سامي العباس
الحوار المتمدن-العدد: 1275 - 2005 / 8 / 3 - 09:56
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بين الأسئلة - التي تطرح نفسها على خلفية المأزق الذي وصل إليه خيار رأسمالية الدولة كحل تفتقت عنه أزمة انحباس الرأسمالية قبل نصف قرن في المشرق العربي - السؤال التالي : هل يكفي إعادة السياسة إلى التداول- بعد سحبها طيلة نصف قرن – لوضع الأزمة على سكة الحل ؟ أم أن الوقت المناسب قد جرى تفويته ؟ ...
بادئ ذي بدء ينبغي التحوط مسبقاً مما يشيعه هذا السؤال من ظلال , قد يظن بعضهم أنها تخفي رغبة مبطنة بطي مشروع دقرطة النظام السياسي العربي, سواء تم هذا على خلفية الضغط الأمريكي أم استجابة لعوامل محلية بحتة .
ذلك أنه خير للديمقراطية أن تأتي متأخرةً من أن لا تأتي أبداً.إ لا أن السؤال يأتي على خلفية أخرى ,تتصل التبدلات التي طرأت على التوازنات التي كانت سائدة قبل نصف قرن بين الإصطفافات الأفقية/ العمودية, تحت ضغط انهيار النموذج الليبرالي للدولة الوطنية الموروث عن المرحلة الكولونيالية . و لعله من المفيد الذهاب بالتقصي العلمي إلى محفزات إعادة تشغيل الإصطفافات الأفقية داخل الحواضر الزراعية - التجارية المبعثرة على مساحة العالم العربي بدءاً من أوائل القرن التاسع عشر الميلادي ...
في كتابه: العرب و السياسة: أين الخلل ؟ الصادر عن دار السافي, يضع محمد جابر الأنصاري يده على عرق ثمين قرر ملاحقته داخل الطبقات الجيولوجية للمجتمعات التي تأثرت بالظاهرة الإسلامية . يقول الأنصاري :
إن أهم ما تركته الإجتياحات الرعوية المتكررة في البنية الفوقية للمجتمعات المتشكلة هي الإنقسامات العمودية التي تغذيها و تتفاعل معها الأيديولوجيات المتفرعة عن الظاهرة الدينية . ذلك أنه على مدار التاريخ الإسلامي , لم تستطع الإنقسامات الأفقية أن تمارس حضوراً مستمراً في الزمان – المكان إلى المستوى الذي ينضج عملية الإنتقال إلى نمط إنتاج أرقى ... و التاريخ الإسلامي يملك نقطتي علام بارزتين من هذه الإنقطاعات في السيرورة المفضية إلى التحول نحو نمط إنتاج أرقى ..
النقطة الأولى : عند حافة القرن الثالث الهجري , عندما استدعى الخليفة المعتصم الأتراك كعنصر توازن بين العصبيتين العموديتين العربية و الفارسية و النقطة الثانية : عند الإجتياح العثماني لدولة المماليك التي دخلت في حالة تناغم مع الحركة التاريخية-.التحول إلى الرأسمالية.-. التي باشرتها الأطراف الجنوبية للقارة الأوروبية : جمهوريات البندقية – نابولي ... إلخ .. تقودنا خطوات الأنصاري إلى حقلٍ لم يتم تفحصه جيداً بالمعنى الأبسمي , أي القرن الذي سبق انهيار الإمبراطورية العثمانية ( القرن التاسع عشر ) . فالذي جرى تظهيره في هذا الحقل هو المجريات الكبرى للأحداث التي تفصح فقط عن المتغيرات الطافية على السطح , تشد إليها البصر و البصيرة , صارفة إياهما عن الغوص عميقاً وراء المحفزات التي أعادت تشغيل الإنحيازات الأفقية .
فعلى سبيل المثال يلتقط المؤرخ من تصادم المشروعين التحديثيين لكلٍ من محمد على في مصر و السلطان محمود الثاني في اسطنبول, أنه قاد إلى التدخل الإمبريالي الأوروبي, و أن هذا التدخل قد وأد إلى حين مشروع الإصلاح . لكن المؤرخ لا يلتقط أن معاهدة 1838 التجارية- التي فرضتها القٌوى الإمبريالية الكبرى على السلطنة العثمانية , و التي نصت على إلغاء نظام الاحتكار في جميع ولايات الإمبراطورية العثمانية - قد شقت الطريق بفعالية للتحول إلى الملكية الخاصة ( الأرض – التجارة ) . أي أن المعاهدة ضربت العمود الفقري لنمط الإنتاج الخراجي وهو الملكية العامة لوسيلة الإنتاج ( الأرض – التجارة ) (1) و فتحت الطريق بالتالي نحو تخلّق الجنين البرجوازي . ما يعنينا في هذا السياق هو أن الإنقسامات العمودية لم تعد وحدها في الميدان . بل أن أشكال اشتغالها قد أخذت صيغاً ملتبسة جراء فعالية متنامية للإنقسامات الأفقية مثال على ذلك : انتفاضة الفلاحين الموارنة ضد المقا طعجيين الدروز عام 1860. حيث انجد لت الإنقسامات العمودية و الأفقية بصورة ستتكرر كثيراً في مجرى التطور اللاحق للمنطقة.
