بولندا بين زمنين
( الحلقة
الثانية)
نوفمبر2002
في ربيع سنة 1984 سافرت إلى بولندا لتلقي العلاج
في إحدى المستشفيات بضواحي مدينة وارسو, وصلت تلك البلاد ولم يكن عندي فكرة عن
بولندا سوى أنها دولة اشتراكية تواجه متاعب سببها التدخل الرأسمالي والإمبريالي في
شؤونها الداخلية والمؤامرات التي تحاك داخليا وتتلقى الدعم من الخارج للقضاء على
النظام الاشتراكي العتيد. كانت الأوضاع الداخلية لبولندا أكثر هدوءا واستقرارا من
السنوات التي تلت إعلان حالة الطوارئ في البلاد نهاية السبعينات وبداية الثمانينات
بعد التظاهرات الضخمة التي أقامتها المعارضة المسنودة من الكنيسة ضد النظام الحاكم
وضد حلف وارسو وتدخلات موسكو بالشؤون الداخلية للبلاد. لكن الأزمة الاقتصادية
الخانقة كانت لم تزل ظاهرة للعيان وواضحة المعالم. وكان وضوحها جليا عندما يذهب
الإنسان للتسوق والشراء في المحلات التجارية. بعد قضاء عدة أيام في أحد الفنادق في
العاصمة البولندية,حيث تعرفت هناك على السفير الفلسطيني آنذاك الصديق أبو كرمل عبد
الله حجازي, الذي وافق فورا على طلب دراستي في بولندا وكان حريصا على حصولي على
المنحة الدراسية بعد عودتي من العلاج وهذا ما حصل فعلا. كما كنت في الفندق المذكور
تجاورت في السكن مع قائد فلسطيني كبير اصبح الآن في ذمة الله, هو الشهيد طلعت
يعقوب,هناك و إثناء إحدى جلساتنا في الفندق في غرفة أبو يعقوب , حضر أحد الشعراء
الفلسطينيين المعروفين,وكان هذا الشاعر كلف قبل فترة من قبل الأمانة العامة لاتحاد
كتاب فلسطين بالسفر من دمشق إلى إحدى
الدول العربية لإجراء حوار مع الذين قرروا عقد مؤتمر انشقاقي عن الاتحاد الأم في
صنعاء باليمن. وكان يرأس الأمانة العامة للأتحاد السيد يحيى يخلف قبل أن يلتحق
لاحقا بأهل أوسلو ليصبح فيما بعد مديرا في إحدى وزارات السلطة العتيدة حيث رزقه
الله بالمال والمنصب و رضا السلطان. المهم شاعرنا الذي ذهب للصلح والوحدة فظل
البقاء هناك والالتحاق بالانشقاق. جاء الشاعر الذي كان في زيارة لبولندا زائرا عند
الراحل أبو يعقوب, وكان التنظيم الذي يقوده طلعت يعقوب وأنشق عنه السيد أبو العباس
ملتحقا بمن مولوه وشجعوه على الانشقاق بلا سبب وجيه, يعيش أزمة مالية خانقة سببها
الحصار المادي المفروض عليه من قبل القيادة المتنفذة في م ت ف بالإضافة لبعض
الأنظمة التي كانت تريد خدمات مقابل المساعدات. ورغم معرفة هذا الشاعر بمشاكل التنظيم ألا أنه جاء طالبا
المساعدة من القائد الشريف والنظيف. وأنا أجزم هنا أنه لم يكن لدى المرحوم طلعت
يومها سوى ألف دولار قام بإعطائهم للشاعر, قلت لأبي يعقوب, يا رفيق طلعت ما الذي
فعلته,ألا تعرف بأننا بلا فلوس وأن الأخ الشاعر يملك مالا أكثر مما أعطيته؟ كان رد
أبو يعقوب بأنه يجب أن نكرم الشعراء والأدباء... أما شاعرنا المذكور لم يكلف نفسه
عناء كتابة كلمة واحدة عن الراحل طلعت يوم رحل أو بعد رحيله. و بعد سلام الشجعان
العتيد أصبح الشاعر أيضا مديرا في إحدى وزارات السلطة الفلسطينية
العتيدة.
