نبيل عبد الأمير الربيعي
كاتب. وباحث
(Nabeel Abd Al- Ameer Alrubaiy)
الحوار المتمدن-العدد: 4492 - 2014 / 6 / 24 - 08:23
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كل القوانين التي تنظّم الحياة الاجتماعية كانت في حاجة إلى تبرير ديني , بينما بينّت العلوم الحديثة للإنسان والمجتمع بما لا يدع مجالاً للشك أن الأعمال الصادرة عن البشر هي أعمال تاريخية نسبية .
ولو تابعنا الدولة الإسلامية ونشأتها فنجد انها لم تنشأ في عهد الرسول وإنما نشأت بصفة تدريجية في عهد أبي بكر , وبالخصوص في عهد عمر ابن الخطاب . على غرار الامبراطوريتين الساسانية والبيزنطية , أي أنها لم تكن دولة بالمفهوم الحديث , بل دولة على نحو النظام الإمبراطوري , لأن الإمبراطورية ليست لها حدود جغرافية معّينة , وهذه الدولة الإسلامية كان الدافع إلى توسعها لدى رعاياها دافعاً دينياً من ناحية , ولكنه أيضا دافع الغنيمة التي يجنيها الداخلون في كنف هذه الدولة وفي ظلها , والذين شاركوا في الفتوحات. لذلك نجد إن ما اقتضى لهذه الدولة الدينية هو مأسسة الدين لا الدين في حدّ ذاته.
عندما استقرّت رقعة البلاد الإسلامية نسبياً , انتشر الإسلام في مناطق لم تكن تعرف هذا الدين بتاتا , وبالخصوص في آسيا , حيث نجد اليوم أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان وهي اندونيسيا , واندونيسيا لم تفتح بالسيف ولم ينتشر فيها الإسلام بفضل الفتوحات , وإنما انتشر بفضل التجار وبفضل المتصوّفة وبطريقة لا علاقة لها بالدولة الإسلامية .
ونحن نسأل , كيف يمكن أن نصف الدّول والإمبراطوريات التي نشأت سواء في عهد الخلفاء الراشدين أو في عهد الدولة الأموية أو العبّاسية ؟
بدأ الأمر مع الأدارسة في المغرب الأقصى ومع الأغالبة في تونس ثمّ انتشر في بلاد المشرق حتى أن بغداد مركز الخلافة العباسية سقطت في القرن الرابع الهجري في أيدي البُويهيين , ثم السلاجقة من بعدهم , مما يدل على أن الصلة بين الدولة المركزية الجامعة والإسلام إنما هي صلة مرابطة بظرف تاريخي معيّن . فالدولة التي نشأت هي إسلامية لأن القانون الذي ينظم الحياة الاجتماعية فيها هو قانون ذو صبغة دينية . فرجل الدين كان محتاجاً إلى رجل السياسة ليطبق الأحكام في تنظيم الحياة الاجتماعية , ورجل السياسة كان بدوره محتاجاً إلى رجل الدين لإضفاء الشرعية على حكمة الذي هو ليس دينياً .
لذلك يمكن أن نعتبر هذا الأساس أن الإسلام السياسي إنما ظهر في الحقيقة بمفهومه الحديث , المتعارف عليه اليوم , في فترة ما بين الحربين من حركة الإخوان المسلمين , لا قبل ذلك , وبالتحديد في سنة 1928 , مع حسن البنّا . وكان تأسيس هذه الحركة من ضمن ردود الفعل على إلغاء مصطفى أتاتورك للخلافة العثمانية . فإننا نعتبر أن حركات الإسلام السياسي اليوم هي وليدة هذه الحركة الأم سواء نشأت من صلبها بصفتها فرعاً لها , أو انشقت عنها , أو كانت على هامشها أو كانت متعاطفة معها ومتفقة على رؤيتها.
حركة الإخوان المسلمين ظهرت في نفس الفترة وعلى نفس شاكلة الحركات التي تسمى (كلّيانية) , سواء كانت فاشية أو نازية أو غيرها . فالتنظيم الذي كان متوفّراً للمشرفين الأوائل على هذه الحركة هو تنظيم الحركات الفاشية الكليانية . وهذا التنظيم له ركائز عديدة بطبيعة الحال , ولكن له بالخصوص ثلاث ركائز أساسية هي : الشعبوية , عصمة الزعيم , الانضباط , أي انضباط القواعد لما يصدر عن القمّة .
