أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد عبد السلام رؤوف - ام كلثوم واختزال المسافات















المزيد.....



ام كلثوم واختزال المسافات


عماد عبد السلام رؤوف

الحوار المتمدن-العدد: 4484 - 2014 / 6 / 16 - 03:22
المحور: الادب والفن
    


أم كلثوم
واختزال المسافات






الدكتور عماد عبد السلام رؤوف





أربيل 2013








كثيرةٌ هي الكتب التي أُلِّفت عن أم كلثوم، فتناولت حياتها سيرةً وتاريخاً، وبحثت في علاقاتها بأعلام عصرها من الشعراء والملحنين، وعرَّجت على ذكر طرائف من حياتها، وأثبتت نصوص كلمات أغنيها، وغير ذلك من شؤون.
وكنت قد قرأتُ معظم ما نُشر من تلك الكتب، كما كنت قد حضرت بعض حفلاتها في أوائل عقد السبعينات، فوجدت أنه لما تزل ثمة فجوات في حياتها لم تملأ، وأسئلة لم تجد لها إجابات، مثل: لِمَن كانت تؤدي أغانيها، وكيف تمارس تأثيرها في نفوس متلقيها، وما طبيعة ذلك التأثير، ولماذا يبقى مدداً طويلة يتجاوز عدداً من الأحقاب، وما هو سر حالة (الوجد) التي يلتقي فيها الفرح والحزن، وما هو دور جمهورها في أغانيها، وما إلى ذلك من أسئلة كثيرة .
وإذا كان بعض الناس يستنكر على مثلي، كوني متخصص في الوثائق والمخطوطات والتاريخ، لا في الفنون الموسيقية والغناء، أن تشغله مثل هذه الأسئلة، فذلك لأن الاحساس ليس شرطاً لمن يختص بمثل هذه الفنون فحسب، وإنما هو شرط أساس لمن يعمل في مجال التاريخ أيضاً، فالماضي لا يدرك إلا بإحساس قوي وتصوره حياً، بل تمثله مفعماً بالحيوية ليتمكن - من بعد - من وصفه وكتابته، وهكذا فليس بمستنكر أن تكون لي تأملات متواضعة في محاولة لفهم ما تلجلج في النفس من أسئلة تبحث عن إجابات.
ولابد لنا أن نذكر أنه لولا مؤرخي العصر العباسي لم عرفنا فنانين كبار مثل زرياب واسحاق الموصلي وغيرهم، ولم يجد المجتمع عصر ذاك أية غضاضة في أن يكتب مؤرخ عن موسيقي، بل أنهم عدوا (الأغاني) مصدراً مهماً من مصادر التاريخ نفسه.












