|
تعقيب على مقالة -الوعي العلمي- للأستاذة فوزية رشيد
مجيد البلوشي
الحوار المتمدن-العدد: 4510 - 2014 / 7 / 12 - 22:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تعقيب على مقالة "الوعي العلمي" للأستاذة فوزية رشيد
بقلم: الدكتور مجيد البلوشي
كتبت الأستاذة فوزية رشيد مقالة بعنوان "الوعي العلمي" في عمودها اليومي "عالم يتغير" بجريدة "أخبار الخليج" البحرينية الصادرة بتاريخ 31 يوليو 2008م تحاول فيها الربط بين العلم والدين بصورة ديماغوجية بالدفاع عن الروحانيات والغيبيات "اللامرئيات" بمعطيات الفيزياء "الحديثة" – على حد تعبيرها - مستندةً على كتاب عالم الفيزياء الأمريكي فريتجوف كابرا Fritjof Capra الذي قام بتأليفه قبل أكثر من ثلاثين سنة (عام 1975) وهو The Tao of Physics(تاو الفيزياء) أي "طريق الخلاص للفيزياء"، فكلمة "تاو" الفلسفية في اللغة الصينية القديمة تعني مبدأ الخلاص أو طريق الخلاص الذي تسلكه جميع الموجودات حسب هذه الفلسفة، إلا أن مترجم الكتاب إلى اللغة العربية عام 2006 ، عدنان حسن، سمّاه "التصوف الشرقي والفيزياء الحديثة" وهو على حق لأن الكتاب يدور أساساً حول محاولة ربط الفيزياء بالديانات الشرقية القديمة أساساً وهي الهندوسية والبوذية والتاوية وهي الديانات التي سبقت اليهودية والمسيحية والإسلام بآلاف السنين.
وتشير الكاتبة في دفاعها عن الفكر الغيبي إلى "نظرية النسبية" لألبرت آينشتين بقولها أنها (أي نظرية النسبية) " أقرّت بنسبية كل شيء في الكون وبتداخل الزمان والمكان، وبالانحناءات الكونية ... إلخ "، ولكن ما هي علاقة كل ذلك بـ"التجارب الروحية والأطروحات الدينية" حسب تعبير الكاتبة؟ ثم أن إقرار نظرية النسبية والتسليم بنسبية كل شيء لا يعني ألبتة عدم اليقين أو الفوضى كما توحي الكاتبة، ولا يعني وجود آلهة وشياطين أو ملائكة وجنّ أو جنة وجهنم، بل أن هذه النظرية تقر بنسبية الزمان والمكان أساساً، وبالتحديد نسبية الأنساق التي تتحرك في خط مستقيم وبطريقة موحدة كما هو الحال بالنسبة للضوء والموجات الكهرومغناطيسية، وكذلك الأجسام الضخمة كالنجوم والكواكب والأقمار.
ثم لنفترض أن " آينشتين نفسه قد وضع نصب عينه أن العالم الخاضع لكل هذا النظام الدقيق والمتداخل لم يأت حتماً بالمصادفة حسب النظرية الإلحادية، وإنما وراء هذا النظام لابـد من منظّم أو خالق ". فماذا في ذلك؟ إذ من المعروف أن آينشتين كان عالماً مؤمناً يدين بالديانة اليهودية، ولذا فمن البداهة أن ينادي بوجود خالق لهذا الكون، شأنه في ذلك شأن الكثير من العلماء الأفذاذ المؤمنين بهذه الديانة أو تلك، منهم عالم الفيزياء فيتجوف كابرا أيضاً، وذلك بالرغم من مادية إكتشافات هؤلاء العلماء ونظرياتهم، بل أن نظرية النسبية نفسها (بشقيها "النسبية الخاصة" و"النسبية العامة") تقف بجانب المادية – والمادية اليالكتيكية أساساً - وتساندها ضد الفلسفة المثالية، بتأكيدها على عدم فناء المادة مطلقاً بل تحوّلها إلى طاقة (الطاقة = كتلة الجسم المادي x مربّع سرعة هذا الجسم)، أي تأكيدها على ما تعلمناه في مادة الكيمياء ونحن صغار في المدرسة الثانوية، وهو أن المادة لا تفنى ولا تُخلق من العدم، وهو أكبر ضربة قاسية يتلقاها الفكر المثالي الفلسفي والفكر الديني اللاهوتي (الروحاني) من يد العلم.
