|
إعادة تأسيس الذات في الفضاء التخييلي: رواية (فلك الغواية) نموذجاً
معن الطائي
الحوار المتمدن-العدد: 4504 - 2014 / 7 / 6 - 11:33
المحور:
الادب والفن
لا تستطيع الطبيعة الإنسانية التعامل مع عالم الظواهر الفيزيائية المستقلة عن الوعي والخالية من المعنى. ولذلك يلجأ الإنسان، عبر السرد، إلى إدخال تلك الظواهر إلى مجال الوعي البشري ووضعها في سياق معين يضفي عليها معنى ودلالة ما. إن السرد هو إثبات لوجود الذات أمام عالم الأشياء وتأكيد لهويتها عبر توظيف الصوت والزمن. وهو إحدى نشاطات تلك الذات التي تنتجه وتتأمل فيه لغرض الفهم والتأويل. بل هو أحدى مظاهر وجود الذات وممارستها لكينونتها داخل ذلك الوجود. فالسرد هو المظهر المادي المتجسد للسعي نحو إنتاج المعرفة حول الذات والآخر والعالم الطبيعي من حولها وتنظيم لخبراتها الحياتية المعاشة ومكونات الذاكرة الذاتية والجمعية. أكد الباحث دانيل بنداي في كتابه (السرد بعد التفكيكية) على أن الاتجاهات الجديدة للدراسات السردية بعد التفكيكية تتجه نحو إقرار وجود المعنى والوحدة والانسجام والعودة إلى لذات بوصفها مصدراً لانبثاق السرد، مع استمرار التأكيد على طبيعته اللاموثوقية واللايقينية، وذلك لنزع أي إمكانية لإضفاء صفة القدسية واحتكار الحقيقة من قبل مصدر وحيد ومتعالٍ على النقد والتعديل. وبينما يذهب النقد التفكيكي إلى القول أن مجرد الإقرار بأن المعرفة تتشكل من خلال السرد يكشف عن الطبيعة النسبية للمعرفة ويسمح بالتشكيك الدائم بأنماط بناء المعرفة والخبرة الإنسانية، تؤكد الدراسات السردية بعد التفكيكية على أن تشكل المعرفة من خلال السرد لا يعني بالضرورة تهافت الحقيقة وتداعيها، لأن النشاطات التفاعلية والتواصلية للذات مع الذوات الأخرى داخل الفضاء الثقافي تسمح بالتوصل إلى سرديات عن الحقيقة على المستوى الذاتي والجمعي. فالذات مازالت قادرة على إنتاج سردياتها الخاصة في محاولتها لتفسير وفهم عوالمها الداخلية والعوالم الخارجية المحيطة بها. يمكننا القول بوجود نزوع داخلي غامض عند الذات نحو الإيمان بمنظومة عقلية أو شعورية معينة تحقق لها نوعاً من التماسك الداخلي على مستوى الوعي. وحتى في حالة عدم صمود تلك المنظومة أمام نزعات التشكيك العقلي والمنطقي تظل الذات متمسكة بمضمون هذا الإيمان لأنه القوة الداخلية الوحيدة القادرة على مدها بالقدرة على مواصلة الحياة. فالإيمان بالوهم الذي يمدها بالطاقة الايجايبة العالية أفضل من القبول العقلي بحقائق اللاجدوى والعبث والغياب النهائي للمعنى. وبذلك تصبح الذات أكبر من أن تختزل في مجرد خطاب الهوية أو العقل أو الثقافة، لأنها هي الفاعل الحقيقي الذي يقوم بإنتاج تلك الخطابات. نجحت الروائية آن الصافي في عملها الروائي الأول (فلك الغواية) والصادر عن دار فضاءات 2014 في استيعاب تلك المضامين الثقافية حول وظيفه السرد وفاعلية الوعي الذاتي وإعادة إنتاجها ضمن خطاب روائي تميز بالنضج والفنية العالية. تقترب الرواية من كونها تأملاً معرفياً في جوانب التجربة الإنسانية وطبيعة مواقفها الوجودية من خلال حركة الشخصية المتخيلة داخل إطار العمل الروائي ومساءلة المواقف الإنسانية والاجتماعية للأفراد في العالم الخارجي، والبحث عن ممكنات أخرى