ليس مجرد فوضى وتخبط وتشويش، ان تتناقض
المصطلحات وتختلط بعضها ببعض، بل هي عملية مدبرة ومقصودة من أطراف وجماعات ترى
مصلحتها في إخضاع الآراء والأفكار لمنطقها الخاص، وحساباتها ودوافعها الكامنة في
الظلام ووراء الكواليس. وحسبنا ان نضع يدنا على ما راج ويروج منذ الستينات ـ على
الأقل ـ من شعارات ونظريات مارست فتنتها على شعوبنا، وتمكنت من بعض العقول واستقرت
بها، حين صورت لها الأخطاء على أنها الحقيقة المطلقة والصواب بعينه.
فما هي القومية؟ ولمن
تتوجه هذه الأيديولوجية التي تتلبس شكلها؟ وما هي أهدافها؟ هل هي هذه الأباطيل
والالتواءات التي يراد منها تسخير الجماهير ودفعها للمحرقة تلبية لرغبة حاكم
غوغائي؟ ومن أجاز لهذا الحاكم أو ذاك ان يقسم الأمة العربية إلى فئات قومية وغير
قومية؟ وهل كان هو من تفضل بإدخالنا إليها ووضع شجرة أنسابها حتى يجيز لنفسه
التمييز بين أبنائها وإخراج من يشاء منهم من حضيرتها؟ ثم من خوله الحديث عنها
وبإسمها؟
ان هناك شيئا فاسدا في دولة الدانمارك، كما يقول هملت في مأساة شكسبير، وإلا ما
معنى هذا اللغو الذي أضاع علينا حتى مجرد الأحلام؟ ما معنى تحريف المفاهيم وإفراغها
من دلالاتها الحقيقية؟ وهل من مفارقة أكبر من أن يعمد دعاة القومية إلى اللهاث وراء
ديكتاتور فلسفته الوحيدة هي ذبح شعبه بصورة روتينية وعلى
مراحل؟
بهذه المفاهيم الخالية من أي معنى تصادر
الحقوق والحريات، وبالمنطق نفسه يبطش الجار الكبير بالجار الصغير، ويفرض الحاكم
المستبد أسلوبه الدموي، فلا مكان إلا للموالين والمصفقين والمرتشين من نفط
العراق، وما أكثرهم !!
وبهذه المفاهيم أُهمل شرط الشرط القومي
الذي هو الاتفاق على قيم مشتركة وعلى طريقة في الحياة، كما ألغيت الحرية باعتبارها
الغاية العليا للسياسة والهدف الأرفع، فقد تم التركيز على مناهج أيديولوجية غربية
غريبة عن روح الأمة وأخلاقها وقيمها التي عاشت بها جيلا بعد جيل، وهذا هو الخطأ
الأول .
وكان الخطأ الثاني تجاهل إخفاقات التجارب القومية، والتمعن في دروسها، التي تؤكد
على الفرق بين نوازع الحكام وأهوائهم وبين الرباط الوثيق الذي ينبغي ان يجمع الشعوب
دون مدفع أو رشاش.
والنتيجة، ان أضاعت الاستعارة والاقتباس
من هنا وهناك، جوهر التفكير الأقرب إلى معرفة الواقع العربي واحتياجاته، وتم القفز
على البديهيات الضامنة لسلامة الفكر، حتى أصبحت الحاجة جدية لوقف حالة التخبط في
المفاهيم والأفكار، وبالتالي الجري وراء المستحيل.
احتقار العراقيين
ـــــــــــــــــــ
ولا نجدنا بحاجة إلى دليل
كي نبرهن على ان الخطاب القومي فقد جوهره ومصداقيته وبلغ درجات الانحطاط السفلى
باحتقاره الشعب العراقي وتطلعاته المشروعة في الحياة الكريمة، وتحوله إلى ممارسة
يومية لتزكية النظام الحاكم في بغداد، فما أن يطرح الموضوع العراقي في صحيفة أو
قناة تلفزيونية من إياها، إلا وتصدى هؤلاء باسم المصير القومي إلى الدفع برغبة
العراقيين في التخلص من الدكتاتورية إلى الخلف وربما وضعها تحت أحذيتهم، وكيل
اتهامات الخيانة والعمالة لمن اكتووا بنيرانها دون حساب.
