|
العبقري آينشتاين يجيب : لماذا الإشتراكية ؟
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 4484 - 2014 / 6 / 16 - 13:57
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
مقدمة هذه المقالة الرائعة كتبها عالم الفيزياء العظيم " ألبرت آينشتاين " (1879-1955) خصيصاً للعدد الأول من المجلة الشهرية الأمريكية الإشتراكية المستقلة : " المراجعة الشهرية " (Monthly Review) الصادر بنيويورك في مايس 1949 . كان العبقري آينشتاين ذا عقلية ديالكتيكية متفردة ، و نصيراً قوياً للإشتراكية ، و مناضلاً صلباً ضد الفاشية و التمييز العنصري . و عندما إضطر للبقاء في أمريكا خلال زيارته لها عام 1933 بسبب صعود هتلر للحكم إبانها في ألمانيا ، و إكتسب الجنسية الأمريكية عام 1940 فقد دأب على انتقاد النظام الرأسمالي هناك ، ليصبح عرضة لهجمات ماكنة الدعاية الإمبريالية . و لكنه واجه بشجاعة مثالية كل محاولات التأثير في توجهه التقدمي هذا الذي لم يتزحزح عنه طيلة حياته قيد أنملة ، مثلما تبينه تفاصيل هذه المقالة . و رغم الخدمات الجليلة التي قدمها آينشتاين للحكومة الأمريكية - و بضمنها مكاتبته و مقابلته للرئيس فرانكلين روزفلت عام 1939 لتنبيهه ضد خطر إمتلاك ألمانيا النازية للقنبلة الذرية ، و حثه على الإسراع بدعم مشاريع البحوث في هذا الحقل لكسب سباق التسلح ( و هو ما أدى الى تدشين مشروع مانهاتن الشهير و إحراز الولايات المتحدة الأمريكية السبق بفضله ) ؛ و برغم تبرعه بمخطوطاته العلمية المحررة بخط يده و التي لا تقدر بثمن للمجهود الحربي الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية (بيعت في حينها مخطوطته حول "النظرية النسبية الخاصة" بخمسة ملايين و ستمائة ألف دولار ، و هي موجودة الآن في مكتبة الكونغرس)- إلا أن الأوساط الرسمية للإمبريالية الأمريكية كانت تنظر دوماً بعين الريبة لارتباط آينشتاين طيلة حياته بالمنظمات الإشتراكية و السلام . بل بلغ الامر بمدير مكتب التحقيقات الإتحادية ، إدغر هوفر ، حد إصداره التوصية بطرد آينشتاين خارج أمريكا بتطبيق " قانون عزل الغرباء " (Alien Exclusion Act) عليه ، و لكن وزارة الخارجية الأمريكية إعترضت عليه . ذلك هو جزاء سِنِمّار ، و هو ما يوضح بجلاء البون الشاسع بين طبيعة أخلاق الإشتراكي الشريف و الإمبريالي النذل . و عندما زارت مغنية الأوپرا السمراء الشهيرة "ماريان أندرسن" مدينة پرنستن لتقديم حفل موسيقي في بهوها عام 1937 ، و عمد مالك الفندق الى حرمانها من المبيت عنده بسبب تفضيله ممارسة سياسة الفصل العنصري ضدها ، لم يتوان نصير حقوق الإنسان الفذ هذا من إستقبالها في داره بپرنستن – نيو جيرزي ، حيث وجدت فيه موئلاً كريماً بقيت تئمه ضيفة معززة مكرمة متى شاءت زيارة تلك المدينة حتى وفاة ذلك العبقري العظيم ذي القلب الكبير عام 1955 ! هكذا كان آينشتاين العظيم - مثل ماركس و إنجلز - حريصاً على ترجمة إنسانيته السامية بالأفعال . كما بقي صديقاً وفياً للمغني التقدمي الأسمر "پول روبسن" طوال عشرين