إن نقطة الانطلاق الأساسية لهذا الكتيب ،هو قيامه على أساس
مفهوم فلسفى صحيح ،هو أن الحرية هى فهم الضرورة ،فالحرية هى هدف مستمر للإنسان فى
مواجهه الطبيعة والحياة والواقع من حوله بكل ما يمثله من قيود على تحقيق إرادته
،والتغيير سواء أكان فجائيا ثوريا أو تدريجيا إصلاحيا هو ناتج انتصار الإنسان فى
معركته مع الطبيعة والواقع من أجل السيطرة على ما يحكمهما من ضرورات ،والأيديولوجية
هى منظومة من الأفكار تعبر عن مجموعات من البشر فى لحظة تاريخية معينة توحدهم ظروف
واقعية معينة مما يدفعهم لتبنى تلك المنظومة الفكرية تعبيرا عن هدفهم ورؤيتهم
المشتركة فى مواجهة تلك الظروف..هذا بشكل عام أما ما يخصنا فى هذا الموضوع ،فهو أن
الحرية معنى بها تحرير الإنسان من شتى أشكال القهر والاغتراب والاستغلال ،وأن
الثورة معنى بها ثورة كل المقهورين والمغتربين والمستغلين من أجل تحررهم من كافة
أشكال العبودية ..أما عن الأيديولوجية فأن بينها وبين العلم تناقضا سنأتى على ذكره
بعد قليل .
أن منطق المفهوم سالف الذكر هو أن البشر أى بشر لن يصيبوا من
النجاح إلا بمقدار فهمهم للضرورة التى تحكم الواقع التى يرصدها العلم باعتباره
فهمنا لهذا الواقع ،وبمعنى أدق كلما اقترب البشر من معرفة الواقع أى من الحقيقة
الموضوعية كلما كانوا أقدر على تحقيق أهدافهم ،وإشباع مصالحهم وممارسة وسائلهم
.
أن هناك رابطة قوية بين الحرية والثورة والأيديولوجية وبين العلم أو فهم
الضرورة .إلا أن هناك تناقضا بين العلم والأيديولوجية ،فلأن الأيديولوجية مرتبطة
بالمصالح الذاتية لمن يتبنوها ،فأنها تشوه العلم لكونها تفقده موضوعيته فيما يتعارض
من حقائقه مع هذه المصالح ،إلا أنه فى نفس الوقت ،فأن متبنى الأيديولوجية يكونون فى
أمس الحاجة لفهم الواقع أى العلم كى يستطيعوا تجسيدها من مجرد أفكار إلى واقع
موضوعى ،ومن هنا يبدأ تطويعها للعلم ،مما يعنى فى النهاية تشويهه،والعلم فى نفس
الوقت يتعارض مع الأيديولوجية ،إذا كانت هذه الأيديولوجية فى تناقض مع الضرورة التى
تحكم الواقع رغم إرادتنا .وقد لا يتعارض إذا كانت تتوافق مع هذه الضرورة ،إلا أن
الرضوخ السلبى للواقع ،يعيق قدرة الإنسان على تحقيق مصالحه ،إذ يغفل هذا الموقف
السلبى فى هذه الحالة حقيقة الدور الخلاق للإرادة البشرية الواعية والتى تتجسد فى
الفعل الواعى للبشر فى التأثير على الواقع باعتبار من يمارسوه هم جزء من هذا
الواقع.