للاشكاليات الوجودية والاجتماعية التي تواجه الذات الواقعية. حققت الروائية ذلك من خلال خلق إطارات فنية وجمالية تعمل على تكثيف هذا الواقع من أجل السمو والتجاوز. يقول الناقد البارز روبرت مكلافن في دراسته حول رد الفعل ضد ما بعد الحداثة أن إحدى الطرق الجيدة للتفكير في الأجندة التي أتبعتها الحداثة الجديدة هي استمرار الإيمان بقدرة الأدب على اتخاذ مواقف نقدية من العالم الاجتماعي والذات الإنسانية خارج النص، في الوقت الذي لاتتحدد فيه المعاني داخل العمل الفني بصفة نهائية، فهي تظل موضوع رهان متجدد لصراع مفتوح بين مختلف القراءات. وفي (فلك الغواية) يتم تجاوز الخطاب الأخلاقي المؤسس اجتماعياً والقائم على التصنيفات القسرية لمفاهيم الخير والشر، والذات بوصفها هوية ثابتة، من أجل الإقتراب أكثر من حرارة التجربة الإنسانية وانفتاحها على مديات رحبة ومعقدة ومتداخلة تجعلها تموضع نفسها ماوراء الأخلاقيات والتحديدات المسبقة لمفهوم الهوية. فبطلة الرواية هي ذات إنسانية قلقة يتوزع وعيها على ثلاثة عوالم مختلفة ومتقاطعة. ولكنها ترفض أن تكون ذاتاً مستلبة ومغيبة في أي من تلك العوالم، وتسعى دائماً لامتلاك زمام المبادرة والفعل، من خلال إيمانها بأنها قادرة على صناعة نفسها بخصوصية وتفرد بدلاً من إضاعة الوقت في البحث عنها. لم تكن تلك بالرحلة اليسيرة والمتاحة بتجريدية عالية، ولكنها كانت عملية مواجهة شاملة للتحديات الخارجية والداخلية على حد سواء. رحلة انتهت، رغم مخاضاتها العسيرة، بالوصول إلى حالة من السمو والارتقاء بالوعي والروح إلى مدارات الفعل المنجز والذات المتماسكة الصلبة. إنها الذات التي تختار ماتؤمن به وتنتقي قناعاتها الخاصة بعيدأ عن النزعات الشكية واللاوثوقية. ففي جملة الافتتاحية التي تتصدر الفصل الأول نقرأ "كل له رسالة في الحياة قد يدركها وقد لايدركها. أما أنا فقد قررت أن أدرك ما يهمني فيها وكفى!" (ص7). من الصفحة الأولى تضع الرواية القاريء في مواجهة عوالم غرائبية لايملك أمامها إلا الاستسلام والانسياق لمنطلق الحدث السردي الداخلي معطلاً بذلك نزعته التشكيكية وقدرته على التقويض العقلي لما يواجهه. إن الحدث الافتتاحي في الرواية يخلق ما يطلق عليه الناقد راؤول إيشلمان في كتابه (الأدائية، أو نهاية ما بعد الحداثة) 2008 بالجماليات القسرية، وذلك من خلال التأطير المزدوج للعمل السردي والذي يدخلنا إلى عوالم خيالية لانستطيع مساءلتها عقلياً ولكننا نتقبلها ونتورط معها جمالياً، لتعمل فيما بعد، وعلى مستوى اللاوعي، على إعادة تشكيل ادراكاتنا تجاه العمل الفني والعالم الخارجي كذلك. "أنثاي الاسطورية تحادث شيخاً عجوزاً يقطن سحابة عاجية اللون، في قصر ضخم حراسه لايرمشون. دلفت معه القصر فتسللت خلفهما وهما يتمشيان في حديقة القصر. تحدثا طويلاً لكني لا أستطيع سماع صوتيهما بل أراهما فقط، وأشعر بقشعريرة يجملها هواء منعش أميل للبرودة"(ص7). يتوزع الحدث الروائي في (فلك الغواية) على عوالم ثلاثة تخلق مساحات الفضاء التخييلي، وهي عالم الروحانيات الميتافيزيقية وعالم العقل العلمي المنطقي والعالم الاجتماعي الخارجي بما يتضمنه من تناقضات وتصدعات كبيرة نأخذها مأخذ المسلمات البديهية ونرضخ لها بشكل طوعي وبدون مقاومة أو