عاماً ، و لكل الفنانين و الكتاب التقدميين الذين إلتقاهم في أمريكا ، و منهم : تشارلي تشابلن و أپتن سنكلير . و عندما إستدعي إبان الحملة المكارثية عام 1951أمام القاضي لسماع أقواله بخصوص القضية السياسية المرفوعة بتدبير من مكتب التحقيقات الفدرالي ضد الأكاديمي التقدمي ، و ناشط الحقوق المدنية الشهير : "دو بويز" (1868-1963) ( و هو أول أمريكي من أصل أفريقي يحصل على شهادة الدكتوراه في أمريكا ) ، عرض هذا العبقري الفذ على القاضي أن يمثل أمامه كشاهد دفاع عن دو بويز . و إزاء خوفه على سمعته ، و لإدراكه عدم آهليته الذهنية لمقارعة العقل الجبار لآينشتاين ، فقد أضطر القاضي حالاً إلى إسقاط الدعوى ضد دو بويز . هكذا كان آينشتاين يترجم بأفعاله الشجاعة مقولته البليغة المعاني و التي تصلح شعاراً للبشر جميعاً في كل زمان و مكان : " لا يستطيع الإنسان أن يجد معنى في الحياة - القصيرة و المليئة بالمخاطر - إلا من خلال تكريس نفسه لمجتمعه " . أعادت المجلة الإشتراكية الأمريكية (Monthly Review) نشر هذه المقالة في عددها لشهر مايس ، 1998 ، بمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيسها ، و هي ما تزال أقدم مجلة إشتراكية تصدر في أمريكا بجهود فردية محضة ، و التي تستحق كل التقدير و الإعجاب . أدناه الترجمة لهذا المقال [ الأقواس من عندي ] كاملاً ؛ و كنت قد أزمعت التعليق عليه ، ثم أدركت بعدئذٍ أن أفضل مقاربة له هي : " تركه يُفصح عن نفسه بنفسه " ، لكونه يغص بالإلتماعات العبقرية الإجتماسياسية الجديرة بالدراسة و التمحيص ، و التي تستحق أكثر من قراءة واحدة . ألبرت آينشتاين (1949) " لماذا الإشتراكية ؟ هل أن من المستحسن للمرء غير الخبير بالإقتصاد و بالشؤون الإجتماعية أن يعبر عن وجهات نظره بصدد موضوع الإشتراكية ؟ باعتقادي ، نعم ، و ذلك لأسباب عديدة . دعونا أولاً نتدبر هذه المسألة من وجهة نظر المعرفة العلمية . فقد يظهر أنه ليس هناك - مثلاً - أي إختلافات في المنهج بين علم الفلك و علم الإقتصاد : فالعلماء في كلا هذين الحقلين يحاولون إكتشاف القوانين المقبولة عموماً لمجموعة محددة من الظواهر بغية جعل الترابطات بين تلك الظواهر قابلة للفهم بأوضح ما يمكن . أما في واقع الحال ، فإن الإختلافات المنهجية بينهما موجودة فعلاً . فاكتشاف القوانين العامة في حقل الإقتصاد أمر عسير بسبب واقع أن الظواهر الإقتصادية الملاحَظة غالباً ما تتأثر بعوامل عديدة يصعب جداً تقييمها كلاً على إنفراد . و بالإضافة إلى ذلك ، فإن التجربة التي تراكمت منذ بداية ما يسمى بالفترة المتحضرة من تاريخ البشرية قد تأثرت و تقيَّدت كثيراً - مثلما نعلم تماماً - بمسببات ليست ذات طبيعة إقتصادية خالصة بالمرة . فمثلاً ، أغلب الدول الكبيرة التي شهدها التاريخ دانت بوجودها لسياسة الإحتلال لأراضي الغير التي إتبعتها ، حيث نصَّبت الجماعات المحتلة نفسها - شرعاً و إقتصاداً - كطبقة صاحبة إمتيازات في البلد المحتل ، فاحتكرت لنفسها ملكية الأرض ، و عينت رجال الدين من بين صفوفها نفسها . و رجال الدين هؤلاء ، بفعل هيمنتهم على نظام التعليم ، جعلوا من التقسيم الطبقي للمجتمع مؤسسة مستديمة ، و خلقوا نظاماً من القيم يرسم للناس قواعد السلوك الإجتماعي بشكل غير واع إلى حد كبير ، من ذلك التاريخ فصاعداً . و لكن هذا الميراث التاريخي ، يجب القول ، إنما يعود للبارحة [ و ليس للمستقبل ] ، و لا يوجد مكان إستطعنا أن نتغلب فيه على ما يسميه " تورشتاين فيبلين " بـ : " الطور الإفتراسي " للتطور البشري . إلى هذا الطور تنتمي الحقائق الإقتصادية الملاحَظة [ اليوم ] ؛ بحيث أن حتى القوانين التي نستطيع إشتقاقها منها لا تنطبق على الأطوار الأخرى . و لمّا كان الهدف الحقيقي للإشتراكية هو بالضبط التغلب على الطور الإفتراسي للتطور البشري ، و التقدم عبر تجاوزه ، لذا ، فإن علم الإقتصاد بوضعه الحالي لا يستطيع تسليط إلا القليل من الضوء على المجتمع الإشتراكي للمستقبل . ثانياً ، الإشتراكية موجهة نحو تحقيق هدف إجتماعي- خلقي . و لكن العلم لا يستطيع خلق الأهداف ، و لا ، حتى بأقل من ذلك ، غرسها عند الشر . أقصى ما يستطيعه العلم هو تجهيزنا بالوسائل لتحقيق أهداف معينة . أما الأهداف نفسها ، فتستوعبها الشخصيات ذات القيم الخلقية السامية . فإذا كانت هذه الأهداف ليست مجهضة ، بل حيوية و نشطة ، و إذا ما تم تبنيها و المضي بها قدماً من جانب العديد من هؤلاء البشر ، فسيحدد هؤلاء بأنفسهم - و هم نصف واعين - الإرتقاء البطيء للمجتمع . و لهذه الأسباب ، يتوجب علينا أن نتوخى الحذر كي نتجنب المبالغة في دور العلم و الطرق العلمية عندما تتعلق المسألة بالمشاكل البشرية . و لهذا ، أيضاً ، ينبغي علينا أن لا نفترض بأن الخبراء هم وحدهم لهم الحق في إبداء رأيهم بصدد المسائل المؤثرة في تنظيم المجتمع . تُواصِلُ أصواتٌ لا تُحصى التوكيد منذ وقت مضى بكون المجتمع البشري يمر بأزمة ، و بأن الإستقرار قد تحطم على نحو شديد . و من النموذجي في مثل هذا الوضع أن الأفراد يشعرون بعدم الإهتمام ، بل و حتى بالعداء حيال المجموعة البشرية التي ينتمون إليها ، صغيرة كانت أم كبيرة . و لكي أوضح قصدي هذا ، دعوني أن أسجل هنا تجربة شخصية لي . ناقشت مؤخراً مع شخص ذكي و طيب النية موضوع خطر نشوب حرب [ عالمية ثالثة ] أخرى ، و التي ، برأيي ، ستعرض وجود البشر إلى الخطر الحقيقي ؛ و بينت أن ذلك الخطر لا يمكن درؤه إلا بواسطة منظمة أممية (عابرة للدول) . عندها سألني محاوري الزائر بهدوء و ببرود تام : " و لماذا أنت تعارض بهذا العمق إنقراض الجنس البشري ؟ " أنا على يقين أنه حتى قبل حقبة قصيرة من الزمن لا تتجاور القرن الواحد ، ما كان يمكن لأحد أن يسأل مثل هذا السؤال بهذه الدرجة من الإستهانة . هذا السؤال إنما قاله شخص كافح سدى لتحقيق التوازن مع ذاته ، و لكنه فقد الأمل بهذا الشكل أو ذاك بالنجاح في تحقيق ذلك . هذا هو التعبير عن الإنزواء و الإنعزال التي يعاني منهما الكثير من الناس في هذه الأيام . فما السبب في ذلك ؟ و هل ثمة خلاص ؟ إن من السهل طرح مثل هذه الأسئلة ، و لكن من الصعب إلإجابة عليها على نحو مؤكد بأي درجة كانت . لذا ، ينبغي لي أن أحاول ذلك ، بأفضل ما أستطيع ؛ و إن كنت واعياً جداً لحقيقة أن مشاعرنا و مساعينا غالباً ما تكون متناقضة و غير واضحة ، و أنها لا يمكن شرحها بوصفات بسيطة و سهلة . إن الأنسان هو مخلوق منعزل و إجتماعي في آن واحد و في الوقت نفسه . كمخلوق منعزل ، فإنه يحاول حماية وجوده الذاتي و وجود الأقربين إليه ، و تطمين رغباته ، و تطوير قدراته الموروثة . و كمخلوق إجتماعي ، فإنه يبحث عن الفوز باعتراف و تعاطف البشر الآخرين ، و بالمشاركة في أفراحهم ، و بمواساتهم في أتراحهم ، و بتحسين أوضاعهم الحياتية . أما الدرجة التي يستطيع فيها الفرد تحقيق التوازن الداخلي و القدرة على المساهمة في رفاه الشعب فلا تتحدد إلا بوجود كل هذه الحسابات و التوجهات المختلفة و المتضادة غالباً في شخصية الإنسان و اندماجها الخاص لديه . و من الممكن تماماً أن تكون القوة النسبية لهاتين النزعتين ثابتة وراثياً ، بالدرجة الأولى . و لكن الشخصية التي تظهر أخيراً إنما يقولبها على نحو كبير المحيط الذي يجد الإنسان نفسه فيه خلال تطوره ، و تركيبة المجتمع الذي يترعرع فيه ، و تقاليد ذلك المجتمع ، و التقدير الذي يوليه ذلك المجتمع لأنماط معينة من السلوك . إن المفهوم المجرد لـ " المجتمع " يعني بالنسبة للإنسان الفرد ذلك المجموع الكلي لعلاقاته المباشرة و غير المباشرة مع معاصريه و مع كل الناس من الأجيال السابقة . صحيح أن الإنسان يستطيع أن يفكر و أن يشعر و يسعى و يشتغل بنفسه ، و لكنه يعتمد كثيراً جداً على المجتمع في وجوده المادي و الفكري و العاطفي بحيث يستحيل أن نفكر فيه أو أن نفهمه خارج نطاق المجتمع . هذا " المجتمع " هو الذي يزود الإنسان بالمأكل و الملبس و المسكن ، و أدوات العمل ، و اللغة ، و أنماط التفكير ، و اغلب محتواه الفكري ؛ كما أن حياته لا تصبح ممكنة إلا بفضل عمل و منجزات ملايين البشر في الماضي و الحاضر من المتوارين خلف مفردة " المجتمع " الصغيرة هذه . من الواضح ، إذن ، أن إعتماد الفرد على المجتمع هو حقيقة طبيعية لا يمكن محوها - مثلما هي الحال عند النمل و النحل . و في حين تكون سيرورة الحياة بأكملها لدى النمل و النحل مثبتة في أدق تفاصيلها بالغرائز الثابتة الموروثة ، فإن النموذج الإجتماعي و العلاقات المتبادلة بين البشر تتميز بالتنوع الكبير و بالقابلة على التغيير . فالذاكرة ، و الإستعداد لتكوين تركيبات جديدة ، و ملكة التواصل الشفهي ، كلها ، جعلت من الممكن حصول التطورات بين البشر و التي لا تمليها الضرورات البيولوجية . مثل هذه التطورات تظهر في التقاليد ، و المؤسسات ، و المنظمات ؛ و في الأدب و المنجزات العلمية و الهندسية ؛ و في الأعمال الفنية . و هذا يشرح لنا كيف يمكن ، بمعنى مؤكد ، للإنسان التأثير في حياته من خلال سلوكه ، و أن بمستطاع التفكير الواعي و الإرادة أن يأخذا دورهما في هذه السيرورة . يكتسب الإنسان عند مولده ، و من خلال الوراثة ، نظاماً بيولوجياً يتعين علينا إعتباره ثابتاً لا