وتقول الكاتبة " ... أن العلم بعد كل رحلته الطويلة والاستكشافية يقترب أول مرة من الاطروحات الدينية، وحيث "نظرية الانفجار الكبير" وغيرها حول خلق الانسان، وتركيب المادة ... إلى غيرها من النظريات العلمية الفيزيائية، تجد أن الكون ذو أبعاد مختلفة، وتقترب بذلك اقتراباً كبيراً إلى إدراك الأبعاد اللامرئية ... ". هنا نتسائل مالذي تعنيه الكاتبة بـ"الأبعاد اللامرئية"؟ هل هي "الروحانيات" أم "عالم الغيب" أم "ماوراء الطبيعة (ميتافيزيقا)" ؟ ثم ما هي علاقة "نظرية الانفجار الكبير" بـ فكرة "خلق الإنسان" الدينية؟؟
والحق أننا لم نتوقع من الأستاذة فوزية رشيد هذا الخلط الديماغوجي عندما تقول بأن نظرية "الإنفجار الكبير" Big Bang وغيرها تدور حول " خلق الإنسان وتركيب المادة .. إلخ "، وهو نفس الكلام الذي قاله الأستاذ سعيد محيو قبل خمسة عشر عاماً في مقالة له بعنوان "ثورة في الفيزياء الحديثة تعيد العلماء إلى الخالق" نشرها في مجلة "الشروق" الإماراتية بتاريخ 10 يونيو 1993م، وقد كتبنا رداً على ذلك في حينه نشرته "الشروق" في عددها الصادر بتاريخ 16 سبتمبر 1993م، مؤكّدين أن نظرية "الانفجار الكبير" لا علاقة لها بفكرة الخلق الدينية بتاتاً، وأنها كسواها نظرية علمية قابلة للدحض والإلغاء أو الإغناء والتثبيت، وذلك بعد دراستها والتحقق منها أكثر فأكثر، شأنها في ذلك شأن الكثير من النظريات العلمية. وهذا ما نسميه في الفلسفة بالحقيقة النسبية والحقيقة المطلقة. ونظرية "الانفجار الكبير" كما هي الآن تشوبها أخطاء وعيوب كثيرة. ولنقرأ بهذا الصدد ما يقوله أحد علماء الفيزياء الأمريكيين، وهو جيوفري بربيدج G. Burbidge، أستاذ الفيزياء في جامعة كاليفورنيا في سان ديـيغو بالولايات الأمريكية المتحدة، حيث يقول: " أن هذه النظرية تستند إلى كثير من الفرضيات التي لم يجر اختبارها، والتي لا يمكن اختبارها في بعض الحالات. وفي الحقيقة، فإن مسيرة النظرية الكونية لـ"لانفجار العظيم" قد اتخذت منحى فكرياً يعكس اعتقاداً بقدر ما يعكس حقيقة موضوعية ... إن هناك أسباباً وجيهة تدعونا للظن بأن نموذج "الانفجار الكبير" يعاني من عيوب جوهرية، وإحدى الاشارات التي تدل على أن هناك خللاً في هذا النموذج هي مسألة "سلّم الزمن" Time Scale ... ". (مجلة "العلوم" ، العددان 5 و6 ، المجلد التاسع، مايو-يونيو 1993). وتجنباً للسرد الممل نكتفي بهذا القدر من الانتقاد الموجه لنظرية "الانفجار الكبير".
