أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - شخصيات فى حياتى : الأستاذ المنيلاوى















المزيد.....

شخصيات فى حياتى : الأستاذ المنيلاوى


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 4501 - 2014 / 7 / 3 - 13:24
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


فى أواخر الأربعينات من القرن العشرين ، كنتُ أخرج مع أبى (خصوصًا فى شهور إجازات المدارس) وأدفع معه عربة العيش ونتوجّه إلى ميدان العباسية لتوزيع العيش على الزبائن . وكانت تلك الظاهرة مُـنتشرة فى ذاك الوقت واستمرّتْ حتى منتصف الستينات (تقريبًا)
فى يوم من الأيام وصف لى أبى شقة فى بيت فى حارة من حارات ميدان العباسية. وقال لى إنْ صاحب الشقة اسمه الأستاذ المنيلاوى . دققتُ بأصابعى على باب الشقة. فتح الباب صبى عمره يقترب من عمرى (حوالىْ ثمانية أعوام) سألنى ((عاوز إيه؟)) قلتُ ((مش دى شقة الأستاذ المنيلاوى ؟ إنتو عاوزين عيش ؟)) ترك باب الشقة مفتوحًا وجرى وهو يقول بصوت مرتفع ((بابا .. ابن بتاع العيش علا الباب))
فى هذا اليوم – المحفور بداخلى – سمعتُ لأول مرة كلمات ((سَنْ.. مَـدْ .. واحد.. اتنين)) والكلمات تخرج من صندوق خشبى كبير، عرفتُ فيما بعد أنه (راديو) جاء والد الطفل يرتدى (شورت) وحذاء كاويتش ، وهو يُحرّك ذراعيه ناحية اليمين مرة ثم ناحية الشمال مرة. خشيتُ أنْ أكون قد أخطأتُ العنوان . سألته وأنا فى غاية الخجل ((مش دى شقة الأستاذ المنيلاوى؟)) توقف الرجل عن تحريك ذراعيه وابتسم وقال ((إنتَ طلعت ابن بتاع العيش.. مش كدا؟)) قلت ((أيوا)) سألنى ((بتروح المدرسه؟)) قلت ((أيوا)) سألنى ((مدرسة إيه؟)) قلت ((مدرسة طلعت حرب)) أخذ العيش وطلب منى أنْ أنتظر. ثم سمعته وهو يغيب فى جوف الشقه يقول ((تعالى يا بلبل عشان تتعرفى علا طلعت ابن بتاع العيش)) بعد فترة قصيرة جاء ومعه كراسة وقلم وأستيكة. وقال لى ((دول عشانك)) ثم جاءتْ زوجته ومعها قطع حلويات عرفتُ فيما بعد أنها (كيكة) شعرتُ بالخجل ورفضتُ تناولها فقال لها الأستاذ المنيلاوى ((لفيهم فى ورقه يا بلبل عشان أبوه وأخته))
فرح أبى وأختى بقطع الكيك . وقال أبى ((الأستاذ المنيلاوى ومراته مدام بلبل ناس طيبين)) سألت أبى (( هوّ فيه واحده ست يبقا اسمها بلبل ؟)) ضحك أبى وقال ((هىّ اسمها نبيله.. لاكن جوزها الأستاذ المنيلاوى بيحب يدلعها وعشان كدا بيقول لها يا بلبل .. دا حتا الجيران بيقولولها يا بلبل))
الاسم الغريب (بلبل) وصوت الراديو، وحكاية سَنْ.. مَـدْ.. واحد اتنين.. والكراسة والقلم والأستيكة.. وقطع الكيك.. جعلوا هذا اليوم ينحفر داخل عقلى ووجدانى ، وكلما تذكرته أشعر أننى عشته منذ يوم أو يوميْن رغم مرور أكثر من 60سنة. وربما ضاعف من أهمية هذا اليوم ، عندما سمعتُ الأستاذ المنيلاوى يُنادى على زوجته قائلا ((تعالى يا بلبل)) فلما جاءتْ وجدتـُها ضئيلة الجسد ، أقرب إلى فتاة صغيرة ، بالكاد تعدّتْ العشرين ، ثم علمتُ أنها أم لطفليْن . وشدّنى إليها حلاوة وجهها (بدون أية مساحيق تجميل) والبراءة المُـشعة من عينيها وشعرها الأسود اللامع المفرود وراء ظهرها.