يتغير ، و بضمنه الدوافع الطبيعية المميزة للنوع البشري . و بالإضافة إلى ذلك ، فإن الإنسان يكتسب خلال حياته نظاماً ثقافياً يستعيره من المجتمع من خلال التواصل و من خلال عدة أنماط أخرى من المؤثرات . إن هذا النظام الثقافي هو نفسه معرَّض للتغيير بمرور الزمن ، و هو الذي يحدد إلى درجة كبيرة العلاقة بين الفرد و المجتمع . تعلِّمنا الأنثروبولوجيا [علم الإنسان ] المعاصرة ، من خلال التقصي المقارن لما يسمى بالحضارات البدائية ، بأن السلوك الإجتماعي للبشر يمكن أن يختلف كثيراً إعتماداً على النماذج الثقافية السائدة ، و على أنماط التنظيم القائمة في المجتمع . على هذا يؤسس أولئك الساعون لتحسين مصير الإنسان آمالهم : البشر ليسوا مخلوقات مدانة بسبب تكوينهم البيولوجي لإبادة بعضهم البعض ، و لا مكتوب عليهم أن يصبحوا تحت رحمة مصير قاس يسلطونه على أنفسهم بأنفسهم . إذا ما سألنا أنفسنا كيف ينبغي تغيير بنية المجتمع و الموقف الثقافي للإنسان بغية جعل الحياة البشرية على أفضل ما يمكن من الرضا ، فأن علينا أن نعي على نحو ثابت حقيقة وجود شروط معينة لا نستطيع تعديلها . فمثلما ذكرت آنفاً ، فإن الطبيعة البيولوجية للإنسان غير خاضعة للتغيير بشكل عملي البتة . و علاوة على ذلك ، فإن التطورات التقنية و الديموغرافية للقرون القليلة الماضية قد خلقت شروطاً وجدت لكي تبقى . فالتجمعات السكانية الكثيفة و المستقرة نسبياً تتطلب سلعاً لا يمكن التخلي عنها لضمان إستمرار وجودها ، و لهذا يصبح التقسيم الإجتماعي الشديد للعمل و آلية الإنتاج الممركز من الضرورات المطلقة . لقد ذهب إلى الأبد ذلك الزمان - الذي عندما نسترجعه يبدو لنا مثالياً جداً - عندما كان بمقدور الأفراد أو الجماعات الصغيرة نسبياً أن يكونوا مكتفين ذاتياً على نحو تام . و لا نبالغ كثيراً إذا ما قلنا أن البشر يشكلون الآن مجموعة كوكبية واحدة للإنتاج و الإستهلاك . الأن وصلت إلى النقطة التي يمكن لي فيها أن أورد بإيجاز ما أعتبر أنه الجوهر في أزمة عصرنا : أعني بها علاقة الفرد بالمجتمع . لقد أصبح الفرد أوعى من أي وقت مضى بإعتماديته على المجتمع . و لكنه لا يعيش تجربة هذه الإعتمادية باعتبارها أحدى الموجودات الإيجابية ، و الرابط العضوي ، و القوة الحامية ؛ و إنما باعتبارها تهديداً لحقوقه الطبيعية ، بل و حتى لوجوده الإقتصادي . و علاوة على ذلك ، فإن موقعه في المجتمع هو من النوع الذي يجري فيه التوكيد المتواصل للإندفاعات الأنانية لتكوينه [ البيولوجي ] ، في حين أن إندفاعاته الإجتماعية - الأضعف بحكم الطبيعة - تتردى على نحو مضطرد . كل البشر ، بغض النظر عن موقعهم في المجتمع ، يعانون من سيرورة التردي هذه . و في وضعهم هذا غير المُدرَك كسجناء لأنانيتهم ، فإنهم يشعرون بعدم الأمان و بالوحدة و بالحرمان من التمتع الساذج و البسيط و غير المعقد بالحياة . لا يستطيع الإنسان أن يجد معنى في الحياة - القصيرة و المليئة بالمخاطر - إلا من خلال تكريس نفسه لمجتمعه . إن الفوضى الإقتصادية للمجتمع الرأسمالي كما هو