|
وباء الديكتاتوريات يلتهم المليارات
شاكر النابلسي
الحوار المتمدن-العدد: 1271 - 2005 / 7 / 30 - 10:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مشكورة هي الدول الصناعية العظمى الثماني التي زادت مساعدتها للدول الفقيرة، لتصل إلى خمسين مليار دولار، وتقوم في الوقت نفسه بإلغاء جزء كبير من هذه الديون المتراكمة على الدول الفقيرة، كما أُعلن في قمة اسكتلندا (يوليو/تموز 2005). وهذا يُعدُّ في حد ذاته حدثاً كبيراً، ولكن لا ينبغي لنا أن ننخدع بالشهامة الظاهرية لهذا الإجراء. ذلك أن قدراً كبيراً من تلك الديون، ما كانت الدول الفقيرة قادرة على سداده على أية حال، بعدما أصبحت هذه الديون في حسابات وجيوب الديكتاتوريين من حكام الدول الفقيرة. فمن الثابت تاريخياً أن قدراً كبيراً من المعونات الأجنبية للدول الفقيرة، لم يكن يُقَدَم لتعزيز النمو، بل لشراء الصداقات، وعلى نحو خاص أثناء الحرب الباردة، كما قال جوزيف ستيجليتز الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد، والنائب الأول السابق لرئيس البنك الدولي في مقاله (نهاية بداية القضاء علي الفقر) في نشرة "المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب" في 14/7/2004.
أين ذهبت كل هذه المليارات التي قدمها العالم الحر للدول الفقيرة في السابق؟
وما هو مصير هذه المليارات الخمسين التي ستملأ خزائن الحكام الديكتاتوريين في الدول الفقيرة؟
ولماذا لا يُعاد النظر في كيفية دفع هذه المليارات، حتى تكفل الدول المتبرعة وصول هذه المليارات إلى بطون الشعوب وليس إلى جيوب وحسابات الحكام الديكتاتوريين في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والعالم العربي؟
ولماذا لا تكون هذه المليارات على شكل مشروعات زراعية وصناعية وصحية وتعليمية ولبناء البُنية التحتية للشعوب الفقيرة، تقوم بتنفيذها شركات من الدول المانحة، موصوفة بالنـزاهة والشفافية والصدقية في التنفيذ، وعدم دفع رشاوى وعمولات وخوّات للأجهزة الحاكمة الديكتاتورية السارقة والناهبة والمفسدة؟
ألم تسأل دول العالم المانحة لهذه المليارات من الدولارات، أين ذهبت المليارات السابقة التي قدمتها في السنوات السابقة للدول الفقيرة؟
أيها الكرماء: لا تدفعوا نقداً
لقد تساءلت الدول المانحة هذه الأسئلة، بعد أن سرق السارقون، ونهب الناهبون. وأدركت أخيراً ضرورة إصلاح حكومات الدول الفقيرة، وربط التبرعات بالإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية. وأنه "لا أحد يريد أن يعطي نقود اًإلى دول فاسدة ، حيث الرؤساء يسرقون النقود، ويضعونها في جيوبهم وحساباتهم"، كما قال بوش صراحةً في اجتماع قمة الثمانية الأغنياء الكبارG8 في اسكتلندا.
إن الحكمة والرُشد، تقتضي بأن لا تدفع الدول الغنية المتبرعة بهذه المليارات للدول الفقيرة نقداً، أو تضع هذه المليارات في حسابها في البنوك، لأن لا حسابات للشعوب في البنوك. فالدول هي الحكام وليست الشعوب. وميزانيات الدول هي ميزانيات الحكام. ولا فصل بين المال العام والمال الخاص. فكله مال الحكام، ولا مال للشعوب.
لكي لا يسطو اللصوص على المليارات
إذا أرادت الدول المانحة أن ترى أثر نعمتها على الدول الفقيرة، فعليها أن تقدم لهم مشاريع تنموية، لا نقوداً.
عليها أن تُرسل لهم شركات المقاولات، لتبني لهم مدارس ومعاهد وجامعات. فالحكام الديكتاتوريون، لا يستطيعون سرقة حجارة المدارس والمعاهد والجامعات، وأبوابها، وفصولها، ومختبراتها، ومكتبتها، وأقلامها، ودفاترها.
عليها أن تُرسل لهم شركات المقاولات لتبني لهم المستشفيات والمصحّات والعيادات المتخصصة، وترسل لهم الأدوية. فالحكام الديكتاتوريون، لا يستطيعون سرقة أسرة هذه المستشفيات، وعياداتها، وأدويتها، وغرف عملياتها، وجاكتات أطبائها، وسماعاتهم، ولباس رأس ممرضاتها.