الملفت للنظر أن التمعن في القرنين المنصرمين ( العشرين و التاسع عشر )- و هما مقطع من الزمان استهلكته المنطقة للخروج من نمط الإنتاج الخراجي -, يكشف أن الضغط الخارجي كان في معظم الوقت وراء تشغيل الديناميات الداخلية بهذا الإتجاه . أي أن الغرب الذي حوله الفكر النضالي(السوفييتي-الاسلامي )المهيمن إلى شيطان يدس قرنه معرقلاً تبلور الأحلام و التمنيات هو غير ذلك . و لقد ساعد في ترسيخ هذا الانطباع أن أصابع الغرب لم تكن على تماس مباشر بالغايات التي تتوخاها النخب الثقافية و السياسية التي تشكلت في مجرى التثاقف معه . ذلك أن طابع القصد ية كان غائباً . و كانت صورة ما يفعله الغرب في العين المحلية هي الجزء الطافي , أو المرئي بواسطة منظار المصالح . أما الجزء غير المرئي فقد احتاج إلى البصيرة و الوقت ليعاد تثمينه من قبل الفئات المحلية. إنما كان مرئياً على سبيل المثال من خط حديد برلين – اسطنبول – بغداد – مكة المكرمة هو الأطماع الألمانية . أما الجزء الغارق من جبل الجليد فهو انفلات جدليات متنوعة من عقالها تحتاج الآن إلى ورشة عمل فكرية لالتقاط كافة خيوطها (2).
أصل بهذه القراءة لوقائع من تاريخنا الحديث إلى هذا الانطباع: لا يظهر لنخبنا الثقافية و السياسية على الأغلب إلا الجزء الطافي. و أن تجربتنا العقلية مع هذا الجزء الطافي هي التي تشكل وعينا السائد. و إذا أردنا أن نكون مؤدبين كثيراً في توصيفنا فإن كلمة منقوص قد تفي بالغرض.
* *
في تعريف ( لاكان ) لنفسه يقول ( أنا قارئ فرويد ) و يعقب على ذلك أدو نيس قائلاًَ : إن المعنى العميق وراء هذا القول البسيط هو أن فرويد لم ’يقرأ حقاً , إي لم ,ينقد قبل ( لاكان ) . و بهذا المعنى فإن نقداً حقيقياً لوعينا الراهن لا يمكن إجراؤه بمعزل عن قراءة تاريخنا الحديث أي نقده (3)
إن إعادة استظهار الحوادث هي معظم مقاربتنا العقلية لتاريخنا الحديث . بمعنى أن فضاءً واسعاً ملأته سياقات أطلقتها هذه الحوادث ظل متروكاً خارج عملية التفكير ينتظر كأرضٍ بور المحاريث القادمة . و من هنا فإن تحويل تاريخنا الحديث إلى نص مفتوح على القراءة باستمرار, هو البوابة لإعادة تشكيل وعينا ذاته. و إلا فإن تاريخنا الحديث سيظل سجناً لعقلٍ قرر أن يلعب دور السجين و السجان. كيف لوعينا أن يتلمس الجدليات التي أطلقتها هذه الحادثة أو تلك, هذا الإجراء أو ذاك ؟
لا يمكن لوعينا أن يقوم بذلك قبل أن يطرح عن كاهله اليقينيان الراسخة, و يغربل قراءاته مما يختلط بها من نوازع و آمال, و يرى الجزئي في إطار الكلي.
بالعودة إلى السؤال المطروح: هل فات الوقت المناسب ؟
أظن أن الوقت المناسب لأي تحول هو الوقت الذي تنضج فيه شروط التحول. و أن البحث عن إجابة ينبغي أن يذهب إلى هذه الشروط ليتفحصها واحدةً تلوى الأخرى..
1- الشرط الأول : وضعية الحامل الإجتماعي . لا أظن أن هناك من يجادل في أن مستوى التبلور الطبقي الراهن هو أعلى منه قبل نصف قرن في المجتمعات العربية الرئيسية.. ذلك أن علاقات الإنتاج الرأسمالية قد اتسعت لتطال الأرياف و البوادي..