ولتبسيط هذا المفهوم نستطيع القول إنك مثلا فى أمس الحاجة لمعرفة
قوانين الماء ،وكيفية التعامل معه حتى تستطيع السباحة،إلا أنك لن تسبح ما لم تتوافر
لديك إرادة السباحة ،وضرورة فهمك لقواعدها ،إلا أنك فى نفس الوقت لن تستطيع السباحة
على اليابسة التى لا يمكن السباحة عليها ،حتى ولو توافرت لديك الإرادة التى تتناقض
مع قوانين اليابسة وطبيعتها .فالأولى إرادة فى توافق مع الضرورة وفهمها أى العلم
..أما الثانية فلا تتوافق معها ..فاستطعت أن تنجح فى الأولى ،و أصابك الفشل فى
الثانية..ففهم الإنسان لقوانين الإزاحة جعلته يحول المعادن التى تغوص بحكم كثافتها
فى الماء إلى سفن مجوفة ،تتغلب بفعل تجوفها على أثر كثافتها ،مما يجعلها تطفو وتسبح
فوق الماء ...فبدون العلم أو فهم الضرورة ما كنا استطعنا ذلك ،كما كنا لن نستطيع أن
نحققه دون الإرادة الواعية .أننا فى حاجة لفهم العرض العلمى لتاريخ المادة بشقيها
(الطبيعة والمجتمع )باعتباره كل الواقع المستقل عن وعينا به ،والذى ينعكس فى عقولنا
فى صورة وعى ومعرفة من خلال حواسنا وامتدادها من أجهزة علمية ،وذلك فى الخطوط
العريضة باعتبار أن لهذا الواقع تاريخ ،وأننا لا يمكن أن نفهمه إلا من خلال هذا
التاريخ ،ومن هنا فقط ،نستطيع اكتشاف ما يحكم تطوره من ضرورات وقوى, دائما ما يوجد
فى المجتمع البشرى جماعات من البشر سواء أكانوا طبقات أو شرائح تتطابق مصالحها مع
العلم أو فهم الضرورة ،والتى من خلال فعلها المادى المنظم المعبر عن إرادتها
الواعية وحدها يمكن التوصل للهدف البشرى فى الحصول على درجة أعلى من الحرية أو
بمعنى آخر التحكم فى الواقع ،أن مثل هذه الطبقات ليست فى حاجة لأيديولوجية متناقضة
مع العلم أيا ما كانت لتبرير مصالحها بل أن هذه المصالح تتعارض مع أى أيديولوجية من
هذا النوع ..أن ما تحتاجه هذه الطبقات هو فهم الواقع .تلك العملية المقرونة بكل
التاريخ البشرى .ولن تنتهى تلك المحاولة طالما استمروا فى الوجود ،وذلك لأسباب هى
لا نهائية الواقع ومظاهره المتناقضة مع محدودية العالم البشرى رغم اتساعه وتعقده
،ولانهائية التغيرات التى تحدث به ،ومن ثم فلابد من الاعتراف بالقدرة البشرية
المحدودة للإلمام بكل تفاصيل هذا الواقع ، فتطورات العلم لن تنتهى عند حد ،إلا أن
ما سيظل صحيحا على الدوام هو ضرورة تبنى المنهج العلمى فى التفكير ،والذى سيظل
محتفظا بقيمته مهما تطورت حقائق العلم وتغيرت ،وبالتالى فأن ما يمكن التأكيد عليه
هو ضرورة تخليص العلم من المؤثرات الأيديولوجية الضارة .
أخذت العلوم
الطبيعية تتقدم حثيثا نحو المزيد من معرفة العالم وتفسيره ،وقد توالت خلال القرون
من السادس عشر إلى التاسع عشر انتصارات العلوم الطبيعية،والتى استجابت لذروتها
الفلسفات القائمة على العلم ،فنحن نعلم بالطبع أنه حتى أوائل القرن العشرين ،كان
الإنسان قد توصل إلى القوانين العلمية،التى تعبر عن الضرورات التى تحكم عالمه
المحسوس ،ذلك العالم الذى يتراوح ما بين الذرات والتى كان يفهم عنها أنها وحدات
بناء الطبيعة الصماء،والتى قد اكتشف بعد ذلك خطأ اعتبارها صماء ،والجزيئات التى
تتكون من الذرات ،وكيف تكونت الجزيئات العضوية على أساس عنصر الكربون ،وارتباطها هى
الأخرى وعبر مراحل متعددة وطويلة ،وفى ظل ظروف معينة لتكوين الخلايا الحية ،والتى
أخذت تتطور من البسيط إلى المعقد ،ومن الأدنى إلى الأرقى فى رحلة استغرقت ملايين
السنين إلى أن وصلت إلى الكائنات الحية متعددة الخلايا ،والتى أخذت بدورها تتطور
إلى أن وصلت إلى الإنسان الحديث عبر رحلة تطورها الطويلة ،والتوصل إلى تاريخ وتكوين
كوكب الأرض الذى نعيش عليه ،وقوانين حركة الأجسام ،واكتشاف الأجرام الفلكية القريبة
منه،وكيفية حركتها حول الشمس.