موجود اليوم هي ، برأيي ، المصدر الحقيقي للشر . نحن نشاهد أمامنا جماعة ضخمة من المنتجين يسعى أعضاؤها بلا هوادة لحرمان بعضهم البعض من ثمار عملهم الجماعي . يحصل هذا ليس بالقوة ، وإنما كامتثال مخلص للضوابط القانونية القائمة . هنا ، من المهم أن نعي بأن وسائل الإنتاج - أي كل الطاقة الإنتاجية المطلوبة لإنتاج السلع الإستهلاكية علاوة على السلع الرأسمالية الإضافية - يمكن أن تكون ، و هي بالفعل كذلك في قسطها الأكبر ، ملكية خاصة للأشخاص . و بغية التبسيط ، فسأطلق في المناقشة الآتية إسم " العمال " على كل أولئك الذين لا يشاركون في ملكية وسائل الإنتاج - و إن كان هذا لا يتطابق تماماً مع الإستخدام التقليدي لهذه التسمية . إن مالك وسائل الإنتاج يؤهله موقعه لشراء قوة العمل للعامل . و باستخدامه وسائل الإنتاج ، ينتج العامل سلعاً جديدة ، و التي تصبح ملكاً للرأسمالي . النقطة الجوهرية في هذه العملية هي العلاقة القائمة بين ما ينتجه العامل و بين ما يقبضه [ من أجر ] ، قياساً للقيمة الحقيقية للإثنين . و ما دام عقد العمل " حراً " ، فإن ما يستلمه العامل لا تحدده القيمة الفعلية للسلع التي ينتجها ؛ و إنما يقرره الحد الأدنى لاحتياجاته ، و كذلك متطلبات الرأسمالي لقوة العمل نسبةً إلى عدد العمال المتنافسين على التوظيف . و من المهم أن نعي أنه ، حتى من الناحية النظرية ، فإن أجر العامل لا يتحدد بقيمة منتوجه . و هناك توجه لدى رأس المال الخاص للتركز في أيد قليلة ، إما بسبب التنافس بين الرأسماليين ، أو لأن التطور التقني و تزايد حدة تقسيم العمل يشجعان على تكوّن وحدات الإنتاج الأكبر على حساب الوحدات الأصغر . و النتيجة لهذه التطورات هي تكوّن أوليغارشية لرأس المال الخاص ذات قوة هائلة لا يمكن كبحها حتى من جانب المجتمع السياسي ذي التنظيم الديمقراطي . هذه هي الحقيقة ، لأن أعضاء المجالس التشريعية تختارهم الأحزاب السياسية الممولة على نحو كبير من طرف الرأسماليين ، أو الواقعة بشكل أو بآخر تحت تأثيرهم . هؤلاء الرأسماليون يستطيعون - لأغراضهم العملية تماماً - أن يفصلوا بين الناخبين و بين هيئاتهم التشريعية . و النتيجة هي أن ممثلي الشعب لا يتولون توفير الحماية الكافية لمصالح الشرائح الدنيا من السكان . و علاوة على ذلك ، فأن الوضع القائم يحتم سيطرة الرأسماليين المباشرة أو غير المباشرة على المصادر الرئيسية للمعلومات ( الصحافة ، المذياع ، التعليم ) . أذن فقد أصبح من العسير جداً ، بل و حتى من المستحيل في أغلب الحالات ، على المواطن الفرد أن يتوصل إلى إستنتاجات موضوعية ، و لا أن يستخدم بذكاء حقوقه السياسية . إذن ، فالوضع السائد في الإقتصاد القائم على الملكية الخاصة لرأس المال يتميز بمبدأين أساسيين : اولاً ، أن وسائل الإنتاج (راس المال) فيه هي ملكية خاصة و أن هؤلاء المالكين لهم الحق في التصرف بتلك الوسائل حسبما يعتقدونه مناسباً ؛ و ثانياً : أن عقد العمل حر . طبعاً لا يوجد مجتمع رأسمالي بمثل هذا النقاء . و خصوصاً يجب ملاحظة أن العمال ، عبر