تحدثت عن
تلك الحادثة لأن لها علاقة بالوضع, فقد كان البعض يأتي إلى بولندا للسياحة وللإقامة
في الفنادق وممارسة الممنوعات بأموال المنظمة والمنظمات. وفي تلك الأيام كانت
البلاد تعاني من أزمات في المواد الغذائية والملابس. مع أنني كنت في العاصمة وارسو
شاهدت في بعض المحلات المحترمة, بدلات جيدة بأسعار رخيصة, مثلا بدلة بسعر 10
دولارات أو أقل,وكنت أقول يا لرخص الحياة في هذه الدول الأشتراكية. لكني اكتشفت
لاحقا بأن معظم البولنديين ليس بمقدورهم شراء البدلة لأن سعرها يفوق مرتبهم الشهري
بكثير. إذا ما الفائدة من البدلة إذا كان الإنسان لا يستطيع
شراءها.
بعد دخولي المستشفى وإجراء عملية جراحية
تكللت بالنجاح, مكثت فترة في المستشفى المذكور, حيث تعرفت على بعض الأصدقاء من جرحى
المقاومة الفلسطينية. وافقت على التخلي عن غرفتي التي كنت أقيم فيها وحيدا وأكتشفت
لاحقا أنه لم يسبقني أحد من الجرحى ولم يحظى أيا منهم بهذا الكرم, وعلمت لاحقا أن
الواسطة التي كانت وراء ذلك الكرم والتميز, كانت من أهم الرؤوس التي تقود الدولة.
المهم تخليت عن هذا الامتياز الكبير جدا, وقررت الانتقال للسكن مع جريح فلسطيني آخر
في غرفة تتسع لسريرين فقط. شكلنا معا خلية واحدة في غرفة واحدة, ثم تكاثرت أعداد
الجرحى الفلسطينيين في المشفى وتوزعوا على معظم الغرف. كانت الغرف في المشفى
مجهزة لعدة أسرة ولعدة مرضى,
باستثناء بعض الغرف. لكني وبما أنني تخليت عن امتيازي و غرفتي الصغيرة, سكنت فيما
بعد مع الصديق إبراهيم وكان جريحا من جرحى الثورة وأصبحنا صديقان جراحا
ومشفى..
في يوم من الأيام قررنا الذهاب لشراء مواد
تموينية, بعض السكر واللحوم والشراب, دخلنا إلى محل تجاري صادفناه في طريقنا,
توجهنا إلى قسم اللحومات لشراء بعض اللحم والدجاج, كان في المكان صف طويل من الناس
ينتظرون في الطابور, أخذنا مكاننا معهم وكانت تقف خلفنا شابة بولندية,عندما جاء
دورنا طلبنا ما نريد من اللحم, وكم كان وقع المفاجأة كبيرا علينا عندما طلبت
العاملة في المحل منا " الكوبون" وهذا الكوبون هو بطاقة تموينية يوجد فيها عدة
كيلو غرامات من اللحوم والسكر والأرز والزبدة وغيرها
من المواد التموينية التي تحق لكل مواطن بولندي خلال كل شهر من السنة. طبعا قالت
كلامها باللغة البولندية ولم نكن يومها أنا وإبراهيم صديقي نفهم من تلك اللغة سوى
بعض الكلمات ومعظمها من كلام الشارع. لكن النجدة جاءت من الشابة التي كانت تقف
خلفنا في الطابور إذ قامت بالترجمة من البولندية للإنكليزية, بعد تلك الترجمة
السريعة فهمنا أن اللحم في الدكان أغلى سعرا من اللحم في المستشفى أو في الفندق.
