أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - ظهور المذاهب السياسية والصراع الطبقي في الاسلام















المزيد.....


ظهور المذاهب السياسية والصراع الطبقي في الاسلام


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 4498 - 2014 / 6 / 30 - 22:28
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ظهرت مقدّمات المذاهب السياسية في الاسلام مع توجه الخلافة نحو الادارة المركزية المطلقة والملكية المطلقة المستبدة خلال ولاية عثمان بن عفان .، بيد ان الصراع السياسي في الاسلام يعود الى فترة سابقة شهدت بداية تحول الصراع القبلي الى صدام واسع بين العامة الثوار والمنتفضون وبين مركز الدولة الاسلامية الاوثوقراطي . ومن اجل توضيح هذه القضية يجب ان نعود الى اوضاع مكة قبل الاسلام ، واستعراض الاحوال السياسية بعد وفاة النبي .
اولا --- الاسلام والتطرف القبلي :
كانت مكة تمثل نموذجا متطورا للحكم القروي بمفهومه القديم . فهي كانت ام القرى ، ومركز الحياة السياسية والتجارية في الجزيرة العربية قبل الاسلام . وكان نظامها السياسي اشبه بالجمهورية يقوم على توازنات بين بطون قريش القبيلة السائدة بمكة .
كانت السلطة السياسية في المدينة تتناسب والمكانة التجارية لكل بطن من البطون ، لا على القوة العسكرية ، الامر الذي استلزم نشوء نظام من الحكم يقوم على السلطة الروحانية اللاهوتية وشرف الانساب ، وهو نظام يستمد جذوره من تقاليد تاريخية عريقة في القدم . وقد عارضت قريش كل محاولة لتحويل مدينتها الى مَلَكِية او الحاقها بأي دولة من الدول الكبرى القائمة آنذاك ، و’احْبطت دسائس البزنطيين لتنصيب عثمان بن الحويرث ملكا عليها . وقد ساعد هذا الوضع غير العسكري لمكة على تعزيز مكانتها الدينية باعتبارها حرم آمن يأوى اليه كل مقموع وخائف وملاحق طريد .
وفي فترة معينة قبل ظهور الاسلام تصدر بنو امية رئاسة مكة وسيطروا على تجارتها ، وحلوا محل بني هاشم الذين ذهبت ثرواتهم ، وتردت مكانتهم التجارية . فيذكر إبن حبيب في ( المحبر ص – 165 ) ان حرب بنو امية خلف المطلب بن عبد مناف على رئاسة قريش ، وكان ابو سفيان قائد قريش في حربها ضد المسلمين .
وبعد فتح مكة ، تقرر ان تظل المدينة ( يثرب ) عاصمة للدولة الاسلامية ، لأسباب كثيرة منها رغبة النبي في بناء مجتمع اسلامي بعيدا عن التطرف القبلي الذي كان مستشريا بين القبائل العربية ، وهو هدف لا يمكن ان يتحقق في ظل هيمنة قريش على مكة حتى بعد الفتح ، واستمرار نفوذها السياسي والديني في جزيرة العرب .
وفي المدينة ، لم يكن لبني امية او اي من القبائل العربية نفوذا يوازي نفوذ ومكانة الجماعة الاسلامية ، إذ اخذت القبائل التي هاجرت اليها واستقرت فيها ، بالانحلال والاندماج بالمجتمع الاسلامي الجديد الذي بدأ يتطور في المدينة النبوية ، ويمتد منها الى بقية الانحاء الاخرى .
استهدف الاسلام مركزة مختلف مستويات الحياة السياسية والاقتصادية والروحية ، وكان من دوافعه الاجتماعية ، ازالة الانقسام العشائري والقومي ، وصهر التشكيلات الاجتماعية المستقلة ، كالقبائل والقرى ( المدن – الدولة ) والدويلات الصغيرة ، بكيان اسلامي موحد يسعى الى تشكيل دولة مركزية عالمية .
وقد انصبت مساعي النبي بعد فتح مكة على اقامة نواة المجتمع العالمي الجديد في المدينة وفق الاسبقية في الاسلام ، والأولوية في خدمة الدعوة الاسلامية لا على اواصر الانساب القبلية . بيد ان التقاليد القبلية ، كانت عميقة الجذور تستمد قوتها من تكوين اجتماعي عضوي رسّخته ظروف حياة البادية . وقد ظلت التقاليد والعلاقات القبلية حية قوية خارج حدود المدينة النبوية ، رغم بداية انحلالها في العاصمة الاسلامية ، فكان من المحتم ان تجد تعبيرها في الحياة السياسية حين توفّر الظروف المناسبة ، وهذا ما جرى بعد وفاة النبي .