الكفاح السياسي المر الطويل ، قد أفلحوا في ضمان شكل محسن من "عقد العمل الحر" بالنسبة لشرائح محددة من العمال . و لكن عندما نأخذه ككل ، فإن إقتصاد اليوم لا يختلف كثيراً عن الرأسمالية "الخالصة " . أما الإنتاج ، فيتواصل من أجل الربح ، و ليس من أجل الإستعمال . و لا يوجد ثمة شرط يقضي بأن كل القادرين على العمل و الراغبين به سيكونون دائماً في وضع يحصلون فيه على التشغيل ؛ و لهذا فإن "جيش العاطلين" متواجد باستمرار في الأغلب الأعم . و يخشى العامل دوماً من فقدانه لعمله . و لما كانت البطالة و العمال ذوي الأجور المتدنية لا يوفرون سوقاً مربحاً ، لذا ، فإن إنتاج البضائع الإستهلاكية يصبح محدوداً ؛ و الحاصل هو المعاناة الكبيرة . كما أن التطور التقني غالباً ما يسفر عن المزيد من البطالة بدلاً من تيسيره لثقل العمل عن الجميع . إن دافع الربح ، بالإرتباط مع التنافس بين الرأسماليين ، هما المسؤولان عن عدم الإستقرار في تراكم رأس المال و الإنتفاع به ، و هو ما يؤدي إلى حصول كسادات [ إقتصادية ] متفاقمة الشدة . كما أن المنافسة غير المحدودة تؤدي إلى هدر هائل للعمل ، و إلى ذلك الشلل في الوعي الإجتماعي للأفراد الذي ذكرته آنفاً . إن هذا الشلَّ للأفراد هو أسوأ شر للرأسمالية . كل نظامنا التعليمي يعاني من هذا الشر ، حيث يُزقُّ الطالب بنزعة تنافسية مبالغ فيها و يُدرب على عبادة النجاح الإستحواذي كإعداد لوظيفته المستقبلية . أنني على قناعة بأن هناك فقط طريق أوحد لإزاحة هذه الشرور الجسيمة ، أي عبر بناء إقتصاد إشتراكي ، يرافقه نظام تربوي موجه نحو الأهداف الإجتماعية . في مثل هذا الإقتصاد ، يمتلك المجتمع نفسه وسائل الإنتاج التي ينتفع منها بأسلوب مخطط . إن الإقتصاد المخطط ، الذي يوائم الإنتاج مع حاجات المجتمع ، يوزع العمل المطلوب بين كل أولئك القادرين على العمل ، و يضمن سبل العيش لكل رجل و إمرأة و طفل . كما أن تربية الفرد ، علاوة على ترقيتها لقابلياته الذاتية الكامنة ، ستحاول تطوير شعوره بالمسؤولية تجاه أبناء جلدته بدلاً من التمجيد للقوة و للنجاح في مجتمعنا الحالي . غير أن من الضروري تذكُّر أن الإقتصاد المخطط لا يعني الإشتراكية بعد . فالإقتصاد المخطط يمكن أن يرافقه الإستعباد التام للفرد . إن تحقيق الإشتراكية يتطلب حلولاً لمعضلات إجتماسياسية صعبة . كيف يمكن ، في ضوء المركزة الواسعة المدى للسلطة السياسية و الإقتصادية ، منع البيروقراطية من أن تصبح قوة غاشمة ؟ و كيف يمكن حماية حقوق الفرد و معها تأمين التوازن الديمقراطي المضاد مع السلطة البيروقراطية ؟ إن الوضوح بصدد معضلات الإشتراكية يحوز الأهمية الأكبر في عصرنا الإنتقالي هذا . و لما كانت الظروف القائمة الآن قد جعلت النقاش الحر و بلا عقبات لهذه المعضلات أمراً محرَّماً بقوة ، لذا ، فإنني أعتبر أن تأسيس هذه المجلة هو خدمة عامة مهمة . " بغداد ، 16 / 6 / 2014
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نمط الإنتاج الأنديزي : ؛ الإشتراكية التوزيعية : من كل حسب إن
...