وفى الحقيقة أن كل نظريات القرن الماضى التى
قد قامت على أساسها الفلسفات العلمية ،والتى فسرت العالم ما بين حدى الذرات والكون
الذى نعيش فيه ،مازلت صحيحة فى محتواها الأساسى ،و إن كانت تتعمق باستمرار ،وتزداد
دقتها بمزيد من البحث العلمى ،وما يؤدى إليه من معرفة صحيحة ،،ولا يجادل أحد فى أن
اكتشافات ونظريات العلوم فى الكيمياء والفيزياء الحديثة وعلوم الحياة ،والمنجزات
التكنولوجية التى بنيت على أساس فهمهم فهما صحيحا ،لم تمس فى خطوطها العريضة برغم
التطورات الهائلة التى لحقت بمعرفتها النظرية وتطبيقاتها العملية.
إلا أنه
ما كاد الفارس المنتصر أن يحتفل بانتصاره الشامل على أعداء العلم والتقدم ،دعاة
الأوهام والخبل، والمبشرين بالخرافات والأساطير من كل شاكلة ونوع ، وما كادت
الفلسفات العلمية (التى تقول بمادية الواقع ووحدته المادية وأسبقيته على الفكر أو
الوعى أو العقل ،وإمكانية فهم الواقع ومعرفته ،ذلك الواقع المستقل عن أى أهداف أو
إرادة) أن ترفع راية انتصارها على الفلسفات غير العلمية التى تأخذ مواقف معارضة
للمفاهيم السابقة ،حدث ما لم يكن فى الحسبان. فقبل أن ينتهى القرن التاسع عشر وعلى
أبواب القرن العشرين،إذ بالباب يفتح على مصراعيه باكتشافين جديدين على الإنسان
،أحدثا زلزلا مدمرا للمعتقدات العلمية الأكثر رسوخا والمفاهيم الفلسفية المرتبطة
بها ،ولم يمهل المهزومون عدوهم المنتصر فرصة لكى يلتقط أنفاسه مما لحق به من اضطراب
،فكالوا إليه الضربات من كل اتجاه ، و انتهزوا فرصة عدم العلم الكامل بكل من قوانين
عالم الجسيمات الأولية ما تحت الذرة وعالم الكون خارج مجموعتنا الشمسية ،وعدم
الإحاطة الشاملة بكل من حقائقها وطبيعتها ،وتهافتوا عند سماعهم شذرات من المعلومات
غير المكتملة أو غير الدقيقة أو غير المؤكدة ،وتماحكوا عند معرفتهم أن هناك عقبات
ما تقف فى سبيل المعرفة ،وكل ذلك دون إعطاء أى فرصة للبحث العلمى الجاد فى أن
يستكمل معرفته أو يدققها أو يؤكدها أو ينفيها .
والأمر الذى لاشك فيه أن
مستقبل العلم ،سيحفل كما حفل ماضيه بعقبات تعترض طريقه، ومجهولات يعجز عن تفسيرها
،وكل هذا بشكل مؤقت ،بل وهناك ما قد يظل مجهولا للأبد دون أن نتمكن من معرفته على
الوجه الصحيح . وإزاء كل هذا فهناك طريقتين فى تفكير البشر إزاء هذه العقبات وتلك
المجهولات،الطريقة العلمية التى نواجهها بالبحث العلمى القائم على أساس المنهج
العلمى المنضبط،، وإن من يختار هذا الطريق فقد اختار الطريق الصعب،وإن يكن الطريق
الصحيح ،وهو يفضل الصمت المتواضع والأمين عن الإجابات المتعسفة الزائفة ..أما
الطريقة غير العلمية فهى فى بحثها الأحمق عن يقين زائف ،تواجه كل هذه العقبات
والمجهولات بالتفسيرات الجاهزة سلفا التى تجدها فى الأساطير والخرافات ،والتى لا
يمكن إثباتها أو حتى نفيها عبر المناهج العلمية المنضبطة التى تتميز من ضمن ما
تتميز به بالموضوعية ،وهى فى ذلك تختار الطريق السهل، وإن لم يكن الطريق الصحيح
،وهى تفضل الإجابات المتعسفة الزائفة على الصمت الأمين.