وبعد أنْ تكرّر ترددى على شقة الأستاذ المنيلاوى ، كان اليوم الأول يزداد رسوخـًا داخلى ، خاصة بعد أنْ سمعتُ مدام بلبل تـُنادى على ابنها (الذى من سنى) قائلة ((تعال يا رمسيس)) وتـُنادى على ابنتها (وهى أصغر من رمسيس بحوالىْ أربع سنين) قائلة ((تعالى يا ميريت)) كنتُ أسمع هذيْن الاسميْن (رمسيس وميريت) لأول مرة فى حياتى ، فكانت (الدهشة) المعجونة ببراءة الطفولة. سألتُ صديقى الكبير (ثابت الأسيوطى) عن معنى الاسميْن ، فشرح لى معناهما ولكننى تعرّفتُ على أصل الاسميْن بعد أنْ كبرتُ وقرأتُ فى علم المصريات.
وعندما تكرّرتْ رؤيتى للأستاذ الميلاوى وهو يلعب التمارين الرياضية داخل الشقة ، ظنّ عقلى الطفولى أنه (مدرس ألعاب رياضية) ولكن خاب ظنى ، إذْ سألته بعد أنْ كان يُشجّعنى على الكلام – ((هوّ حضرتك مدرس ألعاب رياضية ؟)) فكانت المفاجأة عندما قال ((لأ. أنا مدرس فلسفة)) يومها وقفتْ كلمة (فلسفة) فى عقلى مثل طعام عسير الهضم ، تشجّعتُ وسألته ((يعنى إيه فلسفة؟)) مازلتُ أتذكر جيدًا ردّه . قال ((الفلسفه اللى إنت عملته دلوقتى)) دقّ قلبى من الخوف ، خشيتُ أنْ أكون (عملتْ حاجه غلط)) ويبدو أنّ الأستاذ المنيلاوى لاحظ توترى فقال ((إنت سألتْ يعنى إيه فلسفة.. مش كدا ؟ الفلسفة يعنى إنك تسأل.. وكل ما تسأل أكتر.. كل ما تعرف أكتر)) وبعد مرور السنين.. وبعد أنْ تنوّعتْ قراءاتى ، عرفتُ أنه لخـّـص لى تعريف الفلسفة فى كلمات بسيطة. وعرفتُ أنّ الفلسفة تعنى حب المعرفة. وأنّ (الأسئلة) هى المدخل لحب المعرفة. وأنّ (الأطفال) فلاسفة بالفطرة ، لأنهم يسألون عن كل شىء وعن أى شىء.
وعندما حكيتُ لصديقى الكبير (ثابت الأسيوطى) عن الأستاذ المنيلاوى ، وعن أحاديثه معى وعن هداياه وعن مدام بلبل ، قال لى ((الأستاذ المنيلاوى وأسرته بيحبوك.. وخللى علاقتك بيهم علا طول ما تقطعهاش)) ولما حكيتْ للأستاذ المنيلاوى إنْ أنا أعرف واحد اسمه ثابت الأسيوطى وعنده كتب كثيرة وأنه يحكى لى بعض القصص ، قال لى ((ثابت الأسيوطى بيحبك. وخللى علاقتك بيه علا طول ما تنقطعش)) اندهشتُ من الكلام الذى لم يتغير فيه إلاّ الأسماء ، مرة على لسان الأستاذ المنيلاوى ، ومرة على لسان ثابت الأسيوطى . وظلــّتْ تلك الدهشة كما اللغز الذى ليس له تفسير، إلى أنْ كان يوم طلب منى ثابت الأسيوطى أنْ أحمل رسالة منه إلى الأستاذ المنيلاوى ، كما ضغط علىّ – أكثر من مرة – ليتأكد أننى لن أفتح الرسالة ولن أخبر أى شخص – حتى أبى – بهذا السر. بدأ اللغز يتفتح بالتدريج – خاصة بعد أنْ كبرتُ – فعلمتُ أنّ ثابت الأسيوطى والأستاذ الميلاوى ومدام بلبل أعضاء فى (المقاومة الشعبية ضد الإنجليز)
تأكدتْ معلوماتى عن علاقة ثابت الأسيوطى والأستاذ المنيلاوى ، بعد أنْ تكرّرتْ الرسائل المُتبادلة بينهما ، وكنتُ أنا (ساعى البريد) والرسول بين الصديقيْن . وبعد أنْ تعديتُ سن العشرين ، وتعمّـقتْ علاقتى بصديقى رمسيس ابن الأستاذ المنيلاوى ، عرفتُ من رمسيس أنّ ثابت الأسيوطى كثيرًا ما كان يزورهم فى منزلهم ، هو وبعض أعضاء المقاومة الشعبية.