-
الفقيد عالم سبيط النيلي و اللغة الموحدة : المنهج و النتائج
-
قصة قدموس مثالاً للملحمة التاريخية / 3 - الأخيرة
-
أم آسيا
-
قصة قدموس مثالاً للملحمة التاريخية / 2
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 5
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 4
-
حكاية الكلب المثقف :- سربوت -
-
قصة قدموس مثالاً للملحمة التاريخية / 1
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 3
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 2
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 1
-
هيجل و رَسْل : الأسد يُعرف من فكيه
-
عودة إلى خرافات يعقوب إبراهامي بشأن قوانين الديالكتيك / 2 و
...
-
حكاية الطَّبْر و الهَبْر
-
الفتى صالح و السبحة الكهرب
-
عودة إلى خرافات يعقوب إبراهامي بشأن قوانين الديالكتيك /1
-
الحمار و عبد الكريم
-
قوانين الديالكتيك و ظواهر فيزياء علم الكم / 7 - الأخيرة
-
قوانين الديالكتيك و ظواهر فيزياء علم الكم / 6
المزيد.....
-
الفصائل الفلسطينية: سلاحنا للدفاع عن النفس والغزّيون طليعة ج
...
-
م.م.ن.ص// من يمول الإبادة الجماعية؟ ومن يسهلها؟
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي المكتب السياسي :بيان للرأي العا
...
-
بلاغ إخباري للجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع
-
لا لإعادة تسليح الاتحاد الأوروبي! لا لاتفاقية ترامب – بوتين
...
-
صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 14 أبريل 2025
-
هجوم جديد على الفقراء والعمال بزيادة أسعار الوقود والاشتراكي
...
-
مكاسب الشغيلة المهددة، وتكتيك بيروقراطية المنظمات العمالية،
...
-
في أجواء عائلية حميمية.. الجالية العراقية في فرنسا تحتفي بال
...
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 596
المزيد.....
-
الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة:
...
/ رزكار عقراوي
-
متابعات عالميّة و عربية : نظرة شيوعيّة ثوريّة (5) 2023-2024
/ شادي الشماوي
-
الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار
/ حسين علوان حسين
-
ماركس حول الجندر والعرق وإعادة الانتاج: مقاربة نسوية
/ سيلفيا فيديريتشي
-
البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية
/ حازم كويي
-
لينين والبلاشفة ومجالس الشغيلة (السوفييتات)
/ مارسيل ليبمان
-
قراءة ماركسية عن (أصول اليمين المتطرف في بلجيكا) مجلة نضال ا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسائل بوب أفاكيان على وسائل التواصل الإجتماعي 2024
/ شادي الشماوي
-
نظرية ماركس حول -الصدع الأيضي-: الأسس الكلاسيكية لعلم الاجتم
...
/ بندر نوري
-
الذكاء الاصطناعي، رؤية اشتراكية
/ رزكار عقراوي
المزيد.....
|