|
النخبة السياسية في العراق – الهوية المفقودة
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1272 - 2005 / 7 / 31 - 09:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن إشكالية النخبة السياسية هي أولا وقبل كل شيء إشكالية السلطة والمجتمع، ومن ثم فهي إشكالية التقاليد السياسية بشكل عام والثقافة السياسية بشكل خاص. وفوق كل ذلك أنها إشكالية قائمة بحد ذاتها. وليس اعتباطا أن تظهر الفكرة القائلة بالقانون الحديدي للنخبة، أي الفكرة القائلة، بان الجوهري في التاريخ السياسي أو الأكثر ثباتا هو بقاء النخبة بوصفها الصيغة المجردة لعلاقة الخواص بالعوام، والسلطة بالمجتمع، بغض النظر عن تغير الأشخاص والأحزاب والقوى السياسية والحزبية. وهي فكرة لها أسسها الفعلية في تاريخ الدولة كما هي (المجردة) وتواريخ الأمم في تنوع معاناتها من اجل تأسيس الصيغة المعقولة والأكثر إنسانية لتنظيم شئونها الذاتية. غير أن فكرة "القانون الحديدي" لا تعبر في الواقع إلا عن الصيغة الشكلية الملازمة لبقاء النخبة ضمن نفسية وتقاليد الانعزال الفئوي، أي نفسية الاستحواذ والتملك الضيقة. وهي ظاهرة تعبر أولا وقبل كل شيء عن ضعف العلاقات الاجتماعية وانحطاط الثقافة السياسية. بمعنى ضعف الصيغة النظرية والعملية لتنظيم العلاقة الضرورية بين السياسة والاجتماع، أو اندراج الأبعاد الاجتماعية في الرؤية والممارسة السياسية باعتبارها وسيلة وغاية السياسة بوصفها علما. إن بقاء النخبة السياسية هو ضرورة سياسية ودولتية وإدارية. إلا أن بقاء الهوة العميقة بينها وبين المجتمع فهو دليل على بقاء الهوة الفاصلة بين السياسة والاجتماع، بين السياسي والمجتمع، بين السياسة والمكر العملي، أي بين السياسة بوصفها علما وبينها بوصفها دجلا. طبعا أن الحياة السياسية للأمم لا تخلو من مستويات معينة من تداخل هذه المكونات والحالات، وذلك لاستحال بلوغ الصيغة النموذجية المطلقة في هذا الميدان. وذلك لأنها جزء من صيرورة أبدية وصراع اجتماعي هو سر ومغزى التقدم والارتقاء، ومن ثم الحياة كما هي بوصفها ولادة وموت مستمرين. وهو الأمر الذي يجعل من قضية النخبة السياسية من حيث الجوهر قضية اجتماعية وسياسية ملموسة على الدوام بوصفها الصيغة العملية لإشكالية السلطة والمجتمع، وإشكالية التقاليد السياسية بشكل عام والثقافة السياسية بشكل خاص. إن التشكل التاريخي للعراق الحديث لم يكن نتاجا لتطور الذاتي. فقد أنهكت السيطرة التركية العثمانية كل ما فيه مستكملة بذلك تاريخ الانحطاط الطويل الذي استتبع سقوط بغداد والخلافة العباسية منذ القرن الثالث عشر. كما انه لم يمر بمرحلة "عصر النهضة" العربية، أو على الأقل أنها لم تتكامل في مشاريع سياسية وحركات فكرية واضحة المعالم وتيارات اجتماعية قادرة على وضع الأسس المادية والروحية للنخب بشكل عام والسياسية منها بشكل خاص. وليس مصادفة أن تكون "القيادة التاريخية" الحديثة من خارجه. بمعنى "دعوة" أو "استيراد" أو "تعيين" نخبا عليه من غير قواه الاجتماعية المباشرة، كما تجسدت بصورة نموذجية بعد أحداث العشرين في العراق وتشكل النظام الملكي. وهي عملية لا تشبه في شيء صيغتها التاريخية الأولى في مرحلة الخلافة. فقد استطاع العراق آنذاك أن يتحول إلى قطب الصراع التاريخي للصيرورة العربية الإسلامية ومن ثم إلى مركز وبؤرة تشكلها السياسي والفكري والروحي. وهو الأمر الذي يفسر ظهور هذا الكم الهائل، بل كل الكم الهائل من المدارس والتيارات الفكرية والسياسية، ومن ثم نخبه (الخواص) في مختلف الميادين. في حين جاء تشكل الدولة الحديثة قبل نشوء المدارس الفكرية والتيارات السياسية والحركات الاجتماعية. من هنا ضعفها التاريخي. كما