و لم يعد للعمل العيني حضوراً وازناً في البنيات الإقتصادية, سواء منها الصناعية أم الزراعية أم الخدماتية . لقد أصبح العمل المأجور هو السائد في كل مكان, وأدى ذلك إلى ظهور تراتبية اجتماعية جديدة,احتلت فيها الطبقة البرجوازية موقع الهيمنة في البنية الإقتصادية – الإجتماعية .
2- مستوى تطورا لقوى المنتجة : أدى الشكل الذي انحلت فيه أزمة التحول الى الرأسمالية في الريف(القضاء على الإقطاع بواسطة المؤسسة العسكرية ). وهو ما اصطلح على تسميته بخيار رأسمالية الدولة إلى ( تفاقم الهوة بين تطور الشق البشري من قوى الإنتاج بفعل العامل الديمغرافي وباقي القاعدة المادية للإنتاج ) أدى ذلك إلى نتيجتين متناقضتين :
فمن جهة أدى اتساع العمل المأجور إلى إطلاق حرية انتقال اليد العاملة من الريف إلى المدينة و إغراق سوق العمل . و من جهة ثانية أدى إلى نزوح جزء من رأس المال المتراكم
إلى الخارج و تضييق القدرة على توسيع قاعدة الإنتاج لغياب المناخ الآمن (قضاء مستقل ولعبة تداول سلطة سلسة..الخ..) .
كل ذلك قاد إلى أزمة في عملية التحولات الرأسمالية لجهة تعمّقها , و هي أزمة تتجمع مفاتيح حلولها في المستوى السياسي و المستوى الأيديولوجي لا في المستوى الإقتصادي .
3- تماهت الدكتاتورية مع الفساد , فأصبحا وجهين لعملة واحدة في عين الرأي العام .
إن المستوى الراهن لهذا التما هي يشكل قوة دفع إضافية باتجاه التحول نحو الديمقراطية بشقيها :
- الشق المتعلق بنزع احتكار السياسة
- و الشق المتعلق بنزع الهيمنة الراهنة للأيديولوجيا القومية – الإشتراكية (الترجمة العربية --بتصرف – للماركسية )
4- إن الفراغ الذي ملأه الدين جراء انسحاب السياسة من حقل اختصاصها تتكشف خطورته مع الوقت على ما تبقى من نسيج وطني تمت حياكته بتعثر من قبل علمانية معربة بتصرف.
و يشتد الضغط و يتصاعد على التخوم التي لم تستطع هذه العلمانية المعربة بتصرف , محوها من الخارطة الدينية و الإثنية و الطائفية للاجتماع السياسي السوري , مهدداً إياها بسلسلة من التشققات . إن تنامي الإحساس الجماعي بالخطر سيشّغل جدلية يحّدد سمتها نوعية الوعي المسيطر.
5- اتسعت لائحة المتضررين من الإستبداد بحيث لم يتبقى خارج هذه اللائحة إلا شريحة ضيقة تكونت كبطانة شكلها الفساد حول الإستبداد , ليعطي لهذا الأخير قواماً و أسما هو ( برجوازية الدولة ) إلا أن اتساع لائحة المتضررين من غياب الديمقراطية لا يعني أنها أصبحت خيار الجميع , بل إنها يمكن أن تكون كذلك .
6- إن التمعن في المستوى الأيديولوجي الراهن يكشف أن حظوظ الديمقراطية ليست كبيرة .
إذ لا تحتل الليبرالية كخطاب أيديولوجي إلا حيزاً ضيقاً بالمقارنة مع الخطابات الأيديولوجية
( القومية الإشتراكية , الماركسية اللينينية , الإسلام السياسي ) و لا حاجة للقول أن الأيديولوجيات الثلاثة الأخيرة من الأربعة لا تكن شيئاً من الود لهذه الديمقراطية
إذا لم نقل أنها معاديةٌ لها بتفاوت .
7- تتلاقى جملة هذه الشروط الداخلية التي تتحكم بعملية التحول الديمقراطي من النموذج الشمولي للدولة إلى النموذج الليبرالي , مع مناخ عالمي إيجابي سيلعب دور بيضة ألقبان لجهة تحديد مصير هذه التحولات , نظراً للخلل البنيوي في التوازن بين المجتمعات التي تأخر فيها التحول نحو الرأسمالية و تلك التي اجتازت المراحل العليا من هذه التحولات .
يستند هذا المناخ الدولي إلى جملة من المتغيرات الإستراتيجية التي تمخض عنها انتقال توسع نمط الإنتاج الرأسمالي من دائرة التبادل إلى دائرة الإنتاج , و ما سيستتبع ذلك من تغيرات تطال بنية البرجوازيات الطرفية , بحيث يتغلب فيها الصناعي على الكومبرادوري .