مدخل
هل ما أدّته أم كلثوم خلال مسيرتها الفنية الطويلة كان غناءاً أم طرباً أم ماذا، وفي تقديرنا، وتقديرها هي، أن ليس كل الغناء طرباً، وإنما كل طربٍ في أصله غناءاً، ومعنى ذلك أن الغناء هو مجرد أداء بلحنٍ لنصٍ ما، أما الطرب فهو الصعود بمستوى هذا الأداء إلى مستوى فني أرقى، يقرب من مرحلة الوجد الذي يؤدي بالسامع إلى حالة تملك وجدانه وتنفذ إلى داخل نفسه، فهل أداء أم كلثوم هو طرب كما وصفت هي نفسها في أحد لقاءاتها.
إن تحديد المصطلح، اي مصطلح، لظاهرة ما أمر ميسور إذا اتفق عدد من الناس على دلالته، بمعنى أن يصطلحون عليه دلالة على ما يَرَون، أو يسمعون، أو يعقلون، فالاصطلاح لا يقع إذن إلا على ظاهرة يراها أكثر من واحد، ويتفق الجميع على مدلوها العام، ولننظر لأداء أم كلثوم هل يمكن أن يكون ظاهرة من الظواهر حتى يكون لها من الاصطلاح ما يوافقه، ويتفق الناس على مدلوله، ونقول انه لا يمكن أن يكون ظاهرة أصلاً، ومن ثم يستحيل أن يعبر عن مدلوله لفظ، أما لماذا لا يشكل ظاهرة، فلأن الناس لم يسمعوا مثل أدائها شيئاً من قبلُ ولا من بعدُ، ولم يعاصرها من أدى مثلها أحد، فهي وحيدة في أدائها على نحو كامل، فريدة في عصرها وفي ما تلاها من عهود، فكيف تكون ظاهرة إذن، والصحيح في تقديرنا أنها حالة، حالة فرد، جاء ومضى، وترك وراءه تراثاً غنياً من أداء نادر، فلا ثانٍ لها في فنها لنُطلق على هذا الفن اسماً مشتركاً، يكون مصطلحاً، يمكن أن ينطبق عليها وعلى من يشاركها، أو حتى يشابهها فيما أدّته.
نعم لقد تحدَّثت مرة عن الطرب، بما يفهم منه أنها تقصد ما تؤديه، بيد أن هذا المصطلح يمكن أن يشمل كل من نفذت كلمة أو نغمة إلى داخله فحركت احساسه ، وربما تمايل تعبيراً عما تملكه من إحساس، والمطربون بهذا المعنى كثيرون، أو قليلون، بحسب ادراك المتلقين ورَهافة حِسِّهم، إلاّ أن نوع ما أدّته أم كلثوم يعلو على هذا أيضاً ويتجاوزه بمراحل عديدة، فالأمر أكثر تعقيداً في النفس من تحريكٍ لإحساس، أو هزةٍ في وجدان، للحظة من زمن أو لحظات، وإنما نوع من مخاطبة إحساس الإنسان والسمو به إلى مستويات وجدانية عالية، لا يمكن أن يعبر عنها مفهوم الطرب ، على روعته، بأي حال، وقد وصفها بعض من سمعها في حلب حين غنت سنة 1931 أن أم كلثوم خارقة من خوارق الطبيعة، بينما وصفها آخرون أن غناءها "شيء لا يستطيع الإنسان وصفه" . وما دام الأمر كذلك فمن العبث أن نجد مصطلحاً يعبر عن نوع أدائها، وما تفعله بجمهورها وهي واقفة على خشبة المسرح، فلا يبق لنا من بعد ذلك إلا أن نتوقف عن محاولة الاشتقاق والتعبير، ونكتفي بالقول بأن ما كانت تؤديه هو أداء وحسب، والأداء بحسب اللغة هو العطاء، لقد كانت تعطي وتعطي، فماذا كانت تعطي؟.
ولنبدأ بأم كلثوم نفسها، لقد كانت تعرف ما تعطي علم اليقين، لكن المشكلة أنها كانت بشكل عام قليلة التحدث عما تعرف، ربما لأنها لو تحدثت لبَدَت في حديثها أكثر معرفة مما تتحمله مناسبة الحديث نفسها، وأذكر أن إعلامياً لبقاً سألها مرة: كيف تستطيعين أن تمارسين كل هذا التأثير على سامعيك، فلم يكن جوابها إلاّ: ما اعرَفش، أهي دي حالة من ربنا، وضحكت، وفي الحقيقة فإنها أجادت في الجواب على الرغم من بساطته وعفويته، فلو قالت أنها تعرف لاضطرت أن تفصل القول في أدائها على نحو يتجاوز إدراك الكثيرين من السامعين، ومن ثم سيُحمل الجواب على محمل التعقيد، ولا شك في أنه سيبدو جواباً بعيداً عن التواضع الذي طالما تحلت به. ومع ذلك فجوابها لم يكن يخلو من معنى مستتر، فقولها أنه حاجة من ربنا، يعني أن هذا الأداء، وليس الصوت وحده كما يتردد على ألسنة الكثيرين، هو هِبَة من الله تعالى، وتشمل هذه الهبة اختيار اللفظ، وبضمنه المناسبة التي أدت إلى صياغة معناه، واختيار اللحن، وبضمنه احساس ملحنه في لحظة تفاعله العميق مع اللفظ، ثم أخيراً أداءه بصوتها، وبضمنه- وهنا الأمر الأعقد- ما تحسه، وتثيره في الوقت نفسه، من إحساس لدى السامعين.
إن الذين وصفوا صوتها بأنه هبط من السماء، أو صعد إليها، توقفوا عند عذوبة ذلك الصوت وقوته، وهذا عنصر من عناصر ذلك التفاعل المعقد الذي ينطوي عليه أداء، أو عطاء، أم كلثوم ، أما العناصر الأخرى فلها حديث آخر..

اشكالية الأنا والآخر
لمَن كانت تؤدي أم كلثوم؟ إن سؤالاً كهذا يمكن أن يجيب عليه كثيرون بسرعة: لجمهورها، ألم يكن لها جمهور واسع تستعد كل شهر لمواجهته في أغنياتها الشهيرة، بل هل يمكن أن نتصور مطرباً أياً كان يغني إلا للناس؟ إن هذه الإجابة يمكن أن تناسب السؤال لو كان السؤال نفسه لا يختص بأم كلثوم، أما أن يكون مختصاً بها بالذات فذلك الجواب بعيد عن أن يكون موفياً بموضوع السؤال، نعم كانت أم كلثوم متعلقة بجمهورها تعلقهم بها، وتحترمهم احترامهم لها، وهو أحد أسرار نجاحها، وكانت حريصة كل الحرص على إرضائهم بالإعادة كلما ارتفعت أيديهم بالتصفيق لها، ولكنها كانت مع ذلك لا تغني لهم، إنما كانت تغني لنفