|
بناء القضية السورية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 4519 - 2014 / 7 / 21 - 13:46
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لا يكفي نحو مئتي ألف ضحية ودمار ربع المساكن في البلد وتهجير نحو 40% من السكان من منازلهم حتى تكون لدينا قضية سورية. القضية السورية ليست مجمل آلام السورريين، بل المعنى الإنساني الذي يستخصله السوريون من آلامهم أو ينسبونه إليها، وينجحون في ربط صراعهم به، فيجلعون من اسمهم ومن محنتهم عنوانا يمكن لغيرهم أن يستحضره في كفاحه، رمزا عاما. لا يكفي أيضا سوق المعلومات والتفاصيل الكافية عن تسبب النظام الأسدي بهذه التراجيديا التاريخية الكبيرة. هذا صحيح، وكان يمكن تجنب الكارثة الإنسانية والمادية والسيكولوجية التي أحاقت بالبلد لو كان لدى طغمة الدولة الأسدية ما يقارب وطنية حسني مبارك. لكن عبر مسار 40 شهرا، دخلت الصراع السوري مجموعات إسلامية سنية، لم تفجر الثورة ولم تشارك فيها طوال شهور، إلا أنها اليوم طيف منتشر من قوى مسلحة متخاصمة. وإلى جانبها وضدها طيف من قوى إسلامية شيعية، غير متنازعة فيما بينها، تحارب في صف النظام. بمجموعها المتقاتل، هذه القوى السنية والشيعية تحيل إلى مشكلتين متداخلتين: المشكلة الطائفية ومواقع الجماعات الدينية والمذهبية في الدول القائمة، ثم المشكلة الدينية الإسلامية وموقع الإسلام في الدول والمجتمعات. وظاهر أن هاتين مشكلتان سابقتان للثورة السورية، وإن ظهرتا بحدة خاصة في شروطها المعلومة. وفي خلفية الصراع، ومن وراء ستاره، ومن أمامه أحيانا، هناك دور بنيوي إسرائيلي، وأميركي، مستمر وثابت. ليس هذا الدور قابلا للحذف ولا للتقليل من شأنه، وإن لم يكن ظاهرا في كل حين أو منخرطا مباشرة في الصراع. عدا أن أوضاع بلدنا وإقليمنا لا تفهم دون الأخذ في الحسبان للتحالف المديد بين السيدين الدولي والإقليمي، فإن الشحيح من المعلومات المتاحة يفيد أن الإدارة الأميركية اعتنقت الرؤية الإسرائيلية حيال الثورة السورية، على ما يبدو أن هيلاري كلينتون قالته في مذكراتها التي نشرت مؤخرا، وهي تفضل نظاما يمكن التنبؤ بتصرفاته حيالها كأنها تقرأ في كتاب مفتوح، وإلا فتمادي الصراع السوري إلى استنزاف مادي وسياسي ومعنوي كامل للبلد (نسخة إسرائيلية خاصة من "الأسد أو نحرق البلد"). أسهم هذا الدور الذي لا نستطيع المبالغة في حجمه في تعقيد وفي تعفن الصراع السوري. الحليفان في موقع سند للقاتل العام، وقوة تحطيم لعموم السورين المتمردين عليه. وهما عمليا في الموقع الإيراني نفسه الذي يبحثان عن تسويات معه على حساب الجسد السوري المزق. هذا واقع لا يمكن إغفاله، لا من جهة معرفة واقع الحال، ولا من جهة السياسة والفاعلية السياسة، ولا من جهة القيم ومبادئ العدالة. الوضع الراهن للصراع السوري متكون، في المحصلة، من تفاعل ثلاثة قوى لا قانون لها: الدولة الأسدية وحلفاؤها، المجموعات الإسلامية المحاربة والمتحاربة، والتحالف الأميركي الإسرائيلي. هذا ما يجعله صراعا فائق المأساوية، فالأمر لا يتعلق بمواجهة عدو واحد لتحرر السوريين هو النظام، ولا عدوين اثنين هما النظام والإسلاميين، بل ينضاف إليهما ثنائي السيطرة الدولية والإقليمية، أميركا وإسرائيل. ومن صراع تحرري ضمن الإطار الوطني، القضية السورية اليوم ذات بعد إقليمي أساسي، وذات بعد دولي أساسي بدوره. هذا ما يجعلها مبدئيا قضية تحرر إقليمية وعالمية. ولكل من الأبعاد الثلاثة امتاداته الدولية والتاريخية. فالنظام السوري جزء من تحالف إقليمي طائفي يشمل إيران وتابعيها في عراق المالكي وفي حزب الله اللبناني، ويحيل إلى عمق وتاريخي وميثولوجي يمتد إلى أزمنة الإسلام الباكرة. والقوى الإسلامية السياسية والعسكرية ترتبط بشبكات إقليمية سنية تشمل دولا في الخليج وجماعات ومنظمات، وهي بدورها تحيل إلى عمق تاريخي وميثولوجي يعود إلى أزمنة الإسلام الباكرة. أما أميركا وإسرائيل