ممانعة. وتشكل قصة الحب التي تربط البطلة بالطرف الآخر المحور المركزي الذي تنتظم حوله تلك العوالم. وتمثل العوالم الثلاثة مجتمعة محفزات على مستوى الوعي واللاوعي الذاتي للبطلة من أجل التأمل في تجربتها الذاتية الخاصة والوصول إلى ادركات أعمق في عملية بناء الذات وفهم البعد الوجودي لتلك التجربة. يتشكل عالم الروحانيات من خلال عدد من الرؤى والأحلام وحضور كائنات متعالية تحيط بالشخصية الرئيسة وتسعى لمساعدتها ودعمها في خضم تجاربها الحياتية اليومية وما تمر به من معاناة وألم. ولكن هذه الشخصية ترفض قبول المساعدة أو الدعم وتسعى باصرار من أجل عدم الوقوع تحت سلطة تلك القوى الروحية وعدم السماح لها بالتأثير في قراراتها وقناعاتها الذاتية. غير أنها لاتمنع نفسها من محاولة الفهم واستيعاب مايحدث من خوارق حولها. وهنا تلجأ إلى التفكير العلمي ومنطق الفيزياء الطبيعية والكونية لنزع الدهشة والحيرة المرتبطة بمثل تلك الظواهر. فإذا ماتمكنت من إيجاد تفسير علمي لتلك الظواهر الخارقة ستنجح من خلال العقل في تحقيق استقلاليتها عنها وستعطل قدرتها على التأثير فيها. في أكثر من مكان في الرواية نلتقي بهذه الشخصية وهي تحاول الوصول إلى ذلك التفسير العلمي المقنع، "قلبت بيني وبين ذاتي وبعقلي البشري العلمي احتمالات عدة لأتقبل بها حقيقة هذه الكائنات الطاقة من خلال فهمي لقوانين نيوتين، حيث العالم وضع ثلاثة قوانين أعشق تفاصيلها، لانها لطالما حلت لي عقداً وألغازاً حياتية جمة"(ص33). وهي تضيف إلى قوانين نيوتن المعروفة نظرية آينشتاين في النسبية لتكون بالمحصلة نظريتها الخاصة حول طبيعة تلك الكائنات الخارقة وعلاقتها بها. ليس من الضروري أن تكون تلك النظرية صحيحة أو خاطئة، فالأهم من معيار الصحة والخطأ هنا هو مدى نجاحها في تقديم تفسير مقنع يتقبله وعيها على المستوى الذاتي الخاص. وهذا هو دور مفهوم الحقيقة في الحياة المعاصرة كما يتصوره النقاد الثقافيون والفلاسفة في مرحلة الحداثة الجديدة. فالحداثة كانت قد آمنت بالعقل العلمي التقني إلى حد التأليه والتعالي، بينما سعى المشروع الفكري لما بعد الحداثة نحو التقويض النهائي للعقل وتفكيك الحقائق العلمية والاجتماعية التي تصدر عنه. تتجاوز الحداثة الجديدة كلا الموقفين في محاولتها التوفيق بينهما للخروج بنموذج ثقافي يعمل على تأسيس مفهوم جديد للعقل وللعلم يقوم على منظومة توليفية من القناعات العامة والخاصة. إنها قناعات ذاتية لاتحاول رفع نفسها إلى المستوى الشمولي العام. ما تقوم به الشخصية الرئيسة في هذا الخصوص لايتمثل في الوصل إلى نظرية عامة شاملة غير قابلة للدحض والتشكيك، بل نظرية تلفيقية تساعدها على تحقيق حالة التوازن الداخلي. تصرح هذه الشخصية "لست بنبية، ولا أتبع أي طرق فلسفية. أني نفسي وفقط!"