وسيظل أنصار هذه
العقلية غير العلمية المعادون للفهم الصحيح للواقع ،يتداعون دائما لشرب أنخاب
الانتصار الزائف قبل أن تتروى الفلسفات العلمية المنتصرة فى الحقيقة ،المهزومة فحسب
فى عقولهم المظلمة فى تعميم نتائج المعرفة العلمية المؤكدة ،ولعلم هؤلاء بمدى
تهافتهم و تمحكهم وتسرعهم ،فأنهم يفقدون باطراد حتى القدر الضئيل من صوابية
وعقلانية من قد سبقوهم من الفلاسفة اللاعلميين،والذين كانوا على الأقل أكثر احتراما
والتزاما بالمنطق بالنسبة لظروف عصورهم الأكثر تخلفا فى المعرفة العلمية ،والتى كان
الإنسان فيها أشد جهلا بالحقائق العلمية من إنسان العصور الأكثر تقدما.
هناك دافع طالما ألح ويلح على للكتابة فى هذا الموضوع .هو حقيقة التراكمات
الهائلة من الكتابات المدعية العلمية فى حين أنها لا تملك من العلم سوى الاسم خلال
السنوات القليلة الماضية ،إلا أنها و بالرغم مما تملكه من جهل بحقائق العلم
والانحراف عن مناهجه .كانت لابد ومن فرط كثرتها وانتشارها الجماهيرى الواسع ،أن
تحدث تغييرا خطيرا فى عقلية البشر فى نهاية القرن العشرين ،وذلك بعد أن كانوا قد
خطوا خطوات جبارة إلى الأمام فى المائة العام الأخيرة إلا أنك تجدهم الآن و قد
تراجعوا خطوات كبيرة للخلف .بسبب ما أحدثه هذا التراكم الكمى الهائل عبر أجهزة
الثقافة والإعلام المختلفة ،من تغيير كيفى متعمد فى عقلية الجماهير المتأثرة بما
ينهال عليها من معلومات وأفكار وقيم.
فهذه الكتابات والمواد الإعلامية
المختلفة تعتمد فى حقيقتها على ذكر بعض النظريات العلمية المتسرعة أو ذات الطابع
الجزئى ،أو المبسطة إلى حد الخلل أو التى ربما قد بنيت على مشاهدات جزئية أو قاصرة
أو غير مفسرة بشكل جيد ،وهذا الاستناد يترك أثره على عقلية المتلقى فى شكل معلومات
مشوهه أو غير دقيقة وأحيانا غير صحيحة ،والأخطر من هذا ترسخ المنهج الغير علمى فى
التفكير وهو الثمرة الأكثر رسوخا حتى ولو ثبت بعد ذلك للمتلقى عدم صحة أو دقة تلك
المعلومات ،وعلى سبيل المثال لا الحصر تقوم هذه الكتابات باستغلال ما يلى من نظريات
علمية:-
نظرية الموت الحرارى للكون ،وهى النظرية التى تقول أن الكون يفقد
حرارته تدريجيا ،مما سيؤدى إلى فناء العالم فى آخر لأمر.
بعض المشاكل التى
واجهت قوانين حفظ وبقاء المادة والتى تنص على أن المادة لا تفنى و لا تستحدث و لا
تخلق من عدم ،وبمعنى آخر بقاء وحفظ كميتها مهما يحدث لها من تحولات .
الفهم
المغلوط لمبدأ عدم اليقين فى ميكانيكا الكم والذى يعنى عدم إمكانية تحديد سرعة
واتجاه أى جسيم أولى فى نفس الوقت ،فكلما حدد أحدهم بدقة كلما كان لا يمكن تحديد
الآخر بنفس الدقة ،وهو مبدأ من مبادئ ميكانيكا الكم التى تدرس الجسيمات الأولية
التى تكون الذرات .
الفهم الغير صحيح للطبيعة الموجية للجسيمات الأولية التى
تملك خاصية كونها جسيمات وموجات فى نفس الوقت .
التأويل المتعسف لنظرية
الانفجار الكبير التى تقول بأن الكون قد نشأ نتيجة انفجار كبير منذ حوالى
15مليارعام لكتلة من المادة بالغة الكثافة وشديدة الحرارة وصغيرة الحجم
للغاية.
بعض استنتاجات نظرية النسبية التى تؤدى إلى نسبية كل مفاهيمنا من
كتلة وسرعة وطول ومسافة وحجم وحركة وزمن ومكان لكل الأشياء التى تكون الطبيعة
.
الأسرار التى مازالت مجهولة فى الكائنات الحية .
الظواهر الغامضة
والغير مفهومة فى الطبيعة غير الحية والحية .
وهم يستغلون كل هذه المتاعب
بالنسبة للعلم فى المحاولات المتعسفة والمتعصبة لتعميم المفاهيم غير العلمية على
الفهم العلمى الشامل للعالم من حولنا.
إلا أن هذه الكتابات على كثرتها
تواجهها كتابات أخرى أكثر احتراما لحقائق العلم ومنهجه ،إلا أنها على أى حال ،قليلة
لا تغنى من جوع ،ثقيلة الدم كونها جادة ،صعبة الهضم كونها دسمة،ولذلك لا يقرأها
غالبية القراء الذين تعودوا على كتابات التسلية والإثارة(ثالوث الخرافات والألعاب
الرياضية والجنس) وهو ما قد يشكل كارثة حقيقية على مستقبل البشرية ..وإليكم بعض
الفقرات الهامة من الكتابات الجادة استعدادا لمقارنتها بالكتابات الأخرى بعد قليل
.
فى كتاب موجز العلم فى التاريخ للعالم الفيزيقى الكبير جول برنال فى معرض
رده على الكتابات المحاولة استغلال مبدأ عدم اليقين فى ميكانيكا الكم ،لإثبات أن
العالم وظواهره غير قائمين على السببية فضلا عن الأساس غير المادى للعالم استنادا
للطبيعة الموجية للجسيمات الأولية يكتب" وعلى هذا فالنظرية الغيبية الخيالية التى
أقيمت فوق نظرية الكم الجديدة ،ومبدأ عدم اليقين ،هى نظرية تعسفية ليس لها أى أساس
موضوعى ،بل تعتمد على التحليل الشخصى لمعنى الكم الفيزيقى ،وحتى ولو صح هذا التحليل
-مؤقتا-على مستوى الذرة ،فلا يمكن فرض صحته على مجالات أكثر تعقيدا من الذرة
كالبيولوجيا مثلا "1.
ويكتب "ولكن أزمة الفيزياء لن تحل ولا تحل بضربة سيف
قاطعة ،و لا بوصفة بارعة بل بنظرية علمية شاملة وجديدة للكون ،نظرية هى بالفعل آخذة
فى التشكل "2.
ويكتب رودلف كارناب وهو أحد كبار فلاسفة العلم فى كتابه الأسس
الفلسفية للفيزياء. "و لا يعنى هذا أن قوانين الفيزياء المسلم بها لا يمكن أن تتغير
،وأن مبدأ عدم اليقين لهيزنبرج لا يمكن التخلى عنه أبدا ،ولكن مع ذلك فأننى أعتقد
أنه من المناسب أن أؤكد على أنه سوف يحدث تغيير ثورى فى البنية الأساسية لفيزياء
اليوم ( كما أقتنع اينشتين من قبل )أن هذه الصورة لميكانيكا الكم الحديثة أمر مشكوك
فيه وربما يتخلى عنها فى يوم ما .هناك إمكانية لذلك "3.
ويكتب فيتالى رادنيك
فى كتاب ما هى ميكانيكا الكم " ومهما كان الأمر فهناك حقيقة واحدة ،وهى أن الفيزياء
تقف اليوم على أعتاب قفزة جديدة .لكنها ليست قفزة فى المجهول .فأن العلماء يرون
جيدا الطريق الذين يسيرون فيه سفينة الفيزياء الحديثة ،ويعرفون محطات وقوفها
القريبة "4.
ويكتب ستيفن واينبرج فى كتاب الكون فى الثلاث الدقائق الأولى "
ويمكن التأكيد هنا على أن مهمة العلم الأولى ليست شرح الأسباب بقدر ما هى فهم
العلاقات المختلفة التى يحصل عليها سواء عن طريق الملاحظة أو عن طريق التجارب
العلمية المخططة أى أنه يحاول الإجابة على الأسئلة التى تبدأ بكلمة "كيف"وليست
الأسئلة التى تبدأ بكلمة " لماذا "وذلك وصولا إلى نظريات تحاول الاقتراب من المعرفة
الحقيقة ،وهذه النظريات هدفها محاولة البناء على أساس الماضى والحاضر للتنبؤ
بالمستقبل .فأنت تستطيع التنبؤ بمسار قذيفة أو صاروخ إذا حددت سرعتها واتجاهها فى
لحظة البداية .ومن ناحية أخرى لا يستطيع العلم الإدعاء بأن حقائقه مطلقة ،لأن
الحقائق العلمية تعتمد على دقة الملاحظة أو التجربة ..وهذه الدقة تزداد باستمرار مع
تقدم وسائل الرصد أو التجربة "5.
