|
من ارشيف طبيبة...ذات الرداء الأسود
حنان فوزي المسعودي
الحوار المتمدن-العدد: 4492 - 2014 / 6 / 24 - 23:59
المحور:
سيرة ذاتية
من ارشيف طبيبة..... ذات الرداء الأسود.....
صعق الرجل الستيني حين اخبره ألأخصائي عن إصابته بسرطان الحنجرة المتقدم....راقبت هلعه وانفعاله الواضح بينما كنت اقوم بتحضير أدوات الفحص والتنظير للطبيب الأخصائي المشرف علي..... لطالما تساءلت عن شعور المريض حين نقوم بإخباره بهذا التشخيص القاسي...مزيج من الذهول والرعب والإنكار...فمعظم المرضى لايستطيعون إخفاء نظرات الشك في قابلية الطبيب حين يستمعون لهذا الخبر المفجع. تقرر ان يخوض الرجل عملية رفع كامل للحنجرة بعد إسبوع وهي من العمليات فوق الكبرى وألتي تتطلب رعاية خاصة بعد إجراءها بسبب عدم قدرة المريض على الكلام او التنفس او تناول الطعام بصورة طبيعية لمدة عدة أسابيع بعد إجراءها..... كان يصاحب مريضنا زوجته وأولاده....لاحظت ان رد فعل الزوجة تجاه ما أخبرناهم به كان باردا وغير متوقع...فعزوت السبب إلى الصدمة الأولية...ولم يكن رد فعل الأبناء بأفضل منها...فقد إنشغل أحدهم بالرد على هاتفه المحمول بينما كان الأخر يمضغ العلكة بلا إهتمام. صارحني الطبيب الأخصائي بمخاوفه الخاصة من تلك العملية ولهذا المريض بالذات...حيث ان الرعاية بعد الجراحة كانت لاتقل أهمية عن الجراحة بحد ذاتها...ولم نلمس من ذويه ذلك الأهتمام والتفاعل الانساني المتوقع في هذه الحالات..... في صباح يوم العملية جاء المريض هادئا مستسلما وهو يتمتم ببعض الأدعية والصلوات الخاصة ولم تمض دقائق حتى غاب عن عالمنا وإستسلم كليا لمشرط جراحه البارع. بعد خمس ساعات كان يستلقي نصف نائم في غرفة خاصة بينما احاطت به أكاليل الزهور التي أرسلها اقربائه ومعارفه...أتيت مع الطبيب الجراح بصفتي طبيبة مبتدئة للتأكد من حالة المريض وعلاماته الحيوية بعد إجراء ألجراحة...لفت إنتباهنا إن زوجته ألتي رأيناها قبل أيام وأولاده لم يتواجد منهم أحد بينما جلست إلى جواره إمرأة بعمره تقريبا أو اصغر قليلا وهي متشحة بالسواد وتتضرع بيأس لشفاء عزيزها.... لم يكن من اللائق طبيا ولا إجتماعيا ان نقوم بسؤال المرافقة عن صلتها بالمريض ولكننا خمنا بأنها شقيقته.... كانت الأيام التالية صعبة جدا حيث توجب علينا تنظيم علامات المريض الحيوية والسيطرة على ضغط الدم وكذلك الدقة الشديدة في إعطاءه المحاليل الوريدية ومراقبة عمل الكليتين في نفس الوقت..ومن اصعب الأشياء تعامل المريض مع الخرس الألزامي الذي يصاحب العملية..فلم يكن يستطيع التعبير عن أوجاعه او إحتياجاته الخاصة....كنت قريبة جدا منهم في تلك الأيام وذلك لأن عناية المرضى بعد العملية تعتبر من واجبات الطبيب المتدرب وليس الجراح الأخصائي... لمست والحق يقال من تلك المرأة حنوا ورعاية للمريض لم اعهدها في مرافق من قبل...فكانت تقوم بتقطير السوائل والعصائر إلى معدته قطرة قطرة مثلما يطعم العصفور اولاده....وتمسح جبينه المندى عرقا بفوطة نظيفة معطرة...حتى عندما يخلد للنوم كانت تجلس الى جواره تراقبه أو تصلي ... وبفضل الرعاية التي ابدتها ذات الرداء الأسوء لمريضنا فقد تحسن بسرعة وتقرر مغادرته للمشفى بعد إسبوع واحد من إتمام الجراحة.... لم اتمالك نفسي وفضولي الذي كان يقتلني رغم تعارضه مع المهنية الطبية...ووجهت اليها السؤال الذي ظل يدور في خلدي منذ أيام...."