ثار خلاف كبير بين صحابة النبي حول مسألة اختيار خليفة له . فقد اراد اهل المدينة وهم الانصار ، أن يكون الخليفة منهم ، فرشحوا سعد بن عبادة ، في حين مال بقية المسلمين الى اختيار الخليفة من قريش ، فبويع ابو بكر وهو من قبيلة قريش قليلة الشأن والقيمة .
كانت دوافع اختيار ابي بكر حرص جماعة المسلمين تجاوز الصراعات القبلية القديمة ، وترسيخ مبدأ الشورى . وما كان من الممكن ان يتحقق هذا إلاّ بقطع الطريق على استئثار البيوتات العليا من قريش ، سيما بني هاشم وبني امية بالسلطة السياسية والدينية . وقد ساعد هذا الاختيار على وحدة اهل المدينة في مواجهة حركة الردة بعد وفاة النبي ، واستعادت الدولة الاسلامية سيطرتها على الجزيرة العربية .
بعد تصفية القبائل المرتدة ، توجه المسلمون للفتوحات الخارجية بحملات عسكرية عاصفة اطاحت بأكبر امبراطوريتين في العالم آنذاك . وفي ظروف التوسع الاسلامي ، امكن لجم الصراعات القبلية ، والشروع على نطاق اوسع من ذي قبل بصهر القبائل المختلفة . غير ان الاوضاع التي ظهرت بعد الفتوح وتمصير الامصار جلبت معها عوامل صراعات وانقسامات اجتماعية جديدة ، إذ ان تكدّس الغنائم الهائلة في مركز الخلافة في الحجاز ، واقتسام ثروات الاكاسرة والبيزنطيين بين المقاتلين المسلمين في الامصار ، خلقت اوضاعا تطورت فيها طبقات اجتماعية جديدة ، وتطلعات حضارية لم تكن معروفة في المجتمع الاسلامي في الحجاز .
استقر المقاتلون المسلمون اول الامر ، في المدن القديمة للأقاليم المفتوحة ، وطالب البعض منهم تقسيم الارض الزراعية في تلك الاقاليم بينهم ، والسماح لهم بالانخراط في حياة البلدان المفتوحة . وأمام هذه الطلبات وجدت الخلافة نفسها تواجه خطر انصهار المقاتلين في التجمعات السكنية الكبيرة لتلك البلدان ، وابتعادهم تدريجيا عن الحياة الاسلامية ، فقرر عمر بن الخطاب بالتشاور مع الصحابة في المدينة اعادة تنظيم القوات الاسلامية ، وتنفيذ خطوات سياسية وعسكرية بعيدة الاثر ، منها تطبيق نظام الخراج ، وسحب المقاتلين من المدن القديمة ، وتجميعهم في امصار جديدة ، وتطبيق المناوبة في خدمة البعوث العسكرية الى المناطق النائية . وكانت الكوفة اول الامصار الاسلامية الجديدة التي ضمت اكثر المقاتلين المسلمين الذين انتهت اليهم خزائن الساسانيين ، واتسعت خلال بضع سنوات حتى قاربت نفوسها نصف مليون نسمة حسب الروايات التاريخية . بعد ذلك مصّرت البصرة وهكذا باقي المدن الجديدة .
ان تمصير الامصار وتطبيق الانظمة الادارية الجديدة خلقا مراكز سياسية جديدة لا تقل وزنا عن عاصمة الدولة الاسلامية في الحجاز ، ونتيجة لذلك برزت مخاطر الصدام بمركز الدولة ، وتطور صراع متنام بين المدينة في الحجاز وأهل الكوفة . وقد حاول الخليفة عمر تسكين الامور بمداراة الكوفيين وتلبية اكثر مطالبهم . ولكن الوضع السياسي الجديد كان من الخطورة بمكان ، مما حمل الخليفة على اتخاذ جملة اجراءات تنظيمية لتحقيق توازن سياسي جديد يعزز حكم مكانة العاصمة الاسلامية في الحجاز وهيمنتها على الامصار .