عليها أن تبني لهم الجسور، وتمدّ لهم الطرقات، بواسطة شركات المقاولات، فالحكام الديكتاتوريون لا يستطيعون سرقة الجسور والطرقات، وبيعها في سوق الخردة.
عليها أن تقضي على الأمية، وتبني المكتبات، وتنشر الكتب والصحف الحرة والديمقراطية، لكي تُعلِّم الناس ألف باء الحرية، وألف باء الديمقراطية، وألف باء الحداثة، وتبعدهم عن التعليم الديني الظلامي الذي يُفقّس الإرهابيين كل يوم ، كما يُفقّس البعوض يرقاته الهائلة العدد.
عليها أن تختار من شركات المقاولات ما عُرف بالنـزاهة وعدم الرضوخ لاكراهات الحكام وأركان الأنظمة (أهل الزمان) الذين يتقاضون الرشاوى والعمولات والخوّات. وأن تضع كل شركة تدفع فلساً أحمر لأي جهة حكومية أو رسمية في القائمة السوداء، ويتمَّ التشهير بها ، وبمن قبض وصرف.
آمال الخبراء الخائبة
بهذه الخطوات سوف ترى الدولة المانحة للهبات بمليارات الدولارات، أثر نعمتها على الشعوب الفقيرة.
لذا، فأنا أعارض شطب ديون الدول الفقيرة ما لم تتم اصلاحات سياسية تقتلع الديكتاتورية والحكام اللصوص من هذه البلدان. لأن شطب هذه الديون يعني أن تصبح الأموال المسروقة التي في جيوب الحكام الديكتاتوريين حلالاً زلالاً على الحكام الديكتاتوريين، وتسمح لهم بسرقة المزيد من هذه الأموال القادمة في المستقبل.
كما أن تدفق هذه الأموال على الدول الفقيرة يشجع الطامعين بالحكم من اللصوص للخروج من ثكنات الجيش واعتلاء سدة الحكم، لا حباً في السلطة وأخطارها، ولكن حباً بأموال السلطة ونعيمها.
فهل تريد الدول الغنية المانحة أن تشجع الحكام الديكتاتوريين على مزيد من النهب والسرقة، لكي تشتري سكوت الحكام، ولكي تمرر مخططات الاستعمار، كما يقول لنا الأصوليون من الدينيين والقوميين؟
فماذا فعلت الدول الفقيرة بكل هذه الأموال التي سبق وقدمتها الدول الغنية المانحة؟
أما أن يرى الخبراء أن الدعم سيكون مفيداً اذا توفرت الخطط والادارات المناسبة ومشاركة المواطن فى صياغة المشروعات الانمائية، واذا توافرت أيضا شروط انفتاح أسواق الشمال والبلدان الغنية أمام منتجات البلدان الفقيرة، خصوصا تلك التى تكتسب ميزة التنافسية العالية مثل المنتجات الزراعية والصناعات التحويلية.. كل هذه الخطط لضمان وصول الأموال إلى منافع الشعوب الفقيرة من صنع خيال الخبراء، الذين لا يدركون عتو وطغيان الحكام الديكتاتوريين للدول الفقيرة.
الجوع والموت رغم المليارات
لقد أُطيح بالحكام الديكتاتوريين في بلادهم بالطرد أو بالموت أو بالاغتيالات، وقد سرقوا كل الهبات والمنح والأموال التي قُدمت لدولهم، وأودعوها في حساباتهم في مصارف سويسرا. ولو كان لهذه المصارف أو لهذه الحسابات ألسنة تتكلم، لسمعنا ما يشيب له الولدان!
نسوق مثالاً واحداً، يكفي ويعفي ويوفي. فقد أصدرت المحكمة العليا في سويسرا أمراً الى البنوك السويسرية باعادة 458 مليون دولار، مودعة في حساب ديكتاتور نيجيريا السابق ساني أباتشي، الذي مات من تأثير منشط "الفياجرا"، وكانت حكومة نيجيريا المنتخبة قد تقدمت بطلب للبنوك السويسرية والأوروبية للحجز على حسابات الحكام العسكريين واعادتها للخزينة النيجيرية، لتمويل الخدمات الصحية والتعليم والبنية التحتية.
يذكر بعض الخبراء طبقاً لتقارير إعلامية، نُشرت عشية قمة الدول الصناعية (يوليو/تموز 2005) أن ودائع أثرياء القارة الافريقية فى الخارج، تصل إلى نسبة 40 ٪ من ممتلكاتهم. لذلك، فإن الشكوك تطاول أيضا قدرة البلدان المعنية على الافادة من الدعم الخارجى وبعضها يعتمد أساساً على المعونات الخارجية على مدى عقود. ولا يزال البعض الآخر يحتاج المساعدة، لكنه يفتقد القدرة على استيعاب المعونات الخارجية، ولا يمتلك كفاءات وضع برامج الانماء المطلوبة.