(175). يحضر البعد الاجتماعي عبر حركة الشخصية الرئيسة داخل الفضاء السردي المتخيل وعبر قصة الحب التي تربطها بشخصية غامضة وغير واضحة المعالم. تخوض البطلة تجربة الحب بحثاً عن الاحتواء العاطفي والعقلي، وكنوع من الإتكاء الروحي على طرف ثان يمدها بالطاقة الايجابية لمواجهة معاناتها الداخلية والخارجية. فوعيها الداخلي قلق ولايكاد يهدأ ومحيطها الاجتماعي تمزقه التناقضات الأخلاقية الحادة. ووسط كل هذه الفوضى لابد من وجود أرض صلبة تقف عليها وتبدأ منها محاولتها بناء ذات قوية ومتماسكة. غير أنها سرعان ما تكتشف هشاشة وضعف الشخصية المقابلة وعدم قدرتها على تحقيق التواصل الروحي والعاطفي الايجابي معها. "قمر كائن حقيقي هلامي بعض الشيء، يستشعر دائماً بقوة مريم حبيبته التي توهم للحظة انه سيهيمن عليها وعلى واقعها ليسيرها بهواه على نهر أفكاره، وهو في الطرف الآخر يعيش نجاحاتها بكامل حواسه وينفصل للحظة"(ص178). تنتهي هذه العلاقة العاطفية بخيبة كبيرة تدفع الشخصية الرئيسة إلى حافة الانهيار. وفي مشهد سردي رائع يتميز بالتكثيف والرمزية، ترسم الروائية تفاصيله بفنية عالية، نجدها وقد وصلت إلى مفترق طرق حاد. تتلاشى مقاومتها وتسقط منهكة لتواجه مصيراً فردياً قاسياً في عزلة تامة. "استطعت أن أطلق صرخة وأنا أجر من باطن قدمي اليمنى شظية زجاجية بحجم شريحة الهاتف اخترقت اللحم، وضغطت عليها عدة مرات، ربما انكسر جزء منها داخل نسج الأدمة، أي ألم سأصرخ منه اللحظة؟ الماء غمرني حتى خصري، تلون جسدي باللون القاني، دمي كثيف والحمى تلهب أحساسي. لحظتها ظننتني كتلة من جمر تأكل بعضها! ماذا يفعل وجه قمر الساخر والشامت حولي"(ص161). يتصاعد الألم الجسدي والروحي في هذا المشهد الذي يقترب رمزياً من فكرة المطهر. أنه الفضاء المكاني والروحي الذي ستتطهر فيه الذات من كل ضعفها وهشاشتها. إنها ترفض الاستسلام، وتنتفض على هذا المصير القسري مستمدة قوتها من داخلها لتخرج من ذلك المشهد المريع إنسانة قوية متماسكة ومنفتحة نحو الحياة بكل عنفوانها وعفويتها. وبذلك تؤكد الرواية أن الحياة بتعقيداتها وتحدياتها، ومستوياتها الروحانية والعلمية والواقعية، من الممكن أن تتحول إلى مصادر قوة للذات الإنسانية، وليس بالضرورة أن تكون سبباً في هزيمتها وانكسارها. فالحياة موجودة في الخارج، بينما قرار الانكسار أو السمو داخلي بامتياز. أنه قرار خاضع لارادتنا الشخصية وطبيعة خياراتنا في كل لحظة. عالج الخطاب الروائي في (فلك الغواية) الاشكاليات الثقافية والاجتماعية التي تواجه الذات في سعيها نحو تحقيق فرادتها وأصالتها الخاصة. وأبرز تلك الاشكاليات هي موضوعة الهوية. يجري تعريف مفهوم الهوية من خلال الانتماء إلى جماعة محددة ضمن حدود جغرافية مرسومة بدقة. فالهوية تحضر قسراً في كل تجليات الإنسان الواقعية والمعنوية. وهذه الهوية التي تفرض علينا تأتي مشفوعة بمنظومة قيمية وشعورية وعقلية متكاملة علينا تقبلها كما هي إن أردنا التعايش مع الجماعة بسلام. تصبح الهوية خطاباً مدعماً بقوة لايسمح للذات بالخروج عليه أو حتى إظهار قدر من الممانعة والاحتجاج. والمظهر المادي للوجود الهوياتي يتجسد في حزمة من الأوراق الثبوتية التي ترافقنا منذ لحظة الولادة وحتى الموت. تلك الاوراق التي تحدد حركتنا واقامتنا ومايجوز ولايجوز لنا القيام به. في حديث الشخصية الرئيسة مع السيدة البريطانية حول الجزيرة التي يقيمون بها تتطرق للاشارة إلى هذه الحقيقة، "دار بيني وبين السيدة حوار عن هذه الجزيرة وتاريخها حيث هي منقسمة إلى شقين، وكل منهما يتبع لدولة منفصلة. وأن سكان الشق "اليوناني" يستطيعون زيارة الشق "التركي" الذي نقطنه بحرية أكثر، بينما الشق اليوناني لايسمح بزيارة سكان