي" التي جاءت لتُنظِّم حياتها الدينيّة كجماعة" (جيفري، 1950: 44).
نلاحظ أنّ الوحدة المقصودة داخل النّص تعني، بالنسبة لآرثر جيفري، أنّ رجلا واحدا، محمّد، كان هو أصل هذا النّص. ومحمّد يُسلِّم لأمّته النّص القرآني "على أنّه كتاب مقدّس". ولكن، دون أن نشاطر رأيه القائل بأنّ "القرآن من بدايته إلى نهايته هو إنتاج رجل واحد ومن فترة واحدة"، فإنّنا نوافق على فكرة أنّ السلطة الكتابيّة لأقوال محمّد حدثت زمن حياته، في أوّل بداية تاريخ الأمّة الإسلاميّة. وأنّ هذه السلطة القانونيّة المقدّسة كانت مُصاغة داخل النّص القرآني مهما كانت الحالة التي كان عليها القرآن (أكان مكتوبًا أم شفويًّا، مجموعًا أم لا، أو في قراءات مختلفة، إلخ).
قراءة تزامُنيّة
هناك دليل آخر يعمل لصالح هذه الفكرة يكمن في أنّ قراءة تزامنيّة (تلك التي تُتابع مختلف فرضيات التطوّر الكرونولوجي للنّص) تعطي النتائج التّالية. لقد عاينّا تطوّرا حقيقيّا للفكرة داخل النّص: فترة كانت فيه تلاوات محمّد تُوصف مباشرة بأنّها تلاوات أَوْحى بها الله، ثمّ بسرعة جاءت فترة أُطلِق فيها على هذه التلاوات اسم "كتاب" أُنزل على النّبي، وذلك بالتوازي مع تعريف النّبوّة. وأخيرا، جاءت فترة وهي فترة التصدام مع وجود كتب مقدّسة فعليّة بين أيدي أُمم أخرى (بواليفو، 2010: الجزء الثالث). يبدو لنا من الصعب التفكير في أنّ مثل هذا التطوّر، على الأقل في جزء كبير منه، كان قد حدث بعد موت محمّد.
وهذا الطرح يقترب من أعمال أنجيليكا نويفيرت، دون أن يتّفق معها اتّفاقا كاملاً ومع مدرستها التي تعتبر أنّ النّص يتطوّر كرونولوجيًّا، منذ حياة محمّد، بواسطة تفاعلات محمّد مع محيطه، تفاعلات يُنظَر إليها على أنّها شروحات تنضاف إلى الدعوى الأوّليّة. وهذا التطوّر وقع بواسطة "إعادة فحصٍ دائمة للكلام المَتْلو على ضوء تقبُّله من طرف مُستَلِميه" والتي تُساهِم إذن في تشكيل القانون (النّص الرسمي)، وذلك في علاقة مع سَنّ الشعائر (نويفيرت، a 2000: 201).
في وجه هذه القراءات التزامنيّة يمكن أنّ نتذرّع بحجّة أنّ مختلف شرائح النّص تأتي من كرونولوجيا أكثر اتّساعًا – من حياة محمّد إلى القرن التاسع ميلادي – أو أيضا أنّها جاءت من تأثيرات مُختلفة. ولكنّ قراءة أكثر دقّة تمنعنا من المصادقة على مثل هذه الفرضيّات بخصوص الجزء الأكثر أهمّية من حيث الكّم – أي بخصوص الخطاب المتعلّق بمنزلة النّص القرآني. فالطابع الموحَّد لأسلوب النّص والبَرهَنة فيه تُظهر لنا بالأحرى "مُؤلِّفا" لا يتزحزح عن مواقفه الخّاصة ومُرسِّخًا لها دون أن يُطوِّر براهين خارج مُسلَّماته الأوّليّة الخاصة به (بواليفو، 2010: الجزء الثالث)، وليس مجموعة "مؤلِّفين" يتناقشون فيما بينهم ويعرضون نظريّات مُعقّدة في مجابهة وسط يهودي ومسيحي مُثقَّف. من الصعب علينا أن نرى مجموعة وهي تتّفق على خطّة الوحي القرآنيّة إذا لم تكن هذه المجموعة مقتنعة مُسبقًا بتلك الخطّة. ومن الصعب كذلك تصوُّر هذه المجموعة وهي تتّفق على أسلوب بلاغي مُحدَّد، مُوحَّد، يحتوي على عناصره الدقيقة الخاصّة به. فالوثيقة الإجماعيّة غالبا ما تُحرَّر بأسلوب "مُسطَّح" أكثر بكثير. ترتيب النّص (كويبرس، 2007) يشفع أيضا لتنظيم مُوحَّد له. في نظرنا، يكون من الأسهل إنتاج إجماعٍ في وسط أكثر ضيقا وأكثر انفصالا عن العالم الحضري اليهودي والمسيحي، أكثر ابتعادا عن المراكز السياسية والدينيّة للمنطقة، منه عندما يكون الفاعلون كُثر وعلى رأس امبراطوريّة مترامية الأطراف.