ونودّ هنا أن نشير إلى ظاهرة عامة لا تختلف كثيراً عن ما تطرحه كاتبتنا وهي أن كثيراً من الكُتاب والمنظّرين الدينيين، والإسلاميين بالتحديد، يحاولون إقحام الدين ومعطياته إقحاماً قسرياً في النظريات العلمية في محاولةٍ يائسة لا تخلو من عبثٍ في تجيير المعطيات العلمية في التوفيق بين الدين والعلم، فيسيؤون إلى الدين أكثر منما يفيدونه من حيث لا يدرون، خاصة عندما يتعلق الأمر بمكتشفات علمية جديدة والتي يدّعون أنها موجودة أصلاً في الكُتب الدينية – كالقرآن وكُتب السُنة - أو أنها قد تنبأت بها هذه الكُتب بهذا الشكل أو ذاك منذ مئات السنين، ليس ذلك فحسب بل أنهم يفسرون معاني الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ويلوونها ليـاً لتتوافق مع هذه الاكتشافات، إلا أن هذه الأخيرة – أي الاكتشافات العلمية - قد تتغير أو تُلغى - كما قلنا آنفاً - فيقعون في تناقضات صارخة مما يجعلهم عُرضة للانتقاد والتوبيخ من قِبل مريديهم ومؤيديهم هم أنفسهم قبل غيرهم، ذلك لأن الأحكام الدينية – حسب التصور الديني - أحكاماً أزلية سرمدية ثابتة لا تحتمل التغيير أو الإلغاء حسب الأهواء.
أما قول الكاتبة بأن " الكثير من المكتشفات العلمية الحديثة أسقطت نظرية التطور لداروين... " (وضع الخط تحت الكلمات "الكثير" و"العلمية" و"أسقطت" من عندنا للفت الانتباه) فهو قول أقل ما يقال عنه أنه غير دقيق البتة إذ أننا – وبالرغم من قراءاتنا الكثيرة حول النظريات العلمية المختلفة - لم نسمع حتى الآن عن نظرية علمية واحدة قد أسقطت فعلاً نظرية التطور والارتقاء لتشارلس داروين. ثم هل كان من الصعب على الكاتبة أن تسمّي لنا نظرية علمية واحدة كمثالٍ لما يدعم إدعائها؟ صحيح أن هناك بعض المآخذ على هذه النظرية، إلا أنها لا تصل إلى درجة "الاسقاط"، كما أنه صحيح أيضاً أن هناك هجوم كبير على هذه النظرية ولكنه هجوم عشوائي يلامس العاطفة لتعزيز الإيمان، ولا يحاكي العقل لتستثير السؤال، ومِن قِبل مَن؟ مِن قِبل الدينيين والمؤمنين بـ"نظرية الخلق" ومؤيديها أساساً ومن العلماء المثاليين وهم فعلاً كثيرون.
وكان من الأجدر بكاتبتنا – وهي تصرّ إصراراً على الدفاع عن الفكر الغيبي اللاهوتي ومناهضة الفكر المادي العلمي، خاصةَ أنها تقول أن ما قرأته في هذا المجال ليس بالقليل - أن تتشبّث بـ"نظرية التصميم الذكي" Intelligent Design، وهي فعلاً نظرية حديثة ويدّعي أصحابها بأنها نظرية علمية ويحاولون أن يجعلوها بديلاً لنظرية التطور الداروينية، إذ تقول هذه النظرية بأن أشكالاً معينة من الطبيعة معقدة التركيب بدرجة كبيرة لا تسمح لها بأن تتطور عن طريق الانتخاب الطبيعي [الذي تنادي به الداروينية]، بل من صُنع "خالق ذكي". طبعاً تستحي النظرية هنا أن تقول "من صُنع الله" مباشرةً لأنها تدّعي بأنها نظرية علمية والعلم لا يستقيم مع فكرة وجود إله أو آلهة تتدخل في شؤون هذا الكون البديع الفسيح بكل ما فيه من نجوم وشموس وكواكب وأقمار وذرات وإلكترونات وكائنات حية وغير حية وأنظمة وقوانين وتصميمات وتغيرات وتداخلات مختلفة وهي في حركة أزلية أبدية لا تعرف السكون إلا بصورة نسبية.
وقبل أن نختم مقالتنا المختصرة هذه نودّ الإشارة إلى ما جاء في جريدة "الشرق الأوسط" السعودية حول هذه النظرية في عددها الصادر بتاريخ 5 يناير 2006 تحت عنوان " نظرية "التصميم الذكي للكون" تخسر أمام أفكار داروين في مدينة أمريكية " وهو كالآتي: " أعلنت السلطات التعليمية في إحدى المدن الرئيسية الأمريكية تخليها نهائياً ورسمياً عن طلبٍ بتدريس نظريةٍ مخالفة لنظرية النشوء والتطور (التي أطلقها تشارلز داروين)، والمعروفة باسم نظرية "التصميم الذكي للكون". وأعلنت سلطات التعليم في منطقة دوفر بولاية بنسلفانيا تخليها تماماً عن طلب تدريس "نظرية التصميم الذكي للكون" بعد الانتقادات الواسعة التي تعرضت لها هذه النظرية. وجاء هذا القرار بعد أن أصدر قاض أمريكي حكماً اعتبر فيه أن "نظرية التصميم الذكي للكون" نظرية دينية بحتة وليست علمية، وقال القاضي قبل اسبوعين أن هذه النظرية غير دستورية. وبهذا القرار تبقى نظرية داروين للنشوء والتطور، الوحيدة المسموح بها في المدارس الامريكية لتعليمها كتفسير علمي لأسباب وجود الإنسان، وكان يُنظر إلى النقاش هذا على أنه أكبر إختبار شعبي حتى الآن للنظرية الجديدة".
إنتهى كلام الجريدة المذكورة وهو غيض من فيض في مجال الدفاع عن "نظرية التطور" لتشارلس داروين التي ستبقى على المدى المنظور ووفق معطيات العلوم الحالية أساساً لتفسير وجود الكائنات الحية على كوكبنا الأرضي وارتقائها، وعلى رأسها الإنسان وهو قمة التطور.
الدكتور مجيد البلوشي [email protected]
7 أغسطس 2008م
[نُشرت هذه المقالة في جريدة "أخبار الخليج" البحرينية بتاريخ 16 أغسطس 2008م]
#مجيد_البلوشي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل هي فعلاً -ثورة الثورات-؟
-
تعقيب على مقالة -بعثُ الماركسية: علاج الجور الاجتماعي-
-
تعقيب على رسالة الدعوة بالجمعية الإسلامية (البحرينية) بعنوان
...
-
التعايش السلمي الديني هو الحل
-
ليس العقل هوالمخ بل هو وظيفته المميزة
-
214 آية قرآنية تدعو للجهاد والقتال
-
ماذا بدأ علماء الأحياء يفعلون؟
-
الاحتفال بمرور مائة وخمسة وخمسين عاماً على نظرية التطور
-
الروح والعلم – علم النفس
-
ملاحظات سريعة حول - العقل ما له . . وما عليه -
-
العقل الإنساني وعظمته
-
ما هذا الخلط الديماغوجي؟ تعقيب على مقال -ثورة في الفيزياء ال
...
-
هل يوجد فعلاً إعجاز علمي في القرآن؟ (2/2)
-
هل يوجد فعلاً إعجاز علمي في القرآن؟ (1/2)
-
حول مقولة كارل ماركس -الدين أفيون الشعوب-
-
العلمانية هي الحل (1/2)
-
العلمانية هي الحل (2/2)
-
المرأة وطغيان الرجل
-
ومات شارون الطاغية بعد أن حقّق ما كان يريده بنجاح!
-
ليس كل مَن يدّعي الإسلام صادقٌا!
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|