انه السبب الذي حدد بما في كل مجرى تاريخه المعاصر، بما في ذلك في حالته الراهنة، صعود الهامشية الاجتماعية والسياسية والثقافية إلى هرم السلطة. وهي هامشية متنوعة المظاهر والأشكال إلا أنها تشترك في كونها ممثلة للأطراف والأقليات. وهي ظاهرة يمكن تلمسها بما في ذلك الآن في كمية ونوعية القيادات أو النخبة السياسية المؤثرة في تاريخه السياسي الماضي والحاضر. إذ أننا نعثر عليها في الحركات والأحزاب السياسية القومية والشيوعية والإسلامية، أي في التيارات السياسية الكبرى التي أثرت وما تزال تؤثر في مجرى حياته السياسية. إننا نعثر عليها في سيادة الأطراف والهامشية العربية في الحركات القومية العربية، وتضخم دور النخب العرقية في الحركات القومية الكردية إضافة إلى حجمها الاصطناعي المضخم في كافة ميادين الحياة مرات عديدة أكثر من حجمها الحقيقي، والشيء نفسه يمكن قوله عن الحركة الشيوعية العراقية التي ترأست الأقليات القومية والدينية اغلب تاريخه السياسي، في حين نلمس الآن بوضوح اثر "التربية الفارسية" في قيادات الحركات والأحزاب الإسلامية (الشيعية). إن غياب الأغلبية العربية هي النتيجة الطبيعية الملازمة لضعف نخبها السياسة القومية السليمة. وفي هذا يكمن سر الخلل التاريخي للنخبة السياسية العراقية المعاصرة. كما أننا نعثر فيه على سبب إشكالية السلطة والمجتمع، بمعنى ضعف الأبعاد الاجتماعية والوطنية في الحركات والأحزاب السياسية التي هشمت براعم تراكمها التاريخي في العهد الملكي من خلال صعود الراديكالية السياسية (أو الهامشية الاجتماعية والسياسية والثقافية والقومية والدينية المذهبية). وذلك لان غياب الأغلبية العراقية كان وما يزال يعمل على تغذية نفسية وذهنية الأقلية، ومن ثم تشويه مضمون التقاليد السياسية بشكل عام والثقافة السياسية بشكل خاص. إذ لا يمكن للتقاليد السياسية السليمة والثقافة السياسية العقلانية أن تتراكم في ظل سيطرة الأطراف والهامشية والراديكالية. وهي صفات ملازمة للأقلية بالضرورة. وذلك لما فيها من نفسية "الهجوم" وشبه انعدام لعقلية البناء. وهي حالة لا يمكنها أن تؤسس لمستقبل واضح المعالم. أنها لا تفكر بمعايير ومقاييس المستقبل. من هنا فقدانها للمعاصرة. وهو الأمر الذي يفقدها الحاضر، ومن ثم يفقدها المستقبل. بينما هوية العراق الممكنة هي هوية المستقبل. وذلك لان طبيعة وحجم الدمار الهائل للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية يقوم في تخريب أسس المستقبل في العراق. من هنا لا يؤدي فقدان المستقبل عند النخب السياسية العراقية الحالية إلا إلى جعلها قوى مؤقتة. وهي حالة تؤدي بها بالضرورة إلى ضياع سياسي وأخلاقي واجتماعي ووطني. إذ نعثر على حالة ضياعها السياسي في مظاهر قوتها المفرطة ضمن أروقة السلطة وضعفها المفرط خارجها. ونعثر على ضياعها الأخلاقي في كون أغلب همومها الكبرى والصغرى محصورة بالوظيفة لأنها عموما بلا كفاءة. ونعثر على ضياعها الاجتماعي في رخويتها. فهي هشة بذاتها ومغتربة في كينونتها عن المجتمع وإشكالياته الفعلية. ونعثر على ضياعها الوطني في خلوها من حقيقة الشعور الوطني الفعلي، بمعنى فقدانها للرؤية الإستراتيجية فيما يتعلق بإخراج العراق من أزمته البنيوية الشاملة ومحنته التاريخية الجديدة. إذ أن معنى النخبة السياسية ووظيفتها الفعلية تقوم في صياغة وتحقيق رؤية إستراتيجية تجاه الإشكاليات الكبرى التي تواجهها الدولة والأمة. أما حصيلة هذا الضياع المركب فهو ضياعها الفعلي من حيث كونها نخبة. في ظروف العراق الحالية لا توجد نخبا سياسية بالمعنى الدقيق للكلمة، بقدر ما أننا نقف أمام قوى مؤقتة. من هنا ضعفها الاجتماعي والسياسي والأخلاقي الذي لم