وهكذا فأن هؤلاء العلماء الفيزيقيين الكبار
يقرون جميعا بأن البشرية مازالت فى طريقها لنظرية جديدة أكثر دقة تفسر كلا من
الجسيمات الأولية والكون بأسره ،حيث تواجه العلم المعاصر فى هذين المجالين عدد من
الصعوبات فى طريقها للحل ،ولاشك أن هذا الحل المرتقب سوف يؤدى إلى تساقط كل الأفكار
والفلسفات التى حاولت جنى ثمار الاضطراب العلمى المؤقت الناتج عن أزمة الفيزياء
الحديثة ،وذلك فى طريق البشرية نحو اكتشاف أسرار المجهولات السالف ذكرها .وسيستعيد
العلم منهجا وحقائقا مركزه فى ساحة الفكر الفلسفى بالرغم من تحول أعداد هائلة من
المتاجرين بالعلم وأنصاف الفلاسفة والمفكرين وأشباه الكتاب لممارسة مهمتهم فى ترويج
أفكار للاستهلاك التجارى الجماهيرى بأساليب الإثارة الإعلامية مستهدفين فى ذلك
تضليل الجماهير المقهورة والمستغلة والمغلوبة على أمرها عن حقيقة واقعها الطبيعى
والاجتماعى على السواء.
أنه مما لاشك فيه أن لهذه الظاهرة أسبابها الموضوعية
و الذاتية التى سنأتى على ذكرها بعد قليل .إلا أننا على يقين من ان كلمة الدوائر
العلمية الأكثر احتراما لمنهج العلم وحقائقه ستفرض نفسها فى النهاية ، طالما كان
التقدم هو الدافع المحرك للبشرية ،ومادام العلم يدفع البشرية دائما خطوات إلى
الأمام من أجل المزيد من المعرفة الصحيحة ،والتقدم المادى والفكرى رغم كل الخطوات
المؤقتة نحو الجهالة والتأخر الفكرى أحيانا.
من الصحيح أن الزلزال قد حدث
لأننا ما زلنا على أبواب اكتشاف عالم الجسيمات الأولية داخل الذرة باعتبارها الوحدة
البنائية للأجسام التى فهمها الإنسان حتى نهاية القرن التاسع عشر ،والكون بوسائل
مازلت محدودة القدرة فى البحث العلمى نسبيا ..فذلك شأن العلم دائما فهو فى البداية
يضع النظريات والفروض ،ثم نتيجة قصور وسائل البحث تكون تلك الفروض والنظريات بعيدة
نسبيا عن الحقيقة الموضوعية ،وبزيادة قدرات البحث يعدل العلم ويطور نظرياته وفروضه
وقوانينه وحقائقه ،إلى أن يفوز بالحقيقة الموضوعية فى النهاية ,التى هى تعبير صحيح
عن الواقع فى مرحلة معينة من تطوره .إلى أن يتغير هذا الواقع وتظهر لنا مشاهدات
جديدة فيه،وبالتالى تطرح مشاكل جديدة ،تحتاج لنظريات جديدة تكمل نواقص النظريات
القديمة ،والتى تظل خاضعة للتنقيح والتطوير مع كل جديد من المعلومات التى تتوالى
باحتكاكنا بالواقع والتأثير عليه لفهمه ،وهذا هو ما حدث حين عدلت نظرية النسبية فى
فهمنا لقوانين نيوتن ،حيث أوضحت أن تلك القوانين هى حالة خاصة لحركة الأجسام
البطيئة السرعة والساكنة فى حين أن قوانين النسبية هى التعبير الأدق والأعم لحركة
الأجسام البطيئة والسريعة والساكنة غير أن أهميتها لا تتضح لنا إلا فى حالة دراسة
الأجسام التى تتحرك بسرعات تقترب من سرعة الضوء.
