|
المِعدان والمندائي يوحنا المَعمدان ...!
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 4506 - 2014 / 7 / 8 - 22:48
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
في رحلته الأزلية الى مدن المعنى شرب الرحالة الفلورنسي ماركو بولو من ذات الأناء الذي عمدَ فيه النبي يحيى ع يسوع بن مريم ع . حتى يمنح لروحه بهجة المدن التي سيراها ويقف بتوازن وثبات ودون رهبة أمام امبراطور المغول قبلاي خان ، ويفسر رؤى وأحلام الخان بما تعلمه من دهشة أناجيل ذلك التعميد . لقد كان ماركو بولو يكتشف المدن بأيحاء من تلك الرشفة المباركة لذلك الأناء وبحضور كاهن من الكنيسة الكاثولكية لم يره من قبل ، كانت كل ملابسه بيضاء على غير عادة ثياب الكهنة السود. ( المعدان ) سكنة المنطقة المائية المحصورة بين دجلة والفرات ، لامدن لديهم ، كانوا فقط يكتشفون أرواحهم من خلال طقوس الحزن العاشوري المكتسب بفطرة الانتماء الى النواح ، وكذلك من لمعان ثياب المندائي العراف الذي كان يزور قريتنا ( رأس الفجل ــ لأنها الوحيدة من بين قرى المعدان من تزرع الفجل لوجود فسحة واسعة من الاراضي الزراعية فيها وسط بركة الاهوار المتسعة ) مرة واحدة كل عام وليوم واحد فقط ليغادر الى قرية أخرى قريبة من قريتنا تسمى ( ذيل الكطان ــ لأنها القرية الأكثر حظا في صيد سمك الكطان الكبير الحجم ) وكان أبي من يتكفل أيصاله الى هناك ، وكنت ارجو أبي رغم سني الثامنة لأصحبهم ، وكان يوافق عندما يوافق عراف قريتنا ، وبفطرة طفولية غريبة كنت أدون اول خواطري على مساحة ذلك البياض المغري في ثوب المندائي ، وبشغف وعاطفة غامضة كنت انتظر ذلك اليوم من كل عام ، عندما يزورنا بثوبه المضيء بنظافة روحه وقماشه ، واقف الى جانب أمي وهي تشكو أليه آلام في ظهرها وفي الكتفين والساقين وسعالها الأبدي الذي مازلت اتذكر موسيقاه منذ سني طفولتي الأولى وحتى رحيلها الأبدي الى السماوات البعيدة. حتى أحلامها كانت تقصها عليه فأراه يمنحها لآلامها وسعالها اعشابا طبية ، ولأحلامها يضع تفاسيرا بمقدار ما يفتهم عقلها الريفي ، ومرات أرى سعادة مبتهجة في ملامحها ، ومرات يغطيها حزن قاتم وعبوس عندما يكون الحلم الذي حلمته حريقا في جبائش القصب في قريتنا أو أنحسار الماء وخروج اليابسة الصبخ وهياكل عظمية لجواميس وطيور تسقط من السماء . تسمع منه التفاسير فأسمع نبض قلبها المتسارع ، وبين حين وحين يلتفت إلي ويرمقني بنظرة غريبة ، لا افهم معناها ولكني احس بوقعها فأعرف إن كوابيس أمي وأحلامها له علاقة بحياتي القادمة. ماتت أمي في ذروة نوبة سعال قوية ، وتدثرت بحزن المعدان الصامت وأنا ارثيها بنحيبي ودموعي مشاركا أختي الوحيدة ( هاشمية ) في عويلها الصاخب وبكاؤها وهي تشق ثوبها من الطول الى الطول ، فيما تطلق جاراتنا الجالسات حولها سمفونيات النعاء بلهجة جنوبية ، اكتشفت لاحقا انها من بقايا النواح السومري الذي كانت تطلقه امهات الجنود في أور حين يؤتى بأبنائهن شهداء من ساحات المعارك ، فيما حافظ أبي على رباطة جأشه وكتم كل مأساته بين أضلعه فلم تنزل دمعة واحدة من عينيه. المندائي الطيب ايضا توفاه الله ، فصار أبنه زهرون يأتي بدلا عنه ، وعليَّ أن اتخيل هذا المندائي الوسيم ( زهرون بن يحيى بن عطر ) الذي