فترة الهزيمة التي حصلت للعرب مع إسرائيل في عام 1967 التي كان لها ضلع كبير في انتشار هذه الظاهرة , وهناك أيضاً التقارب الذي حصل بين حركة الإخوان المسلمين أو الإسلام السياسي في مصر والوهابية الصاعدة بفضل المال الناتج عن الرّيع البترولي , مما ولد تنافس من الالتقاء , لقد التقى الإسلام السياسي الناتج عمّا قبل الدولة الحديثة , مع الإسلام السياسي الناتج عن ردود الفعل على الدولة الحديثة في مصر , ونحن نعتبر (جون بايدن) هو مؤسس النظرية الحديثة للدولة في مؤلفه الشهير للجمهورية (Les Six Livres de la Repubique) في اواخر القرن السادس عشر , ثم تواصل هذا التأسيس للنظرية الحديثة للدولة بالخصوص مع توماس هوبس في مؤلفه ( Le Leviathan) سنة 1651 ثم مع جان جاك روسو في العقد الاجتماعي سنة 1762 , هذا فضلاً عن مونتسكيو وغيره بالطبع .
نعود لنوضح التقارب الذي حصل بين الإخوان المسلمين والوهابية , إذ كان التقارب جيداً وهنالك بعض الأعلام شاركو في ترسيخة ومنهم بالخصوص محمد رشيد رضا الذي نشر الفكر الحنبلي , وحصل على يديه التقارب بين الوهابية المنتمية إلى الحنبلية والإسلام السياسي في مصر . من هنا كانت هذه السلفية التي يدّعيها سواء الوهابيون أو الإسلامويون أو الحركات الإصلاحية المختلفة في العالم الإسلامي , وقد ظهرت نتيجة لهذا التقارب سلفيات لا سلفية واحدة وبعضها تدّعي بأنها علمية ومن بينها سلفية رجل كـ(علال الفاسي ) الذي نشر كتابه (النقد الذاتي ) سنة 1951 ودافع عن نوع من السلفية لا صلة لها بالسلفية التي انتشرت في أواخر القرن التاسع عشر .
من خلال متابعاتنا لشعارات الإسلام السياسي في الآونة الأخيرة , نجد الإسلام السياسي يقدّم نفسه على أنه هو الحل لكل مشاكل المجتمع , لكن حينما نقرأ أدبيات الإسلام السياسي , بكل تجرّد وموضوعية , فإننا نلاحظ أنه يفتقر إلى برنامج اقتصادي غير رأسمالي , وإن ادعى عكس ذلك . إن له برنامجاً سياسياً يتمثل في إرادة الاستيلاء على الحكم والبقاء فيه , لأن الديمقراطية بالنسبة إلى أصحاب هذا التيار لا تعني شيئا. الديمقراطية دائماً فيها حكم الشعب , وإذا كان الإسلام السياسي يرى أن الحكم إنّما هو لله لا للشعب , فإنه ينكر أن تكون الديمقراطية الضمانة لانتشار الإسلام وضمانة التقدّم والمناعة والكرامة .
كان للإسلام السياسي بعض منظرين منهم على وجه الخصوص السيد قطب في مصر وأبا الأعلى المودودي في باكستان . لقد مضى على عهد الزعامات الفكرية الإسلام السياسي الآن أكثر من 40 سنة , وفي الفترة الراهنة التي وصل فيها الإسلام السياسي إلى الحكم , ما لا بدّ من التأكيد عليه هو أنّ مرجعياته قديمة , تنطبق على ظروف غير الظروف الحاضرة , وليست له اليوم مرجعيات فكرية تقوده نحو التفاعل مع الأوضاع القائمة في المنطقة , وهذه أزمته الحقيقية ومأزقهُ لأنه عجز عن أن ينتج مرجعيات فكرية متناغمة مع الأوضاع المعاشية في المنطقة , وبقي يعمل على تطبيق حلول قديمة بنسبة كبيرة .
لقد وقع الشباب العربي في العقدين الأخيرين ضحية التيارات التي تغدق عليه الوعود الجوفاء بالعيش الهانئ الرغيد في ظل الحكم الإسلامي المستأنف لحكم الخلفاء الراشدين , لكن كبت الحريات والتصحر الثقافي كان واضحاً من خلال ما يعرف بالإسلام السياسي في المجتمعات العربية المعاصرة , والبعد الثقافي هو المسكوت عنه في العادة , أو الذي يثير في أذهان الناس نوعاً من اللّبس بين مقتضيات الدين ومقتضيات السلوك السياسي القديم .
