|
شخصيات فى حياتى : ثابت الأسيوطى
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 4500 - 2014 / 7 / 2 - 22:42
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
شخصيات فى حياتى : ثابت الأسيوطى طلعت رضوان بعد أنْ تعديتُ سن العشرين ، كنتُ كلما تذكرتُ (ثابت الأسيوطى) أصفه لنفسى بأنه (صديقى الكبير) لأننى كلما رجعتُ إلى البداية ، أندهش من تلك العلاقة العميقة التى ربطتنى به، فأنا كنتُ فى حوالىْ الثامنة من عمرى ، بينما هو (كما عرفتُ فيما بعد) يقترب من الثلاثين. البداية كانت فى أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن العشرين . ثابت الأسيوطى ميكانيكى مُـتخصّص فى إصلاح أعطال الأفران ، وكانت مهنته نادرة فى ذاك الوقت ، لذلك كان أصحاب الأفران يطلبونه باستمرار، ولكنه ارتبط بفرن عمى الحاج متولى رضوان بحى الوايلية الصغرى التابع للعباسية. وكان ثابت ينام فى الفرن ، وعندما يسأله الفرانون والعجانون عن أهله يضحك ويقول لهم ((أنا مقطوع من شجره)) ورأيته وهو يخدم أهالى الحارة : يُصلح لهم بوابير الجاز، أو أعطال الحنفيات ، وكان عدد قليل منهم أدخل الكهرباء ، فكان يتولى إصلاح الأعطال ، وكل ذلك كان بلا مقابل. ورغم الإلحاح أصرّ على موقفه ورفض أنْ يحصل على أى نقود مقابل خدماته لهم . ولكننى أتذكر أنّ أهل الحارة – ومن بينهم أسرتى – أحبوه أكثر عندما كان يتوارى عن الأنظار ليأكل شيئــًا فى شهر رمضان ، كما أنه كان يصوم بعض الأيام ، لذلك كانت كل الأسر تتسابق لتفوز بقبوله دعوته للإفطار معهم بعد أذان المغرب . الشىء المُـدهش فى شخصية ثابت أنه كان يَحرِمْ نفسه من تناول الطعام فى شهر رمضان ، رغم علمه أنّ أغلب الفرانين والعجانين لا يصومون ، ليس ذلك فقط وإنما يأكلون ويشربون جهارًا مثلما يفعلون فى باقى شهور السنة. والأهم – وهو ما أذكره جيدًا – أنّ أهالى الحارة (من الصائمين) يتعاملون مع الظاهرة بشكل طبيعى جدًا ، كأنّ عدم الصيام حق من حقوقهم ، ومع ملاحظة أنّ أغلبهم من الأميين ولم يقرأوا أى شىء عن (حقوق الإنسان) كما أننى سمعتُ – وهذا محفور فى وجدانى – نقدًا من الصائمين للمُـفطرين ، ولكنه نقد معجون بروح الثقافة القومية لشعبنا ولا علاقة له بالدين ، فسمعتُ هذا التعبير الذى تكرّر كثيرًا ((مش عيب عليك تبقا زى الشحط وفاطر؟!)) أى أنّ (النقد) تناول الموضوع من ناحية الحالة الصحية للشخص ، خاصة أنّ كلمة (شحط) فى الوجدان المصرى تعنى (الصحة الجيدة) وهكذا كان هذا التشبيه أبلغ من اللوم أو التأنيب المؤسس على مرجعية دينية. كان ثابت الأسيوطى يعلم بكل هذا ، وكان يرى عمال الفرن فى المقهى وهم يشربون الشاى ويُدخنون الجوزة فى شهر رمضان ، والمقهى أمامه مسجد ، ولا أحد يُعاتبهم وكأنهم يُمارسون حياتهم الطبيعية فى باقى شهور السنة. فلماذا اختلف ثابت عنهم وكان يُصر إما على التوارى التام ليأكل أو يشرب ، أو يمتنع تمامًا ويصوم مثلهم ؟ سؤال شغلنى لعدة سنوات كلما تذكرتُ شخصية ثابت. فهل لأنه غير مسلم كان يُبالغ فى (مراعاة شعور المسلمين الصائمين) ؟ أم انطلاقــًا من مبادىء إنسانية عامة لا علاقة لها بديانته المسيحية ؟ وكلما تقدّم بى العمر، كلما انحاز عقلى للسبب الثانى. المبادىء الإنسانية - وليس الدين – هى المفتاح لفهم شخصية ثابت الأسيوطى ، فهو الذى كان يُحرّض عمال الفرن على تكوين (نقابة للفرانين) وعندما علم عمى الحاج متولى بذلك تشاجر معه وسبّه وأهانه ، فما كان من ثابت إلاّ أنْ جمع ملابسه وكتبه ليُغادر الفرن والحارة كلها ، لولا عم حسنين الخراط الذى هدّد عمى بأنه إذا ترك ثابت الفرن سيفعل مثله. وكان عمى لا يستطيع الاستغناء عن عم حسنين الخراط ، فتراجع وطيّب خاطر ثابت بكلمتيْن ولكن (ثابت) أصرّ على موقفه ، وقال له لابد للعمال من عمل نقابة لهم ، كما طلب من عمى الموافقة على تسجيل العمال فى مكتب التأمينات حتى يكون لهم معاش بعد بلوغ سن الستين أو الوفاة . صحيح أنّ عمى الحاج لم يفعل ، وصحيح أيضًا أنّ (ثابت) لم يستسلم وظلّ يلح عليه. والمفارقة أنّ الصراع بين ثابت وعمى كان فى وادٍ وعمال الفرن كانوا فى وادٍ آخر، بل كانوا يضحكون ويتندرون ، باستثناء عم حسنين الخراط الذى كان مؤيدًا لكل ما يقوله ثابت . ومن مبادىء ثابت الإنسانية ، تبرعه بكل ما يملك من نقود لزوجة (وكيل الفرن) أو زوجة خراط المعجن عندما يتم حبس أحدهما فى قضية من قضايا التموين . وكان يتولى بنفسه جمع النقود من باقى العمال الذين كانوا يدفعون عن طيب خاطر. وكانت النقود تــُرسل للزوجة على أنها مبالغ (مـُستحقة لزوجها) وليست صدقة من أحد . وهكذا فى باقى الأمثلة ، مثل حالات المرض أو الأفراح والأحزان ، كان ثابت لا يتأخر عن تقديم (الواجب) وفق العرف السائد فى الحارة وفى كل المجتمع آنذاك . أما عن الجانب الشخصى بعلاقتى بثابت ، فأنا أذكر أنه ضغط على أبى (بعد حصولى على شهادة الإبتدائية) كى أواصل التعليم وبالتالى دخلتُ فى مرحلة الإعدادية ، لأنّ أبى كان يرغب فى أنْ أتفرغ للعمل معه فى توزيع العيش على البيوت . وأذكر أنّ أبى ردّ على ثابت وقال له بأسلوبه الساخر الساحر ((آه منك يا ثابت.. لولا إنى بحبك للاه فى اللاه.. ما كنتش سمعت كلامك اللى ح يوقف حالى)) ودخلتْ الإعداديه بفضل ثابت الأسيوطى .. وقبل دخول المدارس أخذنى ثابت وذهبنا إلى ميدان العتبة واشترى لى أول بنطلون طويل فى حياتى وقميص وحذاء. ولكن ما شدّنى أكثر فى شخصية ثابت الأسيوطى ما رأيته فى فجر أحد الأيام ، وأنا أدفع عربة العيش مع أبى ، وقبل أنْ نـُغادر الحارة رأينا شبحًا مُـلثمًا والدماء تنزف من وجهه. رفع أبى قطعة القماش من على وجه الشبح ، فأخذه فى حضنه وهو يصرخ ((إيه يا ثابت ؟ إيه اللى جرا لك؟ ومين اللى عورك؟)) رفض ثابت الكلام.. ولكن بعد أنْ تجمّع عمال الفرن وأصحاب عربات العيش حوله وإصرارهم على أنْ يعرفوا سبب الدم النازف من وجهه وجسده قال لهم أنه ومجموعة من الفدائيين شنوا حملة ضد معسكر للإنجليز فى العباسية. عندما علم عمى الحاج (صاحب الفرن) بالخبر، طلب من ثابت أنْ يُغادر الفرن والحارة ، ولكن عم حسنين الخراط وعمى بدر الذى يتولى تحصيل النقود من المحلات والمطاعم (وهو شقيق أبى وشقيق عمى الحاج متولى) وكذلك كل عمال الفرن هدّددوا عمى الحاج متولى بأنهم لن يعملوا فى الفرن لو أنّ ثابت هجرهم ، فقال لهم عمى الحاج متولى ((الإنجليـــــز مـــــــش ح يسكتو.. خصوص ن أنا سمعت إنهم بيقبضو علا الشيوعيين.. وإنتم طبع ن عارفين إنْ ثابت شيوعى)) العمال ضجوا من الضحك وسخروا من كلامه (غير المفهوم) عن جماعة اسمهم (شيوعيين) وسألوه عن معنى الاسم.. ويبدو أنّ عمى الحاج أدرك – بذكائه الفطرى – أنّ سخريتهم جادة وأنّ تهديدهم بترك العمل عفوى ولا تكلف فيه ، فظهر عليه بداية الاستسلام ، ولكنه أخرج آخر أسلحته فقال لهم ((طيب لو البوليس جه وفتش الفرن وقبضو علا ثابـــــت ؟ ح نعمل إيه ؟)) ضحكوا وقالوا ((سيب الموضوع دا علينا.. إحنا نعرف نخبيه كويس)) امتدتْ علاقتى بثابت حتى أوائل الستينات ، وعندما ذكــّرته بهذا اليوم ، حكى لى أنه كان بعد أنْ ألغى مصطفى باشا النحاس معاهدة 1936فى يوم 8 أكتوبر51، وبعد أنْ فتح فؤاد باشا سراج الدين (وكان وقتها يشغل وظيفة وزير الداخلية فى حكومة حزب الوفد) مخازن السلاح ، وشجّع الفدائيين للعمل الفدائى فى مدن القنال ضد الإنجليز. بعدها سافر ثابت إلى الإسماعيلية ، ولم أره إلاّ بعد يوليو1952 عندما استولى الضباط على حكم مصر. فى يوليو 52 كان عمرى عشر سنوات ، وأتذكر أنّ أبى وأهالى الحارة وعمال الفرن كانوا يقولون أنّ الضباط طردوا الملك فاروق ، وسوف يُخلصوننا من الإنجليز، ولكن بعد أنْ تمّ القبض على ثابت الأسيوطى واعتقاله هو ومن كانوا معه من الفدائيين ، كانت مشاعرى تتأرجح بين اعجابى بالضباط الذين طردوا الملك ، وبين غياب (صديقى الكبير) ثابت الأسيوطى . ثمّ تحول هذا التأرجح فى المشاعر إلى سؤال عندما سمعتُ عم حسنين الخراط وهو يقول لأبى ((إزاى يكون الظباط ضد الإنجليز.. ويقبضو علا الفدائيين اللى كانو بيحاربو الإنجليز؟!)) وهذا السؤال ظلّ يكبر كلما تقدّم بى العمر، خصوصًا أنّ (ثابت) كان يخرج من المعتقل ويمكث بيننا عدة شهور ليعود إلى المعتقل من جديد . وفى ليلة من ليالى شهر طوبة / ديسمبر 1959 اقتحم ضباط المباحث فرن عمى الحاج وقبضوا على ثابت ، ضمن أكبر حملة اعتقالات