8- تعمل العولمة كبلد وزر ( اقتصادي – أيديولوجي – سياسي ) يشق أوسترادات لما هو كوني تاركاً على المجنبات ركاماً من محليات تضفي على المشهد زينة من الماضي الذي يغيب .
تتأسى البشرية قليلاًَ ثم سرعان ما تنسى و تتابع الفرح بلعبة التقدم.
9- أخذ احتلال الدين مكان السياسة طابعاً كونياً . ويشكل بالتالي سياقاً موازياً لسياق عولمة الإستبداد .
إن الميل الراهن ( الأمريكي – الأوروبي ) لضخ الديمقراطية في بلدان العالم الثالث هو مؤشر على استنفاذ الإستبداد لوظائفه التاريخية التي أملتها شروط التراكم ألبدئي للرأسمالية في مجتمعات التحقت متأخرةً بقاطرة التحولات الرأسمالية . و بمعنى آخر فإن إعادة إنتاج الديمقراطية هو استعادة السياسة لوظائفها ( إدارة الإختلاف ) من يدي المقدس , الذي احتل هذه الوظائف تحت مظلة الظروف الصعبة التي وضعت فيها السياسة طيلة مرحلة التراكم ألبدئي للرأسمالية في بلدان العالم الثالث ...و بهذا المعنى يصبح نزع الدكتاتورية ميلا عاما ترعاه رأسمالية المركز في كل مكان أنجزت فيه الرأسمالية الطرفية مرحلة التراكم ألبدئي..وفي هذا السياق شهدنا طيلة العقود الماضية أمثلة على خروج السياسة من محنتها في أوربا الشرقية وفي آسيا وفي أمريكا اللاتينية..ولم تشذ عن هذه القاعدة بلدانا إسلامية كبيرة كماليزيا واندونيسيا..وتتأرجح حتى الآن الباكستان وتركيا ..الخ..
ان العالم العربي الذي أنجزت فيه رأسمالية الدولة التراكم ألبدئي يقف على حافة هذه التحولات ,,تدفعه في هذا الاتجاه جدليات داخلية تتناغم بشكل عام مع الجدلية الكونية ((توسع نمط الإنتاج الرأسمالي))
10 –يضيق بالتدريج هامش المناورة على الخطوط الخارجية إمام أنظمة الاستبداد, ويأخذ ذلك عناوين فرعية تبعا لحالة كل نظام على حدة...تنتزع التسويات التي تغلق بؤر التوتر أوراقا من هذا النظام او ذاك.. وتضعه عاريا أمام الاستحقاقات التي تفرضها جدلية بنيته الاقتصادية _ الاجتماعية..ويصب ماء في طاحونة هذا التوجه انبثاق وعي جديد لدى الانتلجنسيات العالمثالثية,بعد ان أزاحت ثورة الاتصالات الفلاتر التي تحكمت بعملية التلاقح الثقافي .
* * *.
وختاما نستطيع القول وبقليل من المغامرة النظرية :ان شروط الانتقال الى الديمقراطية في اطار الصيغة الليبرالية للدولة في المنطقة العربية قد نضجت في المستوى الاقتصادي , وهي اقل نضجا في المستويين الإيديولوجي والسياسي ,إلا ان بيضة ألقبان هي في المناخ الدولي
المؤاتي الذي يتغذى في العمق من الآليات الناظمة لعملية التحول نحو الرأسمالية في الطور الجديد الذي دخلته –التوسع في دائرة الإنتاج –
وهي آليات لا تستطيع ان تقف في طريقها كما اعتقد التوترات المتبقية من المرحلة الكولونيالية,سواء تلك التي تقف على الضفتين بين الغرب والشرق , او تلك التي تقف على التخوم الوطنية التي ولدت في مجرى التحول من الإمبراطورية الى الدولة..ان اغلاق الملف الفلسطيني على سبيل المثال في اطار تسوية مقبولة يحضن نجاحها المجتمع الدولي , ,سيقطع المياه عن طاحونة حالة الطوارئ المستمرة منذ نصف قرن , ويضع أنظمة الاستبداد إمام استحقاقات الديمقراطية, وسيفتح الطريق لتبريد حرارة الايديو لوجيه النضالية الممدد لها بنجاح حتى تاريخه ....
مراجع:
1-انظر مهدي عامل –مقدمات نظرية-القسم الثاني-ص-58
2- انظر في الفصل (مفترق طرق ) التأثيرات الديموغرافية لهذا الشروع على بلاد الشام .
3-جريدة الحيات-مدارات ادونيس- 20-11-2003
سامي العباس
#سامي_العباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