مصادر اسلاميّة قديمة
هناك نقطة أخرى تتمثّل في أنّ المصادر الإسلاميّة الأخرى تُسوق في هذا الإتجاه – القرآن قد يتأتّى من كلام محمّد وليس من كلام فريق من الأشخاص، وذلك بالرّغم من أنّ فريقا من الأشخاص هو الذي قد يكون قد باشر بالتدوين، والجمع والنشر الموحَّد للنّص. إنّ تقديما مثل هذا، دون أن يُعتَبر تقديما تاريخيّا، فإنّه يوشي لنا بأنّه من المحتمل أنّ مؤلِّفي أو جامعي هذه المصادر كانوا قد انخرطوا بسرعة كبيرة في مثل هذا الإجماع – أي السّلطة المطلَقة للنّص المحمّدي – وأنّهم سعوا إلى إغنائه وترسيخ أُسُسه بتطوير عِلم كامل لبدايات الإسلام ولسيرة النّبي التي يبدو فيها وكأنّ مفهوم سلطة النّص المطلقة الآتي من هذا النّبي قد وقع آنذاك تَقبُّله.
يبدو من خلال مجموعات الحديث أنّ منزلة القرآن القانونيّة كانت حينذاك مُكتَسبَة، ولا جدال فيها. فقد وردت فيها السلطة القانونيّة للقرآن بصورة جليّة إلى درجة أنّه يقع بالكاد التعبير عنها. فالفصول المُخصَّصة للقرآن تتعلّق بالقواعد التي يجب تطبيقها عندما نلمس المصحف أو نقرأ القرآن، ولكنّها لا تهتمّ بمسألة سلطة النّص التي كان من المفترض إثباتها. نلاحظ أنّ هذا الأمر ينطبق كذلك عل كتب التفاسير: منطقيّا، يعتبر المُفسّرون بكلّ وضوح أنّ السلطة القانونيّة للنّص هي من المحصول الحاصل. وهذا ما يؤكِّد فكرة أنّ الأحاديث وكذلك التفاسير جاءت لاحقًا بعد القرآن بفترة طويلة.