ضد الشيوعيين الذين لم يُفرج عنهم إلاّ فى عام 1964. انقطعتْ أخبار صديقى الكبير ثابت ، ولم أعرف – حتى هذه اللحظة (فى عام 2014) وأنا أكتب عنه - ماذا حدث له. هل مات من التعذيب كما مات غيره من الشيوعيين الذين قرأتُ أسماءهم فى كتب الشيوعيين الذين أرّخوا أو كتبوا مذكراتهم عن تلك الفترة البائسة من تاريخ مصر، مثل فخرى لبيب وفتحى عبد الفتاح وفوزى حبشى وآخرين ؟ وهل يُعقل أنْ يكون قد خرج من المعتقل ضمن الدفعة الأخيرة عام 64 دون أنْ يتوجه إلى الحارة التى ارتبط بها وجدانيًا ؟ هل ذهب إلى بلدته التى وُلد فيها (أسيوط) ليقضى بقية حياته بعد أنْ أهلكته السياسة ومرارة خيانة كثيرين من (الرفاق) ؟ ولكن لمن يتوجّه فى أسيوط وهو- كما قال – ((مقطوع من شجرة)) ؟ كلها أسئلة معلقة لا جواب عنها عندى . رفض أبى استمرارى فى التعليم بعد حصولى على شهادة الإعدادية ، فعملتُ فى أكثر من مهنة. وفى عام 1962 تمّ تجنيدى بالقوات المسلحة ، وخرجتُ عام 65. فى هذه المرحلة من عمرى – وقد تعديتُ سن العشرين – كنت أشترى صحيفة الأهرام والمجلات الثقافية التى كانت تصدر، مثل مجلة المسرح ومجلة الفكر المعاصر الخ وبعض الكتب الشهرية مثل سلسلة (أعلام العرب) وسلسلة (المسرح العالمى) ثم كان اليوم الذى أعتبره من أيامى السعيدة ، عندما أعطانى عم حسنين الخراط كرتونة بها بعض الكتب وقال لى ((الكتب دى بتاعة عمك ثابت الأسيوطى.. وقال لى لو أنا ما خرجتش من المعتقل سلمها لطلعت وقل له دى هديه من صاحبك ثابت)) بعض هذه الكتب روايات وبعضها مسرحيات عالمية ومصرية. وبعضها كتب فكرية مثل كتاب (تحت شمس الفكر) للأديب توفيق الحكيم . وكانت كرتونة الكتب تلك (النواة) الأولى لمكتبتى ، وكلما رأيتـُها كلما تذكرتُ صديقى الكبير ثابت الأسيوطى . ***
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلاقة بين العروبة والبعث
-
الصراع بين الوحدة الإسلامية والوحدة العربية
-
الإعدام = رصاصة الرحمة
-
عودة الروح وعودة الوعى
-
مغزى مكافأة أحد كبار الأصوليين
-
كوميديا / سوداوية / عبثية / واقعية (2)
-
كوميديا / سوداوية / عبثية / واقعية
-
الحقوق الإنسانية والإسلام (3)
-
الإسلام وحقوق الإنسان (2)
-
الإسلام وحقوق الإنسان (1)
-
التعصب العرقى والدونية القومية
-
الشعر والثقافة العربية / الإسلامية
-
عبد الوهاب المسيرى والمدرسة الناصرية / العروبية
-
المعيار العلمى للهوية الثقافية
-
حدود العلاقة بين التراث والإبداع
-
الدين والحياة
-
الديانة العبرية ومعتقدات الشعوب القديمة
-
الديانة العبرية وأساطير بعض الشعوب (3)
-
الديانة العبرية وأساطير الشعوب القديمة (2)
-
حق الأقليات الثقافية فى الدفاع عن خصوصياتها
المزيد.....
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|