هذا الشق إلا لغرض التبضع في جانب من السوق، وبعد تقديم قائمة بأسماء وهوية المسافرين في وقت محدد أول الأسبوع"(ص26). كما ترتبط أزمة الهوية بظاهرة أخرى أصبحت سمة مميزة لعصرنا الحالي، وهي ظاهرة الشتات والهجرات الجماعية وتوزع أفراد العائلة الواحدة على عدة بلدان وأماكن متفرقة. فلم يعد من المستغرب أن نعثر على عائلة صغيرة يحمل كل فرد من أفرادها جواز سفر وجنسية لدولة مختلفة. "إخوتي وأخواتي كل واحد منهم في بلد. تخيلوا لايوجد شخصان في أسرتي لهما جنسية وجواز سفر مماثل. أنا البكر واخي الأكبر الذي يليني في ألمانيا وأسرته معه في مدينة بون يعمل مهندس ألكترونيات، وأخي الآخر يعمل طبيباً في نيويورك بأمريكا، وأختي الكبرى في أستراليا محاضرة في جامعة بمدينة سيدني، واختي الصغرى في جنوب أفريقيا. كل مع أسرته وامي تتنقل بينهم ورفضت العودة للحياة معي هنا حيث رفاة أبي"(ص170). وفي خضم هذا الشتات يصبح موضوع الهوية مفرغاً من أي قيمة أو معنى إنساني، ليختزل في مجموعة أوراق ثبوتية ومحددات مادية تزيد من غربة الإنسان وتحد من حريته. وفي مثل هكذا ظروف لاتعود هناك قيم أو معايير أو قناعات جمعية قادرة على تحقيق التماسك الداخلي للذات. فأقصى ما هو متاح أن تشكل الذات قيمها وقناعاتها الخاصة التي توصلها إلى حالة السلام الداخلي. وهذا ما تنجح شخصية الرواية بالقيام به بجدارة. "هي إمرأة تستطيع ان تصنع حياتها التي تشتهي وتتمنى، فلديها محركات قيادة ذاتية لاتنتظر الصدف لأن تسيرها، تؤمن بقلبها وعقلها أن ماسيأتي حتماً أفضل، لذا سخرت نفسها لذلك"(ص177). يتميز السرد في (فلك الغواية) بالاقتصاد والتركيز، فقد تجنبت الروائية الخوض في التفاصيل الجانبية للشخصيات والأحداث. فلايكشف السرد كيف بدأت قصة الحب التي ربطت بين البطلة والطرف الآخر، وبدلاً من ذلك يضعنا في خضم هذه العلاقة العاطفية العاصفة بدون مقدمات. ولاتظهر ملامح شخصية الطرف الآخر واضحة ولاتفصيلات حياتية تخصه بعيداً عن تلك العلاقة. كما تظل النهاية ضبابية ومفتوحة على عدة احتمالات تترك للقاريء لتجميع خيوطها ورسم الصورة النهائية للحدث الروائي. وهذا التكثيف والتركيز جعل لغة السرد أقرب إلى اللغة الشعرية بدلالاتها الرمزية واستعاراتها وجمالياتها الخاصة. كما ضمنت الروائية المتن السردي مقاطع شعرية صريحة طغى عليها النفس الصوفي والرمزي العالي تم توظيفها فنياً للكشف عن العوالم الداخلية الخاصة بالبطلة وخيالاتها المتفردة. ساعد ذلك الرواية على التخلص من الاستطرادات والتركيز على الحدث المركزي وعلى ذات البطلة. جاء الخطاب السردي في الرواية أقرب إلى جماليات رواية الحداثة الجديدة، والتي تتجاوز التقنيات السردية والتضمينات الفكرية لرواية ما بعد الحداثة. حيث نجد الاهتمام بالشكل والنظام والترتيب بدلا من اللانظام والفوضى والتشويش على عمليات التلقي والاستقبال والتي غالبا ما كان يتم توظيفها في أدب ما بعد الحداثة. كما حقق الخطاب السردي الشمولية والتكامل والوحدة والغلق من خلال خلق إطارات فنية لتأطير الحدود الفاصلة بين عالم النص والعالم الخارجي. وظهر الاهتمام بالترابط المنطقي للأحداث في القصة وبناء الحبكة، رغم توظيف تقانات القطع والانتقالات المفاجئة في الزمان والمكان. فالتحول