علاء عبد الهادي
الحوار المتمدن-العدد: 4498 - 2014 / 6 / 30 - 08:36
المحور:
الادب والفن
الترجمة, والثقافة العربية
الدكتور علاء عبد الهادي*
لا يمكننا أن نغض الطرف في هذه الحقبة عن أن أحد العوامل المهمة في التأثير المعرفي الآن هو العامل المشير إلى حركة الترجمة ممن يسمى الآخر وإليه, حيث تزداد أنشطة الترجمة, وتكون على درجة كبيرة من الاهمية عندما تمر ثقافة ما بفترة تحول. وهذا ما يفسر هذا النشاط المكثف للترجمة من اللغات المختلفة إلى العربية, في المؤسسات الرسمية العربية بخاصة, ابتغاءً لما يسمى "ثقافة التنوير", و"التنوير" كلمة يشير تاريخها المعرفي, والإيتمولوجي إلى دلالات متناقضة, وصراعات فكرية محتدمة, في تاريخ الفكر الغربي الحديث, أما سياسات التنوير في عالمنا العربي, فغالبًا ما يهيمن على سياقاتها البعدُ الشخصي, والتصوراتُ الفردية, وهذا ما أفقدها الحسّ بالاتجاه, نظرًا إلى فقر المرتكزات النظرية التي انطلقت منها هذه السياسات, فضلاً عن غياب التفاتها إلى التناقضات القائمة بين ما يعلنه القائمون على هذه المؤسسات من أهداف, وما يحققونه في الواقع المعيشِ من تأثير. فمن الملاحظ أن عددًا كبيرًا من مؤسسات الترجمة العربية يفتقد سياسات واضحة المعالم, متكاملة الأهداف, مترابطة التصورات, بل يظل أغلبها معتمدًا على الاقتراحات, ومصادفاتها, فالمتأمل لكثير من المنشور والمترجم على مستوى العالم العربي الآن يصطدم بعدد كبير من الترجمات المكررة, فضلاًَ عن الترجمات المشروطة بأوضاعٍ ثقافية تحاشت مراجعةَ السياسي, والجنسي, والعقدي, بحيث إننا لا نعدو الحق إذا قلنا إن عددًا كبيرًا من المختار المترجم من مؤسسات الترجمة الرسمية العربية, وفي هذا تعميم جائر, لكنه ضروري في هذه المساحة الصغيرة, يفتقر إلى الاهتمام بالتفسيرات النقدية للواقع, وهذا ما وَضَعَ هذه الترجمات في مساحات آمنة, وأفقدها جزءًا من قدرتها على التأثير, فلم تتبن هذه المؤسسات, ما يصنع توجها ثقافياً تراكميا, عبر بنية تصورية مضطردة, تتبنى حجم المنشور ونوعه, على نحو يحقق أهدافًا محددة, تسعى إلى ثقافة تقدمية من جهة, وتخدم أهدافًا في الاستراتيجية العظمى للدولة في ظل هذا الظرف الحضاري المعاصر منجهة أخرى.
نشرت المشروعات القومية للترجمة في دولنا العربية ترجمات كثيرة, قام بجزء كبير منها مترجمين هواة, وغير متخصصين, فعاب هذه الترجمات نقص الكفاءة, بسبب ضعف أهلية المترجم بالنسبة لواحدة من اللغتين على الأقل, المترجم منها أو المترجم إليها, إن لم يكن لكليهما, على نحو أثر في فائدة هذه الأعمال وأثرها العلمي, فكثير من المترجم والمنشور في الساحة الثقافية العربية الآن -لمن اطلع على أصول هذه الترجمات- هجين مشوه, فضلاً عن أن عددًا من المؤسسات كررت نشر ترجمات سبق صدورها للمترجم ذاته من دور نشر أخر, بل كررت نشر كتب سبق أن ترجمت من مترجمين آخرين, وأعيد ترجمتها, وإن اتفقت معظم هذه الترجمات على أن تنال من اللغة العربية عبر كثرة هائلة من الأخطاء النحوية والأسلوبية والإملائية, فضلاً عن الأخطاء المرتبطة بفهم النصوص الأصلية, ولا أعرف هنا معنى كلمة "مراجعة" الموجودة على عدد كبير من الكتب المترجمة! ويمكنني أن أدلل بأمثلة سافرة على كل ملاحظة من ملاحظاتي من واقع الكتب المترجمة المنشورة في أكثر من مؤسسة مصرية وعربية, فاكتسب مفهوم المراجعة في كثير من ترجماتنا العربية مفهوم التصحيح اللغوي, وذلك في أحوال, وشكلاً من أشكال المجاملة, أو التكسب في أحوال أخر.