لقد قامت أ. نويفيرت باقتباس فكرةٍ، ظهرت في الدراسات البَيْبلِيَّة (الكتاب المقدّس)، طبّقتها على القرآن ومفادها أنّ القانونيّة تحدث عندما يشرع المؤلِّفون ف كتابة التفسير خارج النّص. من قبل، كان النّص يزداد اتّساعًا بفضل الشرائح الجديدة المُضافة والتي هي تفاسير لشرائح النّص الأوَّل. فيما بعد، أصبحت التفاسير والشروح تُكتَب خارج النّص الذي أصبح من الآن فصاعدا مُغلَقًا: صارت هذه الشروح والتعاليق كُتبَ تفاسير ((نويفيرت، a 2000: 201؛ b 2000: 146). إذن، كيف يمكن أن نتصوَّر التفاسير والنّص القرآني يتقدّمان معًا وفي نفس الوقت في مسار تكوُّنهما؟ فلماذا يكُلِّف المؤلِّفون أنفسهم عناء تسوير النصّ الأوّل بالشروحات إذا لم يكن هذا النّص قانونيًّا – الشيء الذي يفترض أنّ هذا النّص كان موجودًا على الأقل في جزء كبير منه – ولكن كان حَريُّ بهم أن يكتبوا شرحهم الخّاص بهم مباشرة، سواء في النّص الأوَّل، أو بتأليف نصّ جديد يكون له نفس المقدار من السّلطة كالنّص الأوّل. وهنا أيضا، هذا يُعزِّز فكرة أنّ التفاسير تطوّرت بعد غلق النّص، تحديدًا في الوقت الذي "خرج" فيه الشرح من النّص، أو على الأقل من نصّ سبق وأن ثُبِّت إلى حدٍّ بعيد.
صياغة سلطة القرآن
فرضيتنا لا تكمن في القول بأنّ "القانونيّة" جاءت مُبكِّرا جدًّا في شكلها المتكامل، ولكن فقط في جانبها المتعلّق بالسّلطة. فعلا، بالنّسبة لنا، يجب الفصل من ناحية، كما أشارنا إلى ذلك في المقدّمة، بين سلطة النّص، ومن ناحية أخرى تحديد تخومه أو تثبيته. من جهة أخرى، يجب الفصل بين الإعلان عن القانونيّة في النّص القرآني وبين فعليَّتها داخل الجماعة الإسلامية.
دانيال ماديغين يدمج القانونيّة الفعليّة داخل الجماعة الإسلاميّة مع خطاب القانونيّة الحاضر في القرآن؛ فهو يعتبر أنّ القانونيّة هي إعلان الجماعة الإسلاميّة الشكلي لقدسيّة النّص لكي تُفصِح عن اعترافها بهذه القانونيّة (ماديغين، 1995: 352). والحال أنّ هذه الصياغة، وهذا ثابت بما لا يدع مجالا للشّك، لا تأتي، قبل كلّ شيء، داخل نصوص خارجيّة، مثل إعلانات رسميّة للسّلطة الدينيّة، أو أيضا تفاسير، بل تأتي في النّص القانوني نفسه.
بالفعل، لقد سمحَت لنا دراستنا أن نُعاين أنّ الجزء الأكبر من النّص القرآني يُستخدم للدّفاع عن قانونيّة القرآن: جوهر النّص يتمثّل في بَرْهنة تهدف إلى اقناع السّامع أو القارئ أنّ هذا الكلام، هذا القرآن، هو كتاب مقدّس يحظى بسلطة إلاهيّة، وهو الكتاب الوحيد الذي أُنزِل للجماعة الصالحة الوحيدة – جماعة "المؤمنين"، جماعة "المُسلمين"، أي لهؤلاء الذين يتبعون محمّد، والذين هم على الصراط المستقيم. فالنّص يُخصّص جزءًا هامّا منه ليقول للجماعة الإسلاميّة أنّه هو النّص الذي يجب عليها أن تعتمده كنّص قانوني، والوحيد الذي لا غير سواه.
نحن نبسط فرضيّة أنّ أوّل فكرة طُرحت في الإسلام في زمن محمّد هي، على الأرجح، فكرة سلطة قراءات محمّد باعتبارها "كتابة مقدّسة على الطريقة اليهوديّة/المسيحيّة". وكلّ الأقوال، من بين تلك القراءات، التي يقول النّبي أنها جاءته من الله، هي أقوال تكتسي سلطة قانونيّة. إنّنا نستخلص من استطلاعاتنا للنّص القرآني، وحسب رأينا، أنّ هذه الفكرة المُزدوجة هي التي ينحدر منها الباقي كلّه. ولهذا يبدو لنا من المنطقي أن تكون هذه الفكرة المزْدوَجة هي بالتحديد الفكرة التي وقعت صياغتها في الزمن المبكِّر من تاريخ الأمّة الجديدة.