وبهذه المناسبة يجب التنويه
بالفرق بين الفروض النظرية المقامة على أسس الملاحظة العملية والملتزمة بالمنهج
العلمى ، وبين الفروض الخرافية والعقائد الأسطورية ، القائمين على أساس من التعسف
والتعصب والرغبة والإرادة ، والمبنين على الخيال الذى لايمكن إثباته والوهم الذى
لايمكن البرهنة عليه عمليا أو علميا.
فهناك فرق واضح بين الفرض العلمى
والفرض الخرافى، فالذرة بالرغم من ضئالتها البالغة ، حيث أن أصغر جزء من الغبار
تستطيع رؤيته بالعين المجردة يحتوى على المليارات منها ، الا إنه تم تصويرها
فوتوغرافيا ، وقد ظهرت كنقاط مضيئة ، وذلك بعد فترة طويلة من البرهنة النظرية
والعملية على وجودها ، كما تم تصوير مسارات حركة الجسيمات الأولية ، والتى تظهر على
شاشة كشاف الجسيمات كخطوط مضيئة تختلف من حيث السمك والكثافة الضوئية مما يميزها عن
بعضها البعض ، وبالتالى أصبح الشك فى وجود كل من الذرات والجسيمات ، كالشك فى وجود
الشمس مجرد سفسطة فارغة فكروية الأرض كانت فرضا نظريا قبل إمكان مشاهدتها
عمليا ككره تسبح فى الفضاء ، وقد أستنتج هذا الفرض من أكثر من ألفى عام، نتيجة
ملاحظة ما استطاع أن يلاحظه البشر بشكل متواتر ، للسفن القادمة من البحر إلى الشاطئ
، وقد لاحت أجزاءها العلوية قبل أجزاءها السفلية ، مما كان يعنى أن هذه السفن تسير
فى مسار منحنى وليس فى مسار مستقيم ، وبالتالى فأن سطح الأرض لابد وأن يكون كرويا
بالضرورة ، ولايمكن أن يكون مسطحا ، إذ إنه فى هذه الحالة ستبدو السفن قادمة إلى
الشاطئ وقد بدت جميع أجزاءها مرة واحدة وهذا هو ما لم يلاحظ أبدا . وكمثال على
الفروض الخرافية ، فرض أن الأرض تستقر على قرن ثور أو كتف عملاق وما شابه ذلك من
فروض خيالية ما هى إلا محض أساطير سطرها البشر بأنفسهم ، وصدقوها كأنها حقيقة ،
وتعصبوا لها ، وتقاتلوا حولها ، بالرغم من أن أحداً لا يستطيع البرهنة عليها ، ولا
ملاحظة ما يؤكدها أو ينفيها بوسائل العلم المقبول كما أن المشايعين لوجهة النظر
الوضعية ينبهوننا إلى أن الكيانات التى لا تخضع للملاحظة تنتقل عاده إلى مجال
الملاحظة عند تطور أدوات الملاحظة، وتصبح أكثر فاعلية ، ففى وقت من الأوقات كان
الفيروس مجرد حد نظرى . ويصدق نفس الشىء على الجزئى لدرجة أن إيرنست ماخ كان يعارض
التفكير فى الجزئى بوصفه شيئا ، فقد أعلن ذات مرة أنه محض خيال لا قيمة له ، واليوم
أمكن تصوير الذرات فوتوغرافيا فى شبكة بللورية عن طريق إطلاقها من الجسيمات الأولية
، وهذا يعنى أن الذرة أصبحت خاضعة للملاحظة ، ويؤكد المدافعون عن وجهه النظر هذه
إنك لو قررت إن للذرة وجوداً تكون كما لو أنك قد قررت تماما أن ثمة نجما بعيداً ،
إذ أن الملاحظة هنا تقع على بقعه ضوء باهته تظهر على لوح فوتوغرافى ممتد . ولا توجد
بالطبع طريقة مماثلة تساعدنا على ملاحظة الإلكترون . ومع ذلك ليس ثمة سبب يدعونا
إلى رفض وجوده . فعلى الرغم من أن القليل جداً هو الذى نعرفه عن بنيته اليوم ، إلا
إنه ربما يعرف عنه الشىء الكثير جداً فى الغد ، ومن ثم فأن المدافعين عن وجهه النظر
الوضعية يؤكدون أنك لو تحدثت عن الإلكترون بوصفه شيئا موجوداً فأنك تكون على صواب
تماما . كما لو إنك تتحدث عن تفاح ومناضد وجماعات بوصفها أشياء
موجودة)6.