طالما اشتقت الى مجيئه السنوي ، وكنا سوية بعد طقوس التطبب وتفسير احلام اهل القرية نذهب سوية في مشوار لصيد السمك او الزرازير ، وكان يحتاج عظام السنونو لطحنه من اجل ادعيته وتمائمه وطلاسمه وأدويته ، وكان أيضا يوقت مجيئه الينا في مواسم جني ( الخريط الأصفر ) فهو يعتقد أن هذه الحلوى المستخرجة من القصب ولها مذاق سكري تشفي امراضا كثيرة كما علمه ابوه. في دموع أبي وصمته الشارد الذهن بعد رحيل أمي ، وفي أجفان زهرون ، تفتح الحياة لي طرق موهبة النبؤات والشعر ، متذكراً كلام ماركو بولو : الزيارات المتكررة للمعبد الصيني ، تمنحكَ نصف ما عند بوذا من ضوء. وربما هاذين الهاجسين كانا من بعض التمائم التي اودعتها أمي لدي لتحرسني في محن القادم من حياتي ومحطاتها بعد أن شعرتُ من كلام العراف المندائي :أن العبوس والشهوة اللذان يملأن وجهي وأنا أجلس بجانبها لأستمع الى تفاسيره له علاقة بكوابيس أمي واحلامها. زهرون في فسحة النزهة بين غابات القصب ، كان يحاول أن يجعل من أحلام امي وأنا أقصها عليه كشكل من توارث الهاجس والحالة ، وكان يجد صعوبة في أفهامي وتفسير تلك العبارة ، إلا أني كنت أفهمها بلا الوعي مثقف الذي امتلكتهُ بالفطرة وموهبة كتابة الخواطر التي نشأت معي حين تجاوزت الصف الرابع الابتدائي. ولكن الغريب أن المندائي الشاب صار شريكا في قدرية تلك الطقوس التي كانت امي تسردها امام أبيه الذي تتغير ملامحه وينتابه الحزن وتبدأ أجوبته بالأرتعاش ، وكأنه يدرك بهاجس ما أن احلام أمي لاتهمها ولاتهم ولدها ، بل تهم ولده الذي سيخلِفهُ في التجوال بين القرى لقراءة الفال ومداواة علل المعدان التي لاتنتهِ . وقد كان أحساسه في محله فصداقتي مع زهرون امتدت عميقا لنكون سوية في مرحلة دراسية واحدة وكان يكبرني بأربعة اعوام حين أنتقلت وأهلي للسكن في المدينة بعد أن باع أبي جواميسه لأن المياه جفت وموت الجاموس تكرر في الكثير من القرى ، عندما اختفت قيلولات ظهيرتها وصارت تموت وهي حزينة ، وبعضها يموت منتحرا عندما تصرُ لتبقى تحت لهيب شمس تموز الحارقة لساعات ليتشقق جلدها وتموت. وقد وجد ابي لنا بيتنا رخيصا في محلة الصابئة حيث يشترك المسلمون والصابئة في إلفة السكن والتجاور منذ نشأة المدينة قبل أكثر من مئة عام . وهناك أبقينا صداقتنا القديمة مع عائلة زهرون . فرحت تماما بهذه الجورة بعد أن انقطع زهرون عن زياراته السنوية عندما تطورت الحياة وأستطاعت قرى المعدان أن تمسك بصيصا من سحر الحضارة وتأثيرها حين شيدت الحكومة مدارسا جدرانها من البردي المضغوط وأبنية لمراكز صحية ، وأزداد شغفهم بمعرفة العالم الآخر والتجوال خارج قراهم المعزولة عندما وصلت اليها فرق السينما الجوالة التي كانت تعرض لهم افلاما ترفيهية ، وكانت فرحتهم لاتوصف عندما كانت هذه السينمات تعرض هذه تصويرا لأغنية داخل حسن ( لو رايد عشرتي وياك ...