إعادة عرض كرونولوجيَّة المسار
أخيرا، إنّ فرضيتنا حول المراحل الكونولوجيّة لقانونيّة النّص القرآني هي كالتّالي، وبصورة اجماليّة، على امتداد فترة زمنيّة ليس بإمكاننا تحديدها هنا:
1 – نحن أمام نصّ (حدوده، على الأرجح، غير واضحة المعالم؟ شفوي في جزء منه؟ له نُسح مختلفة؟)، يُعلن بقوّةٍ سلطته القانونيّة الذّاتية؛ ويُعلن أيضا تخومه (فهو يُعرَّف بأنّه مجموعة الأقوال التي استلمها محمّد من الله وبلّغها كما هي دون زيادة أو نقصان).
2 – جماعة، وهي تستمع لهذا النّص، وجدت نفسها مقتنعة بالسلطة القانونيّة (المُقدّسة، والدينيّة) للنّص الذي نحن بصدده.
3 – جماعة، وأمام بعض الضرورات التي لن نحلّلها هنا، قامت بتثبيت النّص (تدوين؟ جمع، انتقاء، إقرار مختلف القراءات، إلخ؟)، وبما أنّ هذا النّص التي كانت تُثبِّته كان يحتوي على هذه البرهنة الأولى لصالح سلطة وختم النّص، فإنّ هذه الأفكار وجدت هكذا نفسها موضوعة على الواجهة: وبالمقابل فهي تُستخدم إذن لإعلان القانونيّة سواء لدى الجماعة الإسلاميّة النّامية أو لدى الجماعات الأخرى.
العنصران المكوّنان لمسار القانونيّة، السلطة والتّثبيت، هما إذن غير مُتزامِنَين. ونضيف أنّه بالنسبة للمرحلة الأخيرة، مرحلة تثبيت النّص، فإنّنا، بمعنى أو بآخر، يمكننا الإقتراب من أ. لويس دي بريمار وجون ونسبرو. فهذا الأخير إنّما يُشير إلى تثبيت النّص عندما يستعمل عبارة "قانونيّة"، فهو يقول: "منطقيًّا، يبدو لي من المستحيل تماما أن تكون القانونيّة سابقة، وليست لاحقة للإعتراف بسلطة النّص المقدّس داخل الجماعة الإسلاميّة" (ونسبرو، 2004: 202).
وبما أنّ ونسبرو لا يُفرّق، تحت عبارة "قانونيّة"، بين تثبيت النّص وسلطته، فهو يتابع فكرته مؤكِّدًا أنّ "قانونيّة" ومحتوى النّص جاءا متأخِّرين. في حين أنّه بالنسبة لنا، محتوى النّص هو الذي يخلق سلطة النّص، واستنادا إلى هذا، وكما يعترف به ونسبرو أعلاه بأنّ السلطة تسبق التثبيت، فإنّ هذا يعني أنّ ادِّعاءه بأنّ "القانونيّة جاءت متأخِّرة" لا تنطبق في الواقع إلاّ على جانب "تثبيت" القانونيّة.
من جهة أخرى، تختلف فرضيّتنا في جزء منها عن فرضيّات دي بريمار الذي يعتبر أنّ بعض ملامح إعلان القانونيّة في النّص – التي لا يُسمّيها كذلك بل يأخذ بعين الإعتبار في دراسته مقاطع جداليّة في القرآن – تظهر كإجابة لحاجة لدى الجماعة الإسلامية في مرحلة ثانية من تطوّر النّص (مرحلة نشأته إلى نهاية القرن السابع ميلادي). ولكنّنا نقترب من دي بريمار فيما يتعلّق بفكرة أنّ إعلان القانونيّة داخل النّص وقع قبل التّثبيت النهائي للمصحف والذي يعتبر أنّ هذا التثبيت امتدّ إلى غاية 936 م.