تتلخص هذه الاجراءات بإعادة تنظيم الدولة الاسلامية كلها وفق نظام اداري جديد للأمصار ، ومنح كل منها استقلالا ذاتيا فيما يتعلق بأمور الادارة والاقتصاد المحليين ، على ان يراجع مركز الخلافة في القضايا السياسية الكبرى . وكان هذا النظام اشبه بالاتحاد الفدرالي ان صح التعبير ، مركزه المدينة النبوية . لقد قسم الخليفة الدولة الاسلامية الى سبعة اقسام وفق نظام ( الاسباع ) ، وهو نظام قديم يرجع الى اصول بابلية ، ’يصوّر العالم المعمور على هيأة سبعة اقاليم ، مرتبة على شكل سبع دوائر ، ست منها بدائرة مركزية تمثل اقليم بابل . ويقول اليعقوبي ان عمر بن الخطاب هو الذي اوجد هذا النظام .
كان المقصود بهذا التنظيم منح الامصار قدرا كبيرا من الاستقلال الذاتي ،و’خصص لها اربعة اخماس الغنائم العسكرية ، ودفع الخمس المتبقى الى الدولة المركزية بالعاصمة ، اضافة الى نسبة معينة من ايرادات الخراج . ونتيجة لهذه الاجراءات اصبح في حوزة الامصار موارد اقتصادية وقوة عسكرية كبيرة حيث عمل الخليفة عمر بن الخطاب على خلق توازنات معينة بينها لئلا تتمرد على مركز الخلافة .
كان تأسيس مدينة البصرة وتمصيرها يستهدف خلق قوة موازنة للكوفة . وكانت البصرة اول الامر معسكرا صغيرا ، فسارعت الخلافة بمدها بالمهاجرين من مختلف انحاء الجزيرة العربية ، ثم الحقت بها بعض الاقاليم التي فتحها اهل الكوفة لسد نفقات المقاتلة والمهاجرين الجدد ( انظر الطبري 4 : 160 ) .
اثار هذا الاجراء الاخير اهل الكوفة فطلبوا من اميرهم عمار بن ياسر ، رفع شكواهم الى الخليفة . لكن لما رفض الامير طلبهم وساند قرار الخليفة بدعم اهل البصرة انتفضوا عليهم وطالبوا الخليفة بعزله ، فاضطر عمر مكرها لتلبية طلبهم لذلك فقال : " أعضل بي اهل الكوفة " . وكان يقول : " اي نائب اعظم من مائة الف لا يرضون عن امير ، ولا يرضى عنهم امير " .
ان هذا الصراع بين اهل الكوفة والخلافة قد تطور فيما بعد عبر سلسلة من الثورات والحروب الاهلية مع اهل البصرة وأهل الشام ليتخذ صورة مذهبية . وفي ارضية هذا الصراع بذرت البذرات الاولى للانقسام الطوائفي في الاسلام . ثم ان ما جرى على نطاق الدولة الاسلامية انعكس ايضا داخل كل مصر من الامصار بصورة متفاوتة .
لم يقتصر تطبيق نظام ( الاسباع ) على ادارة الدولة الاسلامية ، بل شمل تنظيم بعض الامصار الاسلامية نفسها . فقد اعيد تخطيط مدينة الكوفة وفق النظام المذكور لضمان هيمنة المركز الاداري على الاحياء القبلية المحيطة . وكان من مزايا التخطيط الجديد توفير سيطرة مركز المدينة على الاطراف وضمان عزل الاحياء القبلية عن بعضها البعض عند الضرورة ، وكذلك سد منافذ المدينة الى الخارج اذا اقتضى الحال . وقد ظهرت نتائج هذا التخطيط الذي استقرت عليه الكوفة في تسهيل ضرب الحركات الثورية فيما بعد ، ولا سيما ثورة الحسين وثورة زيد بن علي ، حيث استطاعت حكومة المدينة حصر الناس في معسكر النخيلة او في المسجد الجامع وعزلهم عن الثوار .
وكما حدث في الصراع بين الكوفة والبصرة والشام ، فقد جرى ذلك بين احياء الكوفة نفسها ، فانحازت القبائل اليمن الى الشيعة ، في حين انحازت قبيلة ثقيف وغيرها من القبائل العدنانية الى الامويين . لكن التنظيمات التي نفذها عمر باحترامها للاستقلال الذاتي حافظت على وحدة المقاتلة الاسلامية ، وأضعفت عوامل المذهبي والصدام السياسي . غير ان هذا الوضع سرعان ما تغير بعد وفاة الخليفة وانتقال الخلافة الى عثمان بن عفان .