وفي كل مرة نكون أمام رئيس
جزائري سابق أو نائب برلماني أردني وحشد من "قادة" النقابات و"المفكرين" و"المحللين
السياسيين" من المغرب والسودان وجزر القمر والربع الخالي الذين باتوا يتوالدون
بسرعة توالد الأرانب. وباختصار، نكون دائما أمام نفر احترف لعبة خلط الأوراق، حين
راح يقرن صفة القومية بالدكتاتورية بتجاهل شديد لحقائق التجربة العراقية في ظل
الدولة القومية !! وإلا فليدلنا هذا النفر على مثال واحد قدمه الرئيس صدام حسين
يؤكد تعلقه بالأهداف القومية النبيلة، إلا إذا كانت هذه الأهداف هي كم الأفواه
وتشتيت الملايين بين السجون والمنافي، أو التخلص منهم بالسحق
والإبادة.
والواضح، ان أصحاب الخطاب القومي لم يتعلموا من دروس الماضي القريب شيئا، فبعدما
ألهبوا حماس الشارع العربي إبان أزمة احتلال العراق للكويت، بشعار توزيع الثروة،
حتى خيل لكل فرد ان كتفه ستنوء بحمل أكياس الذهب المكنوز، أخذ ضجيجهم هذه الأيام
يصل عنان السماء دفاعا عن هذا النظام الذي خرج مهزوما ذليلا في أعقاب تلك المغامرة
المجنونة، بل ان البعض منهم راح يتهدد بفتح "أبواب جهنم"، كما لو كان يمتلك
مفاتيحها حقا، إذا ما تعرض هذا النظام للتغيير المنتظر.
ولنا ان نذكٌر بالإرهاب
الفكري الذي طغى على التفكير في تلك الأزمة، وكيف انحدرت إلى مستنقعه أقلام "قومية"
طالما تسترت بالمعرفة والعقلانية قبل ان تتكشف على حقيقتها كأداة لإنتاج وإعادة
إنتاج الكراهية، وتزيين الخرافة وتجميلها. وهل من خرافة اكبر من خرافة تحرير فلسطين
بمحو الكويت من الخارطة ؟
وعدا عما في ذلك "الفكر القومي" من ازدواجية في
المنطلقات والأهداف، ثمة استغلال مريب للوضع الداخلي في العراق بهدف تقوية مواقف
سياسية مشكوك في صحتها. فالسؤال الذي يسبق كل الأسئلة هو : هل من المصلحة في شيء ان
يتولى دعاة القومية مهمة ضخ الدماء في جسد نظام دكتاتوري متوحش ميئوس من شفائه
ويعيش لحظات احتضاره الأخيرة؟
لا مجال للافتراض بأن الخطاب القومي كما
نقرأه ونشاهده عبر الفضائيات يسعى إلى الوحدة العربية أو الدفاع عن وجه العراق
القومي، إذا أخذنا في الاعتبار ان العديد من التيارات القومية قد حورت العنف وحولته
إلى قانون سائد في الوطن العربي وأماكن أخرى من العالم، كلما استطاعت الوصول إليها،
وكان ثمن ذلك دائما المزيد من التوتر وعدم الاستقرار والفوضى السياسية والاجتماعية
في المنطقة.
أننا ندرك الأزمة التي يعيشها الخطاب
القومي، منذ عقدين تقريبا، وأسباب تراجعه وخفوت بريقه، لا لأنه انشغل بالعراك
السياسي الفج والمهاترات، بل لأنه كان عاجزا أصلا عن اشتقاق أجوبة صحيحة عن معضلات
السلطة والتنمية والديمقراطية الحقيقية وليس الشعار البراق، ونتيجة ذلك أصبحت
الكلمات الممجوجة معيارا تقاس به قومية القوميين وجذرية مواقفهم، حتى غطت الأوهام
المشهد السياسي العربي كله، وكانت شعوبنا الخاسر الوحيد في هذه الجولة التي لم
تتوقف بعد.