في الختام
إذا أردنا تنزيل القرآن وسط النصوص المقدّسة الدينيّة الأخرى فإنّنا نلاحظ أنّه يقدّم خاصيّة نادرة بعض الشيء: فهو يقدّم نفسه على أنّه نصّ مرصود صراحةً لفرض سلطته على الجماعة الإسلاميّة ولقيادتها. الإستثناء الوحيد ما قبل القرآن، على ما يبدو، هي نصوص النّبي ماني (تـ 277 م) التّي قُدِّمت من طرفه هو نفسه على أنّها "نصوص مقدّسة" (غراهام، 2006: 560-561). وحديثا، "كتاب المورمون" أو كتابات بهاء الله التي تؤسِّس أيضا منزلتها على خطاب يتعلّق بالكتب المقدّسة السابقة (جيفري، 1950: 44). بالطّبع، في المثال الذي سقناه أعلاه من سفر التّثنية نلاحظ أنّ هناك صياغة مّا عن القانونيّة موجودة في النّص البيبلي. ومن المحتمل جدًّا أنّ يكون الأمر كذلك في القرآن كما هو في المثال البيبلي:
- هناك عناصر أكثر قِدمًا قد تكون قد استُعيدت لكي تُستخدَم كأنموذج لإعلان السلطة القرآنيّة الجديدة: من الطبيعي أن نفكّر هنا في الكتب المقدّسة السابقة وفي مفاهيم مثل مفهوم "النّبوّة" ومفهوم "الوحي"؛
- عبارة القانونيّة لم تكن تشمل بالضرورة كامل النّص في البداية، وفي كلّ الأحوال ليس بالضرورة بالصفة التي وقع تحديده النّص بها فيما بعد: وهذا ما أبرزناه في دراستنا (بواليفو، 2010: الجزء الثالث)، بمعنى أنّ النّص القرآني كان لا يزال بعْد في فتر التكوّن.
ولكن يبقى أنّه داخل القرآن يأتي هذا الخطاب المتعلّق بالقانونيّة قويًّا جدًّا ويحتلّ فيه جزءًا هامًّا، خلافًا لخطاب النّص البيبلي. يضيف آ. جيفري بخصوص العهد الجديد والأبستاق Avesta (كتاب الرسول زردشت):
"في كلا الحالتين، كان مؤلِّفو مختلف الكتابات يتعمّدون عن وعي إنتاج وثائق من شأنها أن تأخذ مكانها إلى جانب الكتابات المقدّسة القديمة باعتبارها هي أيضا ترقى إلى منزلة الكتابات المقدّسة. لقد رُفعت إلى منزلة الكتابات المقدّسة لأنّ الجماعة سمِعت فيها نفس الصوت الصحيح للسلطة الدينيّة كما كانوا قد تعوّدوا على سماعه في الكتابات المقدّسة القديمة. القرآن، على العكس من ذلك، كان قدّ قُدِّم للجماعة الإسلامية تحت سلطة محمّد، والجماعة كانت مدعُوَّة لقبوله على أنّ له سُلطة مُعتمَدة على غرار تعاطي اليهود والمسيحيّين مع كتبهم المقدّسة" (جيفري، 1950: 44).
هكذا، وعلى العكس من الكتابات المقدّسة مثل الأناجيل ورسائل بولس، فإنّ القرآن، بقوّة وحضور مكثّف أرقى بكثير من الخطاب القانوني في سفر التثنية، يُعرِّف نفسه ككتابة مقدّسة مُوحى بها، نزلت مباشرة من الله. بشكل من الأشكال، القرآن يقوم بـ "قانونيّة ذاتيّة". فالقرآن هو كتابة مُقدّسة لأنّه، قبل كل شيء، هو الذي يؤكِّده، وليس لأنّ جماعة كانت قد وصفته كذلك. هذا حتّى وإن كانت الجماعة التي تأسّست على هذه الفكرة كانت قد تبنّت ذلك فيما بعد. نرى إذن أنّ إعلان القانونيّة وأسباب هذه القانونيّة، وتثبيت النّص، وتأسيس جماعة، كلّها عناصر تتشابك فيما بينها. وهكذا فإنّ هذه الصياغة النّصية لمنزلة سلطة القرآن المُنزَّلة في قلب النّص "تُشوِّش الدروب" التي تعود إلى أصول منزلته القانونيّة.