ثانيا --- ظهور الصراع الطبقي في الاسلام :
كان الخليفة الجديد عثمان بن عفان ينتمي الى الاسرة الاموية التي فقدت مكانتها السياسية المهيمنة بعد الاسلام . وقد تولى هذا الخليفة الارستقراطي القرشي الخلافة في وقت انجزت اكثر الفتوحات ، وتزايدت ثروات المقاتلة ، وتراكمت الاموال في الامصار ، فادى هذا الى تزايد هجرة الناس للبلدان المفتوحة ، وخلق مشاكل خطيرة حاول الخليفة مواجهتها بإحداث اجراءات لم تعهدها الجماعة الاسلامية ، إذ لم يمر وقت طويل حتى شرع عثمان بن عفان بانتهاج سياسة تخالف سيرة من سبقه من الخلفاء . فقد حاول تعزيز المركزية في الدولة الاسلامية ، وتقوية مؤسسة الخلافة وجعلها اشبه بالملك ، فأقدم على الغاء نظام الامصار وحولها الى ادارات محلية مرتبطة مباشرة بالخلافة ، وعين ابناء عشيرته من الامويين امراء على الاقاليم والأمصار وخولهم الاستئثار بأموال الدولة الاسلامية على حساب الشعب والشعوب التي اعتنقت الاسلام حبا او طوعا . فكان من اجراءات عثمان تعزيز هيبة الخلافة ونبذ حياة البساطة التي سار عليها النبي وابوبكر وعمر . فقد بنى لنفسه قصرا كبيرا في منطقة الزوراء بالمدينة ، وحاول نقل مركز الخلافة الى مكة ، او على الاقل جعل مكة عاصمة ثانية ، كما يظهر من اعتباره صلاة المسافر الى مكة كصلاة المقيم فيها ، وهذا امر اخذه عليه خصومة واعتبروه من احداثة المبتدعة . ثم عمل عثمان على احاطة نفسه بجند مماليك اختارهم من العبيد الذين كانوا يرسلون الى الحجاز ضمن الخمس المخصص للخلافة من الغنائم الحربية ، فكانوا يسمون بعبيد الخمس .
ثم شرع عثمان بتدوين القرآن وحصر ذلك بالخلافة وحدها ، فأمر بتوحيد المصاحف وإحراق القديمة منها التي كتبت على عهد النبي محمد والخلفاء من بعده . والغى نظام الامصار واحل محله نظام ( الاجناد ) ، لذلك غير اسم الكوفة فأصبحت ( كوفة الجند ) كما تذكر العديد من المصادر الموثوقة . ورغم انه بعث للأمصار سبعة مصاحف الخاصة بها ، خاصة مصحف ابن مسعود الذي ظل موضع اجلال من اهل الكوفة والشيعة عامة . وسمح عثمان لأشراف الحجاز الانتقال الى الاقاليم بعد ان كان عمر منعهم من ذلك ، وسوّغ لهم استثمار اموالهم وشراء العقارات في الامصار وبناء دور التجارة فيها .
ومثل هذا التنظيم شبه الملكي للدولة غير المعهود من المسلمين ، قاد الى تذمر واسع بين الناس ، وأثار روح التمرد والعصيان في الامصار التي ’حرمت من استقلالها الذاتي كالكوفة والفسطاط والبصرة . وقد كانت ثورة اهل مصر شديدة على عثمان لأسباب عديدة منها انه اسقط الفسطاط كليا من بين الامصار ، ولم يخصها بمصحف كما فعل مع الامصار الاخرى .
انفجر التذمر الشعبي بثورة سياسية كبرى ’حوصر فيها الخليفة في داره في عاصمة الدولة الاسلامية ثم قتل منبوذا دون ان يناصره احد غير بعض ابناء عمومته من الامويين .
بعد مقتل عثمان ممثل الارستقراطية السفيانية القرشية بايع اهل المدينة علي بن ابي طالب بالخلافة ، وقد هرب الامويون من المدينة وتجمعوا في الشام استجارة بأميرها معاوية بن ابي سفيان . بعد ذلك انحاز بعض اشراف قريش الى البصرة في محاولة للانفراد بالعراق وعزل الحجاز عن اهم اقاليم الدولة الاسلامية ، الامر الذي دفع بالخليفة علي بن ابي اطالب الاسراع الى ترك الحجاز واتخاذ الكوفة مركزا للخلافة والشروع بحروب طويلة ضد البصرة والشام كما هو معروف .