أما القضية الأساسية والمهمة هنا فتكمن في غياب استراتيجية لها معالم واضحة, وأهداف محددة, في حركة الترجمة التي تقوم بها المؤسسات الرسمية العربية بخاصة, فهبطت مجموعة من هذه المؤسسات من المستوى الذي يجب أن يكون لها فيه مشروعها القومي المهتم بترجمة مخططة ودقيقة, إلى دور نشر متوسطة القدرة والقيمة, وهذا ما يثير قضية التساؤل عن المدى الذي استفاد به العقل العلمي والأدبي العربي -مجازًا- بهذه الترجمات, فلا نجد لمن لم يقرأ الأصول بلغاتها في تخصصه, أية إسهامات علمية حقيقية تُذكر, لأن النصوص المترجمة في أفضل أحوالها تظل تابعة للنظام الأدبي نفسِه للغة المنقول إليها النص, فالقضية هنا لا تتعلق بجودة الترجمة في نقل الأصول فحسب, ولكن تتعلق بالفرق القائم بين معنى الكلمة اللغوي, ومعناها الثقافي من جهة, وترتبط بالطريقة التي يقرأ بها القاريءُ من جهة أخرى, هذا القاريء الذي يستوعبُ النصوص َ المترجَمَة ضمن الأشكال المألوفةِ للنظام الأدبي أو العلمي لثقافته, وكأنها نصوصٌ منتميةٌ إلى اللغةِ التي تمتِ الترجمةُ إليها.
لكل لغة عبقريتها الخاصة, ينطبق ذلك على اللغات جميعها دون استثناء, هكذا لا يمكن نقل نص من لغة إلى لغة أخرى دون أن تناله درجة من درجات التحريف, والتغيير, وهو تحريف مهم في نظري إذا ما أراد المترجم الحفاظ على روح النص التي أضفتها عليه لغته الأصلية, وذلك في ترجمة الأعمال الإبداعية بخاصة؛ لأن الترجمة لا تتحقق بوصفها غاية جمالية إلا عند ترجمة الأدب, على حد تعبير "بنديتو كروتشه". يشد هذا التناول انتباهنا إلى نقطتين؛ تتمثل الأولى في ضرورة اتقان اللغة التي يترجم إليها المترجم, بل إن هناك من أساتذة الترجمة من يرون أن إتقان اللغة المترجم إليها تزيد أهميته على إتقان اللغة التي يُترجم منها, وها ما يطرح على واضعي المناهج الأكاديمية في أقسام اللغات الغربية والشرقية في جامعاتنا, أن يكون اهتمامهم بمناهج اللغة العربية مساويًّا على المستويين الكمي والكيفي لأهمية اللغات الثانية في هذه الأقسام بعامة, والأمر الذي يعرفه المحترفون هو أن صعوبات الترجمة الحقيقية يقابلها المترجم في لغته الأم, أما النقطة الثانية فتتمثل في أهمية معرفة المترجم للبيئة الثقافية التي نشأت فيها اللغة التي يُترجم منها, لأن أية ترجمة جيدة لأي نص, تتطلب معرفة البيئة الثقافية للغة النص, وهذا ما يوضح أهمية الوعي بالفرق القائم بين المعرفة اللغوية للغة ما, والمعرفة الثقافية لها, فالترجمة القوية هي التي تمثل النص في زمنه وفي مكانه وفي انطباعه أيضًا.