كان المصريون القدماء يظنون أن الكون هو أرض مصر وما جاورها من
بلدان ، وأن قبة السماء من فوقهم ترتكز على أربعه جبال على أركان مربع الأرض ، وأن
النجوم تتلألأ ليلاً عندما يرحل رع بسفينته عن هذه القبة من الغروب إلى الشروق ،
وعندئذ تفتح الآلهة النوافذ مدليه المصابيح لتنير للبشر ليلاً ، إلا إنه فى الشروق
تبدأ رحله رع مره أخرى عبر القبة منيرة للبشر كى يعملوا طيلة النهار إلى حين يرحل
رع فى الغروب .. كما ظن العبرانيون أن السماء غطاء من الجلد يعلو الأرض بما لا يزيد
عن مئات الأقدام وفوقها يعيش يهوه فى السحاب كما لم تختلف كثيراً اعتقادات كثير من
الشعوب والحضارات عن هذه الرؤى مع اختلافات فى التفاصيل .. إلا إنه ما أبعد كل هذه
الصور عن حقيقة الكون كما ينبئنا بها العلم الحديث.ومن ثم فهناك فرق بين العلم
منهجا وحقائق والأساطير باعتبارها فهم مشوه ومقلوب للواقع وأننا لا يمكن أن نساوى
بينهما تعسفا أو عجزا على الفهم.
ومن الواضح إننا نستطيع أن نؤكد أيضا على
أنه ليس من مهام العلم البرهنة على الأساطير ، أو الحلول محلها فمن شاء أن يؤمن
بالأساطير فليؤمن ،ومن شاء أن يكفر بها فليكفر ،ولكن بعيدا عن العلم الكافر بطبيعته
بكل الأساطير ،ونستطيع أن نؤكد أيضا على أنه مهما تغيرت نظريات العلم وتفصيلاته
التى لا تهم سوى المتخصصين .فأن العلماء فى مجال البحث العلمى ،لا يستطيعون سوى
الاعتراف المسبق بمادية العالم ووحدته المادية ووجود المادة كواقع مستقل عن إدراكنا
له أو فهمنا له مهما تغيرت تصوراتنا عنه .وقد تتغير حقائق العلم وتتبدل نظرياته رغم
ثبات المنهج العلمى وبفضله ،كما أن الخلافات الفلسفية لن تحسم معمليا ،ولذا فستظل
دائما أسئلة تؤدى إلى أسئلة تختلف إجاباتها بلا حسم ،إلا أن ما يظل صحيحا وما يجب
التمسك به هو المنهج العلمى فى التفكير والممارسة .
العلم ليس مكلف بتحديد
غايات ما يحدث فى الكون إذا كان له غايات ،بقدر ما يجب أن يهتم بمحاولة فهم أسباب
ما يحدث من خلال تفسيره للعمليات التى تجرى فيه بصرف النظر عن رغباتنا الذاتية
،وأننا بلا شك لو أردنا فهم العالم فلا سبيل لنا إلى ذلك سوى بالعلم ،وهو ما يجعلنا
ننطلق من قناعة رئيسية بإمكانية معرفة العالم ،لأننا لو لم نؤمن بهذه الإمكانية فأن
محاولتنا لهذا الفهم ستصبح بلا جدوى ،ويستطيع كل عالم بعد الانصراف من معمله أن
يؤمن بما يشاء من الأساطير ،وهو الشىء الذى لا يستطيع أن يحكم تصرفاته داخل المعمل
الممنوع تداول الخرافات داخله.
الهوامش
1جون برنال -موجز تاريخ العلم -عرض سعد الفيشاوى-دار
الفارابى-ص236.
2 _المصدر نفسه_ص237
3-رودلف كارناب-الأسس الفلسفية
للفيزياء-ترجمة د. السيد النفادى-دار الثقافة الجديدة -ص318.
4-فيتالى
رادنيك-ما هى ميكانيكا الكم-دار مير-ص449.
5ستيفن واينبرج-الكون فى الثلاث
دقائق الأولى -ترجمة د.علاء الموصلى-دار الغد-
6رودلف كارناب-مصدر
سابق_ص289