ولاحظ مراقبون، أن مستوى دخل الفرد فى بلدان الساحل الافريقى (جنوب الصحراء)، تراجعت إلى دون ما كانت عليه فى الستينيات، رغم عودة شبكات التلفزيون العربية للضغط فى الأيام التى سبقت قمة الأغنياء فى اسكتلندا (يوليو 2005)، ببثها تقارير ومشاهد، تصوّر اتساع مساحات الفقر والمجاعة فى الدول الفقيرة.
كما يرى مراقبون، ومنهم رئيس "برنامج الألفية" فى الأمم المتحدة، جيفرى ساشسن، بأن بلدان المنطقة المدارية، تعاني من انتشار الأوبئة، اذ تحصد الملاريا 85 ٪ ( 2و1 مليون نسمة) من اجمالي ضحايا الوباء، ويموت فيها 75 ٪ (1و3 مليون) من إجمالي الذين يغادرون الحياة جرّاء مرض فقدان المناعة (الايدز).
حكام العرب الفقراء أكثر الحكام فساداً
نشر البنك الدولي في الفترة الأخيرة تقارير تبين لنا أن أكثر حكام الدول الفقيرة لصوصية هم حكام الدول العربية الفقيرة. وأن الدول العربية المحتاجة للمساعدات هي أكثر الدول فساداً وتسيباً مالياً. ومن هنا فقد ابتعد المستثمرون عن الاستثمار في البلاد العربية إلا ما ندر، وما ضاق، وما تهوّر، وما جَهِل!
ويقول مايكل كلاين نائب رئيس البنك الدولى ورئيس الاقتصاديين بمؤسسة التمويل الدولية "أن الدول الفقيرة التى تحتاج بشدة إلى المشروعات الجديدة وزيادة العمالة تزداد تخلفاً عن الدول التى قامت بتبسيط الإجراءات التى تساعد على خلق أطر أكثر ملاءمة للاستثمار. " والسبب بكل بساطة هو انتشار الفساد والرشاوى والخوّات والعمولات .. الخ.
وجاء في بعض هذه التقارير، إن أفضل 20 دولة اقتصادية بالنسبة للتعامل التجارى والاستثماري هى : يوزيلندا، الولايات المتحدة ، سنغافورة ، هونج كونج ، الصين ، استراليا ، النرويج ، المملكة المتحدة ، كندا ، السويد ، اليابان ، سويسرا ، الدانمرك ، هولندا ، فنلندا ، ايرلندا ، بلجيكا ، ليتوانيا ، سلوفاكيا ، بوتسوانا ، وتايلاند .
ويلاحظ أن لا دولة عربية بين هذه الدول. وهذا عائد إلى مدى استشراء الفساد والتسيب الإداري وانتشار الرشاوى والخوّات وتقاضي العمولات الباهظة من المستثمرين الأجانب. وما زلنا نبكي ونشكي الفقر، ولم نعلم أن كل ما يصيبنا هو من صنع أيدينا، ومن أنفسنا، حتى فقرنا وتعاستنا.
#شاكر_النابلسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف سيثأر العرب لقتلاهم؟
-
كفى ضحكاً على ذقون الفلسطينيين
-
العرب وصمت القبور !
-
هل يريد الأصوليون حقاً قتل القمني، ولماذا؟
-
سيّد القمني: بئس المفكر الجبان أنت!
-
الليبراليون الجُدد أبناء المستقبل
-
ذوقوا عذاب الإرهاب الذي كنتم به تستضيفون
-
هل دُودَنا مِن خَلِّنا، أَمْ مِن خَلِّ الآخرين؟!
-
-الإخوان الموحدون-، بدلاً من -الإخوان المسلمين-
-
هل ستبقى المرأةُ السعوديةُ مُكرّسةً للعَلَف والخَلَف فقط؟!
-
-الزلفيون- والمسألة النسوية السعودية
-
لماذا العفيف الأخضر ضرورة الآن؟
-
هل سيأتي الإخوان المسلمون بالطوفان الأكبر؟
-
هل سيدخل الإخوان المسلمون القفص الذهبي؟
-
كيف كانت الأصولية عائقاً سياسياً للعرب؟
-
هل بقي ببيروت مكانٌ لقبر آخر؟
-
حصاد التوغّل الأمريكي في الشرق الأوسط
-
هل غرقت أمريكا حقاً في -المستنقع العربي-؟
-
كيف دخلت أمريكا جهنم العرب؟
-
الطريق إلى الديمقراطية السعودية
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|