حجي الجذب لاتطريه ) ، وكان يسحرهم بشهوة غريبة رقص الغجريات بنات الريم اثناء غناء داخل لأغنيته. وقد حدثني أبن عمي أن انشداههم وصل الى مرحلة الذهول أمام الشاشات البيضاء عندما تنقل لهم مشاهدا من مدن وأمكنة يعتقدون انها ليست على الأرض. وعندما عرضوا لهم فيلما فرنسيا للفاتنة الشقراء برجيت باردو وكان هو أول أفلامها الموسوم ( وخلق الله المرأة ) ، عندها كل الجالسين أمام الشاشة اصيبوا بالأغماء ، ولأسبوع لم يذهبوا مع جواميسهم الى قيلولات الماء فقد كانت تذهب لوحدها ، وربما تخيل كل واحد منهم انثاه بجمال تلك الساحرة فكان يقيم معها الواقعة لأكثر من مرة في اليوم الواحد. زهرون الحقيد الروحي للمعمدان يوحنا ( ع ) . سيقَ بقدر ثانٍ ليكون معي بذات المكان في واحد من امكنة الحرب ، عندما رمانا القدر سوية جنودا في ربيئة ( ثدي الغزال ) على جبل هرزلة المطل على حوض بنجوين. وبقدر فرحتي لنكون معاً ، بقدر ما أرعبني الضوء الآتي من أجفانه وأنا أتذكر أحلام أمي وكوابيسها التي كانت تقصها امام المندائي يحيى ، لأدرك أن واحدا منا لابد أن تسرقه الحرب..! زهرون بفضل خبرته الروحانية في التجوال بين قرى المعدان كان يقرأ تساؤلات أجفاني وبأبتسامة حنونة يهمس لي : ــ لا تخف أرى شوارع باريس ونيوناتها تتجول في عينيك لن تسرقك الحرب.! ــ هي نبؤة يازهرون ؟ ــ كلا أنه تفسير أبي لأحلام امكَ الطيبة. ــ ليس كل النبؤات صادقة .يوليوس قيصر كان يقول : حتى تنتصر ، أمشي في طرقات لاتؤشر إليها أصابع العرافين. سنعيش سوية وربما معاً سنجوب شوارع باريس. ــ كلا . كاترين دينوف ستومئ لك وحدك.! شعرت برعشة المعدان اللذيذة عندما تلد جواميسهم بسلام بعد مخاض عسير ، وانا اتخيل وجه الممثلة الفرنسية الفاتنة وهي تومئ اليَّ وتدعوني لسهرة خرافية على ضفاف السين. المدافع تزعق فوق رؤوسنا كما الغربان ، وأنا أتيه مثل ببغاء مصاب بالعطش في حدائق صدر الممثلة الفاتنة. اشرب من فمها امطار شتاءات القصب وموسيقى ناداءات البط الذكر لأنثاه في الصباحات المشمسة .اتناول من صحن صدرها قطعا من الخريط الاصفر الذي تفوق لذته لذة الكفيار المقدم بصحون من ذهب على موائد شاه ايران والثري اليوناني اوناسيس ارسطو . اغيب معها وانسى قصف المدافع ودموع صديقي زهرون الذي يدرك الى اين سينتهي قدره مع الحياة. أنسى كل شيء واعوم في الجسد الفرنسي الشهي لدينوف. وما أن يكتمل فصل الشوق الاسطوري معها حتى تسقط القمم الصخرية كلها فوق رأسي واصرخ بفزع لهول المفاجأة وأنا ارى صديقي المندائي زهرون ممدا في ساحة الربيئة وقد مزقت شظايا القصف المدفعي جسده..!
زولنكن 8 تموز 2015
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأهوار وموسيقى سمكة الشبوط..
-
امرأة تكتب واللذة جنتها.....!
-
مونليزا المعدان......!
-
يوسف ( ع ) ، آية في الثكنة وليل الأهوار.....!
-
شيء من التصوف المندائي....!
-
النبي موسى ( ع ) ومعدان أهوار سيناء.!
-
أحلام ليل الفخاتي ....!
-
الاميرة السومرية الرسامة ( بتول آبي الفكيكي )
-
كالكسي ( 5 ) وآي فون( 5 ) وصريفة* .......!
-
أساطير الجفجير.....!
-
السنونو هذا الطائر الشيوعي .....!
-
طيري ياطياره طيري ...!
-
المِعدان يعشقونَ أيطاليا وصوفيا لورين...........!
-
( الموت بالخازوق فقراً ومنفى )
-
داعش لاتشبه مراكش ..ولا تشبه العش ..
-
فاجينتي مالا.. اللون الأحمر والعنبر ..!
-
الناصرية.. شهيدٌ من دير متي والزقورة وبطن الحوت..!
-
خوذة الله وخوذة العباس.وخوذة الجندي المنكسر ..!
-
الناصرية تبكي من أجل نينوى ..!
-
ملاكٌ على شكل قصيدةٍ ونهدْ.......!
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|