حين ننظر في النظم والمؤسسات المجتمعية التي تسمّى إسلامية , نلاحظ أنّها مرتبطة بوضع تاريخي معين , وأنّها لا يمكن أن تكون صالحة لكل زمان , ثم إن الحاكم في عصرنا , ليس كما هو شأن ما كان في عهد الخلفاء , بأن الفقه السياسي الإسلامي التقليدي كلّه يُبايع عند توليه الحكم ثم لا يحاسب بعد ذلك , هذا غير ممكن في الأنظمة الحديثة , لأن الحاكم لا يبايع بل يُنتخَب , وينتخب لمدة معينة , إضافة أن في الأنظمة الديمقراطية يوجد مواطنون لا رعايا , وهنالك مساواة بين جميع المواطنين والحقوق والواجبات متكافئة لدى عامة المواطنين , ثم أن الحاكم يحاسب عند توليه الحكم وفي آخر الفترة التي انتخب لها .
من القيم الحديثة قيمة الحرية , والتي معناها أن يفعل الإنسان كل ما يرغب فيه ما دام لم يتعدّ على حرية الآخرين ولم يدّع إلى العنف وإلى التمييز بين البشر , فهذا المفهوم لم يكن موجود في القديم بل هي قيمة جديدة , إضافة إلى قيم أخرى ظهرت في المجتمعات الحديثة لم تكن موجودة في المجتمعات القديمة منها الابتكار والاختراع وتجاوز حدود المعرفة السائدة , أي أن المواطن لا ينبغي أن يكون تحت وصاية أيّ كان إلا يرضاه , لا وصاية الحاكم ولا وصاية الزعيم أو الولاة على الحكم .
الفكر السائد لدى الإسلام السياسي يلتقي في كثير من النواحي مع الفكر التقليدي الذي ينتشر في المعاهد الدينية والمؤسّسات الجامعية التقليدية , فالصفة الغالبة عليه هي (الترْمِيق) أي أنك تأخذ ما يناسبك وتنسى أو تتناسى ما لا يناسبك وتتغافل عنه , بدون أن يستند الاختيار إلى منطق داخلي صارم , ويؤدي هذا (الترْمِيق) في كثير من الحيان إما إلى انفصام الشخصية وإما إلى الانزواء عن المجتمع وعدم الاندماج اندماجاً كاملاً في الحياة العصرية . وقد يؤدي كذلك في ظروف معينّة إلى السلوك العنيف , السلوك الإرهابي , إلى التمرد على السلطة والتمرد على المجتمع , وهذا ما حصل ويحصل في المجتمعات العربية من تنظيمات اصولية سلفية قد تجاوزت تنظيماتها التكفيرية العشرات وقد عاثت في الأرض فساداً وقتل وتهجير باسم الإسلام , وكل هذا يدور في صالح القوى الامبريالية وإسرائيل , فمصالح إسلام البترول والقوى الامبريالية وإسرائيل معاً ما يحدث الآن في العراق وسوريا بتنظيم إرهابي يدعى (داعش) التي حملت السلاح للقضاء على العملية السياسية الآن في العراق , لقد حمل هذا التنظيم على إجهاض كل نفس تحررية تدعوا للاستقرار والسلام والعيش بأمان .
ليس من مصلحة تلك القوى التي ذكرناها أن تنتقل سائر الشعوب العربية والإسلامية إلى المرحلة التي تستطيع فيها أولاً أن تدافع دفاعاً حقيقياً عن وجودها , ثم أن تزاحم القوى الأخرى مزاحمة فعالة , لا بالشعارات والاوهام وبأمجاد الماضي , بل بامتلاك أسباب القوة في عصرنا , وأخيراً فإن مقولة (أسلمة المجتمع) لدى الإسلام السياسي مقولة خاطئة من أساسها , لأن ما يراه الإسلاميون الداعشيون والقاعديون هو زيغاً عن الإسلام وابتعاداً عن تعاليمه هو في جوهره يحث المسلمين عن حلول غير مسبوقة لمشاكلهم , وقد اتخذ قادة الإسلام السياسي الموقف القائل بأنك علماني أو تغريبي أو منسلخ عن الإسلام أو عدو له وغير ذلك من التهم الجاهزة والفهم الشائع للجمود , بينما العلماني يدعو إلى فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة حفاظاً على الدين ونصوصه , ويكفي المسلمين اليوم ما عانوه في تاريخهم من جراء التطرف الديني للجماعات المسلحة من الحركات الإسلامية المتطرفة , وقد آن الأوان أن تستفيق المجتمعات العربية وتواجه التحديات لهذه التنظيمات المتطرفة , وأن يوجهوا التحديات بالوسائل الناجعة النبيلة , فيضيفون حقاً إلى الحضارة ما به من نعمّ الحرية والمساواة بين البشر , ليسود الأخاء ويتقلص العنف وتنشر الرّحمة.
#نبيل_عبد_الأمير_الربيعي (هاشتاغ)
Nabeel_Abd_Al-_Ameer_Alrubaiy#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