لكننا خرجنا من المحل بنصف كيلو غرام من اللحمة وبكيلو غرام سكر وآخر من الأرز بفضل
مساعدة الشابة التي أعطتنا نصف حصتها من اللحم وبفضل العاملة في المحل التي باعتنا
السكر والأرز بدون كوبون وبشكل غير شرعي إذ أكتشف قد يكلفها عملها.
هذا قليل من كثير, وليس
باستطاعة المرء أن يقص كل القصص الآن, لأن ما عشناه هناك كان فعلا غريبا وعجيبا
ومثيرا. لكن الأمور تغيرت بالتدريج فيما بعد وأخذت تتحسن بشكل ملموس مع مرور الزمن.
لكن الناس كانوا أفضل وأكثر احتراما وحبا لبعضهم البعض. كانت الفروق بسيطة بين
البشر ولم يكن هناك فوارق كبيرة وهائلة بين الأغنياء والفقراء, فالأغنياء كانوا قلة
ومعظمهم من قيادات الحزب والتجار وكلاهما كان كالعملة بوجهين. في زمن النظام
الاشتراكي كان الشعب البولندي أكثر تماسكا ومحافظة وحتى كرما وشهامة, أذكر كيف كان
البولنديون وبالرغم من أزماتهم الاقتصادية يستقبلون ضيوفهم بمد المائدة وملئها بكل
أنواع الطعام والشراب والفاكهة والحلويات. كان الشعب كريما أكثر من هذه الأيام,
أيام التغيير والنظام الجديد, حيث المحلات التجارية مليئة بكل ما هو جديد وغربي
وأمريكي وغير ذلك. نعم لقد تغيرت بولندا بشكل كبير, بحيث أصبحت جزءا هاما من عالم
أمريكا الجديد, باللباس والمنطق والدعاية والسياسة والثقافة والموضة, من الموبيل
تلفون حتى قصة الشعر والموقف من القضايا السياسية والدولية, من البوسنة وكوسوفو
وأفغانستان حتى العراق وفلسطين. ومع تغير السياسة والديكورات في المحلات تغيرت أيضا
حياة البشر وأصبحوا يعيشون في عالم مادي جديد لم يعرفوه من قبل مع أنهم كانوا
يحلمون به كما كان يتم وصفه لهم في الدعاية المضادة. حيث النظام الغربي هو
الذي سينقذهم من مصائب الاشتراكية
والنظام الشرقي. لكن في نهاية المطاف كانت التغييرات بمثابة ظلم كبير للشعب الذي
ظلم في الزمنين وبينهما وقبلهما.
إن ديون بولندا المستحقة للدول الغربية وللبنك الدولي تقدر بحوالي 60 مليار
دولار, تستطيع خزانة الدولة أن تسد فوائد تلك الديون في كل عام. مسؤولية تلك الديون
الضخمة تقع على عاتق الإدارة السيئة التي كانت تدير البلاد ولازالت حتى الآن.
فالسياسيين في بولندا يهمهم نجوميتهم أكثر من مصلحة البلد والشعب, وهذه النجومية
موجودة في معسكري اليمين واليسار وفي الوسط فيما بينهما من منظمات وأحزاب وجمعيات
ومؤسسات. أما الكنيسة البولندية فتعتبر أغنى مؤسسة في البلاد وأكثرها نفوذا بين
الناس رغم أن التدين في بولندا لا يعدو كونه تراث وتقاليد أكثر منه أيديولوجيا
وعبادة, ومن عادة معظم البولنديين الذهاب يوم الأحد إلى الكنيسة, لكن هذا الذهاب لا
يعدو عن كونه تسجيل حضور أمام أعين الناس والمعارف والجيران والأصدقاء ولكسب ثقة
راعي الكنيسة.
رحم الله
زمن اللحمة بالكوبون والسكر بالواسطة,وسوف يترحم البولنديون على تلك الأيام إذا
بقيت حياتهم في أيدي مجموعة من تجار السياسة والدين
والاقتصاد.
انتهى..