يكن معزولا بدوره عن زمن التخريب والتدمير الفعلي الذي لازم صعود واستتباب التقاليد الراديكالية وبالأخص زمن التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وهو خراب وجد انعكاسه النموذجي في كيفية وصول "النخب السياسية" في عراق ما بعد الصدامية إلى السلطة. فقد كان وصولها للحكم مفاجئة كئيبة للعراق ومفرحة لهم. وهو الأمر الذي جعلهم يمثلون ويتمثلون مضمون الفكرة القائلة "كل حزب بما لديهم فرحون". وهو فرح يمثل عين المأساة التاريخية للعراق المعاصر، كما انه يمثل من الناحية الموضوعية المرحلة التي ينبغي للعراق أن يقطعها من اجل بلورة تقاليد جديدة للنخبة بشكل عام والسياسية بشكل خاص. إن وصول النخب السياسية الجديدة في العراق هو أيضا مقدمة صيرورة النخب العراقية، أي الوطنية. وذلك لان الكيفية التي وصلت بها النخب السياسية الجديدة – القديمة إلى السلطة يعكس أولا وقبل كل شيء تاريخ الخلل الفعلي الهائل الذي صنعته التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية في العراق. وبالتالي فان صعودها إلى هرم السلطة يعني من الناحية التاريخية والسياسية موت النخبة السياسية القديمة جميعا، بما في ذلك السائد منها حاليا. فهي تنتمي من حيث نفسيتها وذهنيتها وعقلها ورؤيتها إلى زمن النخب القديمة. ذلك يعني أنها نخبة بلا مستقبل. من هنا عجزها عن تحقيق معاصرة المستقبل في العراق. فهي نخب كبيرة المظهر صغيرة الهموم! وفي هذا يكمن شرط اضمحلالها وتلاشيها، بالقدر الذي يشكل في الوقت نفسه مصدر ومقدمة نشوء وتبلور وتكامل النخب الجديدة، أي النخب القادرة على استعادة الهوية المفقودة: الوطنية العراقية!
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل العراق بحاجة إلى مساعدات؟
-
جنون الإرهاب الوهابي - خاتم الإرهاب التوتاليتاري 4 من 4
-
جنون الإرهاب المقدس – الحنبلية الجديدة 3 من 4
-
جنون الإرهاب الأصولي – تحطيم العدل والاعتدال 2 من 4
-
جنون الارهاب السلفي – إيمان مشوه وبصيرة حولاء-1 من4
-
الجمهورية العراقية الرابعة – الاحتمالات والابعاد المجهولة
-
هل العراق بحاجة إلى مرجعيات دينية؟
-
الأغلبية المعذبة ومشروع البديل الوطني في العراق
-
إشكالية الهوية العربية للعراق – مشكلة الجهل والرذيلة
-
المثقف العراقي – المهمة الشخصية والمسئولية التاريخية
-
العلم والأنوثة
-
ملاحظات على حملة التضامن مع منتدى الاتاسي
-
فلسفة الاعتدال السياسي الأمثل في العراق المعاصر
-
فلسفة التسامح ومنظومة الاحتمال العقلاني
-
فلسفة الإصلاح العقلانية
-
الاسلام والجنس – عقيدة العقدة
-
المشروع الديمقراطي العراقي وفلسفة النفي الشامل للطائفية السي
...
-
الحركة القومية الكردية - المثلث الهمجي للطائفية العرقية 5 من
...
-
التوتاليتارية الشيعية – المثلث الهمجي للطائفية السياسية الجد
...
-
الطائفية السياسية - قاعدة الاحتمال الهمجي في العراق 2 & 3 من
...
المزيد.....
-
بالصور..هكذا يبدو حفل زفاف سعودي من منظور -عين الطائر-
-
فيديو يرصد السرعة الفائقة لحظة ضرب صاروخ MIRV الروسي بأوكران
...
-
مسؤول يكشف المقابل الروسي المقدّم لكوريا الشمالية لإرسال جنو
...
-
دعوى قضائية ضد الروائي كمال داود.. ماذا جاء فيها؟
-
البنتاغون: مركبة صينية متعددة الاستخدام تثير القلق
-
ماذا قدمت روسيا لكوريا الشمالية مقابل انخراطها في القتال ضد
...
-
بوتين يحيّد القيادة البريطانية بصاروخه الجديد
-
مصر.. إصابة العشرات بحادث سير
-
مراسل RT: غارات عنيفة تستهدف مدينة صور في جنوب لبنان (فيديو)
...
-
الإمارات.. اكتشاف نص سري مخفي تحت طبقة زخرفية ذهيبة في -المص
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|