وأذهب إلى ضرورة وضع تصور استراتيجي تكاملي بيم المؤسسات العربية الرسمية, يهتم بوضع أهداف محددة, مرتبطة بتصور زمني يجاوز الاحتفال للعدد, إلى الاحتفاء بالقيمة, فضلاً عن أن أية حركة ترجمة حقيقية يجب أن يتوافر لها جناحان للتحليق, الجناح الأول هو "الاستيراد المعرفي", ذاك الذي تهتم به المؤسسات الثقافية الرسمية العربية الآن, وتقوم به على نحو يراوح بين الاقتراب والابتعاد من رؤية استراتيجية واضحة ومعلنة, ذات أهداف, يرتبط تنفيذها بخطة زمنية, والجناح الثاني هو "التصدير المعرفي", وهو ذاك الاتجاه الذي يهتم بوضع الثقافة العربية في المشهد الغربي المعاصر, ورأيي الخاص يكمن في أن "الترجمة العكسية" هي ما يجب أن يُهتمَّ به, فلم يستفد الواقع الثقافي بأية إسهامات علمية أو فكرية لمن لم يقرأوا الأصول بلغاتها, وسؤالي الذي أطرحه متى تحتفل المؤسسات العربية الرسمية بصدور ألف كتاب عربي مترجم إلى اللغات الأوروبية الأساسية الثلاث "الإنجليزية والفرنسية والألمانية" على سبيل المثال! وهذا ما لن يتم إلا عبر تخطيط علمي دقيق ومخلص يهدف إلى تنفيذ ثلاث مهام متضافرة, تسبقها تعاقدات مدروسة مع دور نشر غربية كبرى: الأولى تبدأ بنشر ما هو ملائم وصالح من آلاف الرسائل الأكاديمية المكتوبة باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من اللغات الأوروبية في مختلف التخصصات, خصوصاً ما نوقش منها في الجامعات الغربية, وهذه خطوة لا تحتاج إلى جهد عظيم سوى تحرير هذه الرسائل وإعدادها, المهمة الثانية تهتم بنقل المهود العلمية والفكرية والنقدية العربية المتميزة إلى اللغات الأوروبية, لتصدير مشكلاتنا العلمية والنقدية والمعرفية, من أجل إسهام من نسميه آخر فيها, عبر الحوار والدرس, أما المهمة الثالثة فتهتم بترجمة جزء من الإبداع العربي المتميز المعاصر إلى اللغات الغربية, هذه في رأيي هي مفردات الجناح الثاني اللازم لحراك مشروع علمي للترجمة يفيد الثقافة القومية من جهة, ويكون قادراً على التحليق في أفق المشهد الغربي المعاصر من جهة أخرى. لا مانع من توافر الاتجاهين بالطبع, ولكننا نتكلم عن الأولويات هنا, فعلى سبيل المثال, نجح أدب أمريكا اللاتينية -وثقافتها المترجمة إلى العربية- في تغيير صورة أمريكا اللاتينية لدى المثقف العربي, حيث استطاعت الترجمات من الثقافة اللاتينية إلى العربية أن تخلق شعورًا بتفوق أمريكا اللاتينية الأدبي لدى القاريء العربي, وهذا ما شكل في العقل الثقافي العربي معالم صورة ذهنية إيجابية لأمريكا اللاتينية ومنحها مكانة خاصة. وهذا ما يطرح الأهمية البالغة لقيام تكامل ثقافي عربي في الترجمة من العربية وإليها, في ظل وجود تكتلات ثقافية كبرى, وثقافة أمريكية تفرض هيمنتها على العالم الآن, فنحن لا نعيش وحدنا منفصلين عن العالم بعد أن أدركنا على حد تعبير جوتلوب فريجه الشهير, "أن نجم الصباح هو نجم المساء".
* (شاعر ومفكر مصري)
#علاء_عبد_الهادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