المشهدي السريع كثيراً ما يفاجئ القاريء ويخلخل تسلسل الحدث السردي، ولكنه لايصل إلى حد التشويش والفوضى التي نجدها في تقانات السرد الما بعد حداثية. فقد رصد النقاد ظاهرة استخدام روايات الحداثة الجديدة لبعض تقانات وأساليب السرد في الرواية الما بعد حداثية، ولكن توظيفها النهائي يكون لغايات مغايرة كلياً. فرواية (فلك الغواية) تبتعد عن تضمنيات ما بعد الحداثة الجمالية والثقافية لتقترب اكثر من المزاج الجمالي والثقافي للحداثة الجديدة. وظهرت الشخصيات بوصفها ذواتاً تجريبية رمزية وليست مجرد كائنات ورقية، على حد وصف الناقد الفرنسي رولان بارت. ومن خلال تلك الشخصيات الرمزية خلقت الروائية آن الصافي نوعاً التعاطف والتواصل بين القارئ والشخصية المتخيلة وما تتعرض له من أزمات أو تتخذه من مواقف. وتحولت شخصية الروائية التي تقوم برواية الحدث الكلي إلى إحدى شخصيات الخطاب الروائي، حيث تقوم بالتعليق على الأحداث وفتح قنوات للحوار مع القاريء بشكل مباشر، كما تعبر عن أفكارها الخاصة ومواقفها ومشاعرها تجاه الشخوص الروائية في متن الرواية. تتعامل الروائية المتخيلة مع الشخصية الرئيسة في الرواية بوصفها ذاتاً افتراضية بديلة تضعها في تجارب ومواقف متنوعة ومتداخلة وتدفعها إلى أقصى مديات التحمل الإنساني لتختبر قدرة هذه الذات على التماسك وتحقيق حالة السمو المتعالي والسلام الدخلي. ولعل هذه هي الحالة التي شرحها الناقد إيشلمان في ما أطلق عليه بالشخصية الأدائية. تؤشر رواية (فلك الغواية) ظهور تجربة سردية ملفته وتعلن عن ولادة روائية تتمتع برؤية فنية خاصة وحساسية جمالية متميزة. أنها عمل سردي يكشف عن وعي فني متقدم ورؤية فكرية متكاملة بوصفها محصلة للنموذج الثقافي المعاصر، والذي يمكننا أن نطلق عليه مصطلح الحداثة الجديدة. أنها ذلك النوع من الاعمال الروائية الذي من الممكن أن يشكل انعطافة نحو نمط جديد من الكتابة الروائية يقترب بالرواية العربية من مناخات التحولات الجمالية في الرواية العالمية المعاصرة.
#معن_الطائي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مثالية الفعل التواصلي عند هابرماس وواقعية النموذج التفاوضي
-
مغالطة الحتمية التأريخية في الفكر الماركسي
-
الوطن... كذبة قصة قصيرة
-
المرويات الكبرى وجماليات تزييف الواقع في الثقافة الكولونيالي
...
-
في اشكاليةالخطاب النقدي العربي المعاصر
-
ميشيل فوكو بين التاريخية الجديدة والمادية الثقافية
المزيد.....
-
ميركل: بوتين يجيد اللغة الألمانية أكثر مما أجيد أنا الروسية
...
-
حفل توقيع جماعي لكتاب بصريين
-
عبجي : ألبوم -كارنيه دي فوياج- رحلة موسيقية مستوحاة من أسفار
...
-
قصص البطولة والمقاومة: شعراء ومحاربون من برقة في مواجهة الاح
...
-
الخبز في كشمير.. إرث طهوي يُعيد صياغة هوية منطقة متنازع عليه
...
-
تعرف على مصطلحات السينما المختلفة في -مراجعات ريتا-
-
مكتبة متنقلة تجوب شوارع الموصل العراقية للتشجيع على القراءة
...
-
دونيتسك تحتضن مسابقة -جمال دونباس-2024- (صور)
-
وفاة الروائية البريطانية باربرا تايلور برادفورد عن 91 عاما
-
وفاة صاحبة إحدى أشهر الصور في تاريخ الحرب العالمية الثانية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|