هكذا نرى ان محاولات عثمان بن عفان فرض نظام المركزية المطلقة ، وحرمان الامصار من استقلالها الذاتي ، وتركز الملكيات الخاصة ، وتعمق التمايز الطبقي ، كانت العوامل التي قادت الى اظهار الصراع والمجتمع الطبقي وأدت الى صراع سياسي حاد مهّد الطريق لظهور المذاهب والانعزالية في الاسلام .
ثالثا --- الصراع الطبقي بين المدينة والدولة :
اتخذ الصراع الطبقي في الاسلام اشكال معقدة غير مألوفة يتعين توضيحها قبل تناول تطور الانعزالية الاسلامية . فقد ’ولدت مع ظهور الاسلام تناقضات اساسية استمدت جذورها من التكوينات الاجتماعية السابقة للإسلام ، وتطورت في اطار الامصار الجديدة ، واتخذت هذه التناقضات شكل صدام بين المدينة كوحدة اجتماعية سياسية ، وبين ( الدولة ) المركزية الكبرى التي اصبحت فيما بعد القوة المحركة للمجتمع الاسلامي الاول .
برزت هذه الظاهرة جليا في الآيات القرآنية ، حيث يرد ذكر " القرى " و " القرية " . وقد اشير الى مكة والطائف باصطلاح " القريتين " . ولا بد من الاشارة هنا ، الى ان معنى القرية في المفهوم اللغوي القديم هو غير المفهوم الدارج في الوقت الحاضر ، فقد كانت تعني ( المدينة – الدولة ) مثل مدينة الحضر وتدمر والبتراء ومكة والطائف ويثرب وغيرها . فكانت هذه المدن يمثل كل منها دولة صغيرة مستقلة لها حكومتها وأرضها الزراعية المحيطة بها والمناطق التابعة لها . ولم يستخدم اصطلاح القرية قديما بمعنى الريف ، وإنما ’حرّف هذا في العصر الحاضر . فيرد على لسان العرب مثلا " القرية .. المصر الجامع ... ويقال اهل القارية للحاضرة ، وأهل البادية للبدو .. " .
وأمام هذا التكوين القروي ، بالمعنى القديم ، للمجتمع الجاهلي ، ظهر الاسلام يدعو الى الوحدة السياسية المطلقة بتلبية الناس لدعوة النبي وطاعتهم لرسالته السماوية . فالإسلام كما هو معروف يعني الطاعة ، بمعنى تنازل الكيانات السياسية المستقلة ، القرى والقبائل ، وانصهارها جميعا بالكيان المركزي الاسلامي الجديد .
لقد دام التناقض بين الكيان القروي ، كيان المدينة – الدولة ، وبين الدولة المركزية الاسلامية ذات الابعاد العالمية بضعة قرون ، وانعكس في عملية التنقل الدائم للعواصم الاسلامية طيلة القرون الثلاث الاولى للإسلام – مكة والمدينة والكوفة وبغداد وسامراء – كأمثلة بارزة على ذلك . ففي اطار هذا التناقض ظهرت الانعزالية الاسلامية كانعكاس لصراع اهل الكوفة وغيرها من الامصار الاسلامية ضد مركز الدولة الاسلامية .
ان التكوين التوحيدي للإسلام الاول لم يتسع لظهور نظام اسلامي انعزالي ، بل تعارض معه تمام المعارضة ، لأن المجتمع الاسلامي الاول كان يحمل بعض تقاليد المجتمع الجاهلي الذي ’ولد فيه ، وبما في ذلك نظام القرى الحرة . فقد دمّ القرآن التكوين الانعزالي للمجتمع ، وحرم تقسيم الناس الى شيع ومذاهب مختلفة ، كما ادان الانظمة المركزية القديمة معتبرا كياناتها عنصرية انعزالية تقوم على الظلم والجبروت . ( ان فرعون علا في الارض وجعل اهلها شيعا ) ( القصص . 4 ) وجاء ايضا . ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ( الانعام . 159 ) .