وبعد استيلاء الضباط على حكم مصر فى يوليو1952 تمّ القبض على الأستاذ المنيلاوى وزوجته السيدة نبيلة (مدام بلبل أو بلبل فقط كما كان زوجها يُحب مخاطبتها به) ومعهما أغلب أعضاء (المقاومة الشعبية) الذين كانوا يُحاربون الإنجليز فى مدن القنال . وهو نفس المصير الذى تعرّض له صديقى الكبير (ثابت الأسيوطى) وكما تم اعتقال ثابت الأسيوطى فى أكبر حملة اعتقالات ضد الشيوعيين فى فجر يوم من شهر طوبة / ديسمبر1959، حدث نفس الشيىء مع الأستاذ المنيلاوى وزوجته السيدة نبيلة (وأنا أحب دائمًا أذكرها ب مدام بلبل) وبعد هذا اليوم تعمّقتْ علاقتى أكثر بابنهما رمسيس وبأخته ميريت.
ظللتُ على اعتقاد خاطىء لعدة سنوات أنّ الأستاذ المنيلاوى ومدام بلبل مسيحيان ، وكان سبب هذا الاعتقاد الخاطىء ، هو اسم (رمسيس) واسم (ميريت) ثم كانت المفاجأة – فى مناسبة عفوية تمامًا – عندما علمتُ أنّ الاسم الكامل لصديقى رمسيس هو (رمسيس محمد المنيلاوى)
وكما ابتلعتْ دوامة الحياة صديقى الكبير (ثابت الأسيوطى) وهرسته مفرمة الزمن ، كذلك كان مصير الأستاذ المنيلاوى ومدام بلبل ، فبعد اعتقالهما مع بداية أول يوم من أيام شهر يناير 1960 ، لم أعرف ماذا حدث لهما : هل خرجا من المعتقل ؟ وهل خرجا سالميْن أم مصابيْن بالكثير من الأمراض النفسية والعضوية ، كما حدث لكثيرين بعد خروجهما ؟ أم تمّ تصفيتهما جسديًا داخل معتقلات عبد الناصر، كما حدث لكثيرين أيضًا ؟ أسئلة مُـعلقة لا جواب عنها عندى. ويُضاعف من ألمى أنّ علاقتى برمسيس وأخته ميريت انقطعتْ بعد دخولى الجيش ، ولما سألتُ عنهما فى المنزل الذى دخلته وأنا طفل لأبيع فيه العيش للأستاذ المنيلاوى ، علمتُ من الجيران أنّ رمسيس وأخته ميريت تركا الشقة ، وجاء أقارب لهما وأخذوهما وأخذوا (عفش) البيت ليعيشا فى المنيا ، حيث الجد والجدة والأخوال والأعمام ، وبذلك انقطعتْ أخبارهما عنى تمامًا ، وفشلتْ كل محاولاتى لمعرفة عنوانهما فى المنيا.
***



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شخصيات فى حياتى : ثابت الأسيوطى
- العلاقة بين العروبة والبعث
- الصراع بين الوحدة الإسلامية والوحدة العربية
- الإعدام = رصاصة الرحمة
- عودة الروح وعودة الوعى
- مغزى مكافأة أحد كبار الأصوليين
- كوميديا / سوداوية / عبثية / واقعية (2)
- كوميديا / سوداوية / عبثية / واقعية
- الحقوق الإنسانية والإسلام (3)
- الإسلام وحقوق الإنسان (2)
- الإسلام وحقوق الإنسان (1)
- التعصب العرقى والدونية القومية
- الشعر والثقافة العربية / الإسلامية
- عبد الوهاب المسيرى والمدرسة الناصرية / العروبية
- المعيار العلمى للهوية الثقافية
- حدود العلاقة بين التراث والإبداع
- الدين والحياة
- الديانة العبرية ومعتقدات الشعوب القديمة
- الديانة العبرية وأساطير بعض الشعوب (3)
- الديانة العبرية وأساطير الشعوب القديمة (2)


المزيد.....




- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - شخصيات فى حياتى : الأستاذ المنيلاوى