فهما قوتا سيطرة دولية وإقليمية، لهما امتداد دولي مهيمن في "الغرب" الكبير والكثير، وامتداد تاريخي في عقائد الخلاص القديمة وأساطير الميعاد، ووعي نخبهما الذاتي الطائفي لا يشكو أبدا من خفوت، حين يتعلق الأمر بإقليمنا على الأقل. والطائفية على أي مستوى إيديولوجية سلطة وطبقة، وليست دينا أو إيديولوجية هوية. لكن هذا الشرط الثلاثي هو ما يجعل بناء معنى واضح للصراع أمرا بالغ المشقة. كنا نتكلم بحق على ثورة في مواجهة نظام ملوكي استعبادي. مع ظهور مجموعات إسلامية تمارس سلطة على الأرض وتكرر ممارسات النظام حيال عموم الناس، صرنا حيال صراع مركب، يقتضي المزج بين التحرر السياسي والتحرر الديني. لكننا نفتقر إلى مفهوم لتسمية هذا الصراع. والأمر أكثر مشقة عند احتساب الدور الأميركي الإسرائيلي، وهو منذ ثلاثة أجيال بمثابة القدر الساحق المشؤوم الذي يهيمن على حياتنا. فإذا كان بناء القضية السورية غير ممكن دون أخذ هذا الواقع ثلاثي الأبعاد بالحسبان، فإن ما يزيد من الصفة التراجيدية لصراع على ثلاث جبهات هو العسر الهائل في بناء معناه. المفهوم/ القيمة الذي يمكن أن يوحد هذا الكفاح هو الانعتاق: التحرر السياسي المؤسس على التحرر الروحي واستقلال إرادة كل فرد، واستقلال الإرادة العامة. صراعنا في سورية مزيج من حركة تحرر وطني تخوض صراعا مع جيل جديد من المستعمرين: إيران وأدواتها، وداعش وأشباهها، وليس المستعمرين القدامى وحدهم، ومن ثورة ديمقراطية، ومن حركة تحرر ديني. لكن بينما قد يمكن مواجهة عدو واحد بالحرب، فإن مواجهة عدوين تقتضي السياسة، ومواجهة ثلاثة أعداء ميدانها الثقافة أساسا. أو التأسيس الجديد. إعادة تأسيس أنفسنا على نحو لا يعزلنا عن العالم أو يضعنا في مواجهة عدمية معه، على ما يفعل الإسلاميون اليوم، ولا يفرط بتطلعنا إلى دور عالمي يلبي تعطشنا إلى الكرامة الجمعية في العالم. وليس في القول إن الثقافة هي ميدان التأسيس الجديد ما يجعل التأسيس فعلا تأمليا. إنه فعل صراعي، وإن لم يكن موجها نحو ميدان الفاعلية السياسية المحض. كل ما له قيمة ثقافيا في زمننا الراهن أتى من الانخراط المباشر في الصراع، وليس من تأملات نبوية عن بعد. الثقافة سياسة مكثفة، إن حاكينا تعبيرا للينين يقول إن السياسة اقتصاد مكثف. بناء قضيتنا كقضية انعتاق إنساني عام هو ما يمكن أن يكون ردا جديا على تحطيم بلدنا.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن -هامش-، وعن -بلدنا الرهيب-/ حوار
-
خلافة داعش: تبقى، على ألا تتمدد
-
المنابع الإسلامية السنية للطائفية في سورية
-
الخلافة، الخليفة، و-خلافو-
-
ثلاثة أشكال للطائفية في المشرق
-
فراس
-
-تغيير المجتمع-: ثلاث تصورات وثلاث تيارات
-
قضية مخطوفي دوما الأربعة ومواقف تشكيلات المعارضة السياسية
-
سميرة الخليل
-
القضية الأخلاقية ضد اختطاف سميرة ورزان ووائل وناظم
-
حول تغطيات إعلامية غربية ل-ما يجري في سورية-
-
من مثال الدولة إلى المقاومات الاجتماعية
-
أبو عدنان فليطاني
-
سورية تحت احتلالين، وهناك حاجة لحركة تحرر وطني جديدة/ حوار
-
-القاعدة-... امبراطوريتنا البديلة
-
تطور لا متكافئ مركب للأوضاع السورية
-
مقاومة بالتذكر: جانب من سيرة دعوة -المصالحة الوطنية-
-
الكتابة بالعين والكتابة بالعينين
-
نظرة إلى اقتصاديات السياسة والحرب والعمل العام
-
بصدد تحركات بشرية مرافقة للصراع السوري
المزيد.....
-
وفاة الملحن المصري محمد رحيم عن عمر يناهز 45 عامًا
-
مراسلتنا في الأردن: تواجد أمني كثيف في محيط السفارة الإسرائي
...
-
ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة بالضاحية الجنوبية؟
-
-تدمير دبابات واشتباكات وإيقاع قتلى وجرحى-.. حزب الله ينفذ 3
...
-
ميركل: سيتعين على أوكرانيا والغرب التحاور مع روسيا
-
السودان.. الجهود الدولية متعثرة ولا أفق لوقف الحرب
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|