ان النظام الانعزالي لم يكن مجهولا مرة عن المسلمين الاوائل ، فمصطلح الانعزالية السياسية ظهر اول ما ظهر في اللغة العربية اشارة الى نظام ملوك الطوائف الذين ورثوا دولة الإسكندر المقدوني . يقول السهيلي : " وكانت ملوك الطوائف متعادين ’يغير بعضهم على بعض ، وقد تحصن كل واحد منهم في حصن ، وتحوّر الى حيّز منهم عرب ، ومنهم فرس .. وكان الذي فرقهم وشتت شملهم ، وادخل بعضهم بين البعض ، لئلا يستوثق بهم ملك ، ولا يقوم لهم سلطان ، الإسكندر بن فيليب اليوناني ... " ( الروض الانف 1 : 31 ) .
ويفسر الاسكافي ظهور المسيحية في الدولة الرومانية بدوافع عنصرية تمييزية إذ يقول ان الروم اجتمعت على خلع قسطنطين ، فشاور مستشاريه فقالوا له :
" لا طاقة لك بقومك وقد اجتمعت كلمتهم على خلعك ، وهم على غير دين يفهمونه . هذا والروم لا تعرف النصرانية ، وهي تعبد الاوثان على جاهليتها ، فقال ما الحيلة ؟ قالوا له : تستأذن لتحج الى بيت المقدس ، ثم تطلب دينا من اديان الانبياء فتدعوهم اليه وتحملهم عليه ، فإنهم يفترقون فرقتين ، فرقة تصير معك على دينك ، وأخرى تشد عنك ، فتقاتل من عصاك بمن أطاعك ، فإنك تظهر عليهم ، لأن كل قوم قاتلوا على دين فهم الغالبون " .
يظهر جليا إذن ان المسلمين القدماء كانوا يفهمون مغزى النظام الانعزالي ، وكانوا يرون في الاسلام الاول ضمانا لعدم تطور النظام التقسيمي الطبقي . والحقيقة ان الفترة الاسلامية الاولى لم تشهد نظاما طبقيا بين المسلمين انفسهم ، وانما كان الانقسام الطبقي يقوم بين اهل الاسلام وأهل الذمة ، ولكن مجرى التاريخ قد اظهر النظام الطبقي العنصري كنتيجة منطقية لتطور الدولة المركزية القائمة على القهر والتوسع والاستبداد لا سيما تلك الدول الاستعمارية القديمة والملكيات المركزية الكبرى التي سيطرت على مناطق شاسعة من العالم . لذا فان نظام الصراع الطبقي العنصري لم يظهر في الاسلام إلاّ عندما ابتعدت الدولة الاسلامية من اصولها ( المدنية – القروية ) القديمة واستخدمت العسكريين المماليك خصوصا بعد فترة البويهيين والسلاجقة الترك .
رابعا --- الدولة والشعوب الاسلامية :
انعكس التناقض بين الدولة الاسلامية المركزية وبين الكيانات المدنية القروية وتقاليدها التي استمرت بعد الاسلام في صراع طبقي آخر سرعان ما اندمج فيه ليكوّنا تيارا سياسيا يعارض السلطة المركزية للخلافة . اعتمد الاسلام في نظريته السياسية على وحدة السلطة السياسية – الاقتصادية التي اتخذت شكلا محددا بعد تطور نظام الخراج ، وذلك في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب . فقد اعتبرت الاراضي الزراعية للأقاليم المفتوحة عنوة ملكا للأمة الاسلامية ، اي ملكا للدولة الاسلامية التي اوكلت بدورها زراعة هذه الاراضي للفلاحين لقاء ضريبة معينة تسمى الخراج . ولما كان عائد الخراج يرجع من الناحية الشرعية على الاقل لمجموع الامة ، فقد قيد هذا النظام من دور الحاكمين في التلاعب بالأراضي الخراجية ، لكنه دفعهم من جانب آخر نحو تجميع الملكيات الخاصة ، وإقامة المصانع والمؤسسات الانتاجية .
وقد اقترن بنظام الخراج تطور بيروقراطية واسعة النفوذ تتمتع بثقافة عالية ميّزتها عن العامة المسحوقة الجاهلية ، فكان من المنطقي ان يسير المجتمع الاسلامي بعجلة تطور افضت الى انقسامه الى معسكرين كبيرين ، الحاكمين وهم اقلية ، والمحكومين وهم القاعدة ، او ما يسمى في الادب القديم ، الخاصة والعامة ، او النخبة والرعاع او الاوباش . هكذا نرى ان التركيبة السياسية الاقتصادية للمجتمع الاسلامي قد حددت الطبقات الاجتماعية ، وكيفت من ثم طبيعة الصراع الطبقي ، وأوجدت الاسس الاجتماعية لظهور نظام الطبقات التمييزي العنصري في فترات لاحقة باعتبار ان الشعوب المضطهدة والمستغلة تمثل شكلا معينا من اشكال التكوينات الطبقية .