من أنت ؟؟....أأنت شقيقته " اجابت بعد إبتسامة حزينة "لا...أنا زوجته " صعقت مما سمعت لأني كنت قد التقيت بزوجته الرسمية في يوم التشخيص وقبلها عدة مرات خلال الفحوصات الأولية...فتناسيت كل القواعد والأخلاق الطبية المتزمتة وسألتها..... "لم أكن أعلم أن لديه زوجة ثانية فقد إلتقيت بزوجته وأبناءه قبل إجراء الجراحة.." أضافت بأسى...."نعم...أنا زوجته الأولى...ونحن منفصلين...ولكني لم استطع ان أتركه يواجه محنته تلك لوحده خاصة وإن الزوجة الثانية وأولاده مرتبطين بالعمل والدراسة وليس بمقدورهم رعايته بينما أنا متفرغة فلست أعمل وليس لدي ابناء...إنما أتيت لمساعدته لوجه الله تعالى..وستنتهي علاقتي به بعد مغادرتنا اليوم " طافت كلماتها الحزينة تلك في مخيلتي وزادت من حيرتي وإحترامي لها....الزوجة الأولى..التي لم ترزق بالأطفال...من الواضح جدا ماهو سبب وجود الزوجة الثانية..... ودعتهما وأنا واقفة في باب ردهة الجراحة...اراقبها وهي تسند زوجها او مريضها على ذراعيها لتساعده في ركوب سيارة الأجرة بعد ان لم يأت أحد من اولاده لأصطحابه... . مرت أشهر وأنا أعمل ..وإنتقلت إلى قسم أخر حتى ظننت إني نسيت ذلك المريض وزوجته الوفية....وكان يوم....إن إستقل ذلك المريض المصعد معي برفقة الزوجة الثانية...أم الاولاد....وقد بدا اكثر صحة وتفاؤلا.... تذكرني الأثنان...فسلموا علي...وأخبروني بأنهما قد أكملا توا الفحص الدوري المختص بمتابعة نتائج العملية وإن الطبيب الجراح راض جدا عن تقدم حالة المريض....كانا يبدوان سعيدين....وقد ارتدى المريض بدلة رسمية بينما أكثرت الزوجة من وضع مساحيق التجميل والعطور....ثم أخبراني ساعة الوداع بأنهما ذاهبين للأحتفال بشفائه في إحدى المطاعم الجديدة في المدينة..وقاما بدعوتي...ولكني إعتذرت متذرعة بالعمل....وودعتهما....وأنا اراقب فرحتهما معا...واتساءل عن ذات الرداء الأسود....هل نالها حظ من هذا الأحتفال....لا أدري.....
#حنان_فوزي_المسعودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إلى أمية جبارة....
-
انا وأنت
-
لماذا نحب ؟؟
-
حب مشروط
-
إلى حبيب في الوقت الضائع
-
إلى حبيب من خارج مجرتنا
-
الى حبيب مختلف...
-
ترنيمة انتخابية..
-
السليمانية...بين العلمانية والاسلام المعتدل/نموذج لابد من تأ
...
-
وعدتني...
-
الى شهريار
-
صديقتي.....كوني عقلانية
-
من أرشيف طبيبة 6....-الطريق المرسوم-.
-
الف فيس وفيس...
-
إلى معجب اوربي...
-
يوم السقوط ام يوم التحرير..
-
إليها....
-
الى لص...
-
رفيق الموت
-
الى ذاكرتي
المزيد.....
-
تامر حسني يشارك فيديو مؤثر مع صديق عمره الراحل محمد رحيم
-
شاهد كيف وصفت مراسلة CNN أجواء الهدنة في لبنان
-
إسرائيل تنتهك وقف إطلاق النار والحكومة اللبنانية تستنكر.. فه
...
-
باكستان تشهد تصاعدا في التوتر.. اتهامات جديدة لعمران خان وزو
...
-
منظومة -إسكندر- الروسية تدمر خمس راجمات صواريخ -أتاكمس-
-
ميقاتي يجدد الدعوة إلى -الضغط على إسرائيل لوقف خروقاتها-
-
وزير الخارجية الألماني السابق يتهم الولايات المتحدة بالفوضى
...
-
قاعدة جوية مصرية تستضيف تدريبا مصريا أمريكيا (صور + فيديو)
-
عبد الملك الحوثي: سنواصل مهاجمة إسرائيل والسعي لأمر أعظم لدع
...
-
نتنياهو يهدد حزب الله بحرب طاحنة شاملة ويعتبر ما جرى في لبنا
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|