* انظر ترجمتنا الكاملة لهذا الكتاب القيّم التي نشرناها في حلقات على موقع الحوار المتمدّن.
المراجع:
Berque Jacques, 2002, Le Coran. Essai de traduction, Paris, Albin Michel, 842 p.
Boisliveau Anne-Sylvie, 2010, « Le Coran par lui-même ». L’autoréférence dans le texte coranique, thèse de doctorat en études arabes et islamologie, Université Aix-Marseille I, France.
BrownJonathan A. C., 2007, The Canonization of al-Bukhā-;-rī-;- and Muslim. The Formation and -function- of the Sunnī-;- Ḥ-;-adī-;-th Canon, Leyde, Brill, 431 p.
Cuypers Michel, 2007, Le Festin. Une lecture de la sourate al-Mâ’ida, Paris, Lethielleux, 453 p.
De Prémare Alfred-Louis,2004, Aux origines du Coran. Questions d’hier, approches d’aujourd’hui, Paris, Téraèdre, 143 p.
— 2002, Les fondations de l islam. Entre écriture et histoire, Paris, Seuil, 535 p.
Gobillot Geneviève, 2007, « Apocryphes de l’Ancien et du Nouveau Testament », in Mohammad Ali Amir-Moezzi (-dir-.), Dictionnaire du Coran, Paris, Robert Laffont, 982 p.
Graham William A., 2004, « -script-ure and the Qur’ân », in Jane D. McAuliffe(-dir-.), Encyclopaedia of the Qur’ân, Leyde & Boston, Brill, Vol. 4, p. 558-569.
Gwynne Rosalind Ward, 2004, Logic, Rhetoric and Legal Reasoning in the Qur’an. God’s Arguments, Londres & New York, Routledge Curzon, 251 p.
HALBERTAL Moshe, 1997, People of the Book. Canon, Meaning and Authority, Cambridge (Massachusetts) & Londres, Harvard U. P., 185 p.
JEFFERY Arthur, 1950, « The Qur’ā-;-n as a -script-ure », The Muslim Worldxl, p. 41-55, 106-134, 185-206, 257-275.
LEVINSON Bernard M., 2005, L’Herméneutique de l’innovation. Canon et exégèse dans l’Israël biblique, Bruxelles, éd. Lessius, 103 p.
MADIGAN Daniel A., 1995, « Reflections on Some Current -dir-ections in Qur’anic Studies », The Muslim Worldlxxxv, p. 345-362.
— 2001, TheQur’an’s self-image: writing and authority in Islam’s -script-ure, Princeton, Princeton UP, 236 p.
NEUWIRTH Angelika, 2000a, « Du texte de récitation au canon en passant par la liturgie. À-;- propos de la genèse de la composition des sourates et de sa redissolution au cours du développement du culte islamique », Arabicaxlvii, p. 194-229. (Traduction par Thomas HERZOG).
— 2000b, « Referentiality and Textuality in Sū-;-rat al-Ḥ-;-ijr. Some Observations on the Qur’ā-;-nic “Canonical Process” and the Emergence of a Community », in Issa J. BOULLATA (-dir-.), Literary Structures of Religious Meaning in the Qur’ā-;-n, Richmond / Surrey, éd. Curzon, 393 p.
URVOY Marie-Thérèse, 2002, « De quelques procédés de persuasion dans le Coran »,Arabicaxlix/4, p. 456-476.
URVOYDominique et Marie-Thérèse, 2007, L’action psychologique dans le Coran, Paris, Cerf, 104 p.
WANSBROUGH John, 2004 (1e éd. 1977), Quranic Studies, Sources and methods of -script-ural interpretation, Oxford, Oxford UP, 316 p.
#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