ان هذه التشكيلة السياسية الاقتصادية المعقدة تجعل من المتعذّر فهم المدارس المذهبية في الاسلام ، بالاقتصار على الاقاويل الفقهية والنظرية دون النظر الى الدلالات الاجتماعية التي تعبر عنها تلك المدارس ، والى الظروف التاريخية الخاصة التي احاطت بظهور كل فئة من الفئات المذهبية ، ومدى علاقتها بالدولة من ناحية ، وبالفئات المحكومة المستلبة والمضطهدة من ناحية اخرى .
وفي اطار هذا المنظور تبرز ظاهرة هامة في تاريخ المجتمع الاسلامي العربي ، قلما نجد لها مثيلا في المجتمعات الاخرى ، وهي حقيقة تمايز دين الحاكمين عن دين المحكومين ، واختلاف المذاهب الرسمية عن المذاهب الشعبية ، حتى انعكست القاعدة القديمة القائلة : " الناس على دين ملوكها " الى نقيضها ، حاكم شيعي محكوم سني او مسيحي ، او حاكم سني ومحكوم شيعي او مسيحي .
واذا تصفحنا تاريخ البلدان العربية ولنأخذ على سبيل المثال العراق او سورية او ايران ، تبرز للعيان ظاهرة اساسية ، وهي ان تقلّب الاديان والمذاهب فيها كان يجري تبعا لتقلب الانظمة السياسية الحاكمة او الاسر المالكة ، في حين نجد التقلبات السياسية قادت الى نتائج معاكسة في ظروف العراق من صدام حسين والى اليوم . واذا شملنا المجتمعات الاوربية بهذه المقارنة التاريخية وجدنا ان انتشار المسيحية مثلا كان نتيجة قرار سياسي اتخذه بعض ملوك الروم لاعتناق دين المسيح ، وكذلك الحال بالنسبة لحركات الاصلاح الديني الاوربية في العصر الوسيط .
ان هذه الظواهر غير المعتادة التي برزت على مر القرون تدل بلاشك على ان الصراع الطبقي العنصري كان دائما تعبيرا عن صراع اجتماعي ، وانعكاسا لمقاومة شعبية ضد تسلط اجنبي او استبداد محلي باشكال دينية او مذهبية تنسجم مع الاحوال السائدة في المجتمع والتقاليد السائدة فيه بين الناس .



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الى ... ك الخليفة ... ميتا
- تقرير قانوني -- فبركة الملفات الكبرى -- محنة قادة الكنفدرالي ...
- هل لا زال لمثيْقِف ( المثقف ) اليوم وعي طبقي
- سبعة واربعون سنة مرت على النكسة - هزيمة 5 جوان 1967 -
- - الائتلاف من اجل التنديد بالدكتاتورية بالمغرب -
- الاسس البنيوية والازمة الراهنة للوضع الاقتصادي والاجتماعي ال ...
- بانكيمون يعين الكندية كيم بولدوك على رأس المينورسو
- تطور اساليب القمع بين الاستمرارية والتجديد
- العنف الثوري
- قراءة لقرار مجلس الامن رقم 2152
- فاتح ماي : اسئلة واجوبة
- النهج الديمقراطي ورقصة الحنش ( الثعبان ) المقطوع الرأس
- الفقر كفر والكفر فقر
- الامير ( المنبوذ ) بين الصبيانية والتيه السياسي
- قراءة في قضية عبداللطيف الحموشي مع تعيين فالس وزيرا اولا بفر ...
- الله هو صاحب السيادة العليا والامة مصدر السلطات والديمقراطية
- خارطة الطريق - ستة منطلقات لبناء الدولة الديمقراطية وقلب حكو ...
- النص الديني والنظام الراسمالي من المرأة وجهان لعملة واحدة
- هل تراجعت الحكومات الاسلاموية ؟
- اي سر وراء مصرع الجنرال احمد الدليمي ؟


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - ظهور المذاهب السياسية والصراع الطبقي في الاسلام