فاشية
جديدة
ـــــــــــــــ
لقد تحول الخطاب القومي ونتيجة أزمات
حادة، فكرية وحضارية، إلى نقيض للعقلانية، وبالتالي إلى رديف للنزعات التدميرية
التي لا تنتج سوى العنف. ومع خفوت بريق الأيديولوجيات استنزف هذا الخطاب طاقته على
الإقناع. أسوأ من ذلك، اصبح مصدرا لحروب عطلت كل إمكانياتنا للتقدم في نمط الحياة،
وفي الحياة، وفي الممارسات، وفي الحقوق. وتحضرنا، في هذا الصدد، جملة شهيرة لأحدهم
ممن يسمون بالمفكرين القوميين، قال فيها انه "لا يجرؤ على ذبح دجاجة لكنه عند
الحاجة مستعد للمشي فوق آلاف الجثث لتحقيق الوحدة" !!
ولئن فوجئنا مرة بمن يطرح
نظرية "الديكتاتورية الوحدوية" على غرار "ديكتاتورية البروليتاريا"، فان أصحاب
الخطاب القومي كما يبدو يعملون على إخراجها إلى حيز التطبيق، مهما كانت الخسائر
والتبعات.
ولا شك، نحن أمام فاشية جديدة تستدعي التحليل النفسي، فدعاة القومية لا يسعون فقط
إلى تحطيم العقل تحت شعاراتهم الخادعة، بل يسوغون، في نهاية المطاف، رغبة كل طاغية
مستبد في توطيد سلطته عن طريق رفع الشعارات إياها، مثلما هو الحال في بغداد، حيث
يُرفع الشعار القومي لتبرير المجازر وحمامات الدم والعنف المجنون الذي لا يوفر
أحداً.
لقد أكدت تجربة الربع الأخير من القرن الماضي ان لا شيء اصعب على شعوبنا العربية من
ان تمارس حقوقها الطبيعية، وفي مقدمتها حق التعبير، عندما تكون تحت التسلط وإرهاب
الدولة السافر، ولعل أسوأ ما تعرضت له في تاريخها الحديث هو فرض الشعارات عليها
بالقوة، ومن ثم تحويلها إلى مختبر لتلك الشعارات، وفي التجربة العراقية ما يكفي
لإعطاء المثل على عدم تشكل القناعة الشعبية بها لأنها جاءت حصيلة تنكر كامل لأبسط
حقوقها الطبيعية.
وهكذا يثبت ضيق الأفق، والافتقار
إلى تقاليد الحوار، ان الكثير من فرسان القومية لم يتخلص بعد من هيمنة نظم
الأيديولوجيا، ومن أخطائها التي أصابت العقل العربي بالعقم والتحجر.
أجل، نحن بحاجة إلى التفريق
بين القومية ـ الشعار، والقومية ـ السلاح في يد السياسيين، وبين الاهداف القومية
المنشودة. وقبل ذلك، نحن بحاجة إلى وقف محاولات تحويل العروبة التي هي روح عالية
شاملة، إلى أيديولوجيا.
ولابد من إعادة البحث في حقل تجارب الدول
القومية والخطاب القومي في ضوء الواقع والحاجات والطموحات لنضمن الانتقال إلى مجال
الممارسة دون تعقيد، فلم يعد نافعا اللعب بالكلمات المستهلكة، أو تسخين
الوجبات البائتة لجمهور معرض عن مائدة الكلام الثقيل، وما ينبغي ان نعيه هو إعادة
ترتيب أولوياتنا، بما يحقق الكرامة للجميع ويمد نهر الأمل بموجة جديدة، ونحن في
مطلع قرن جديد.
لقد انهارت من قبل ثلاث إمبراطوريات:
النمساوية والعثمانية والسلافية، كما انهارت أمام أنظارنا الإمبراطورية السوفيتية
مثل جبل من رمال، وتشظت تجارب ودول، لكن الخطاب القومي مازال مشدودا إلى الخلف لا
يرى من المستقبل سوى هدف الحكم والدفاع عن الحاكم المستبد، وهذا هو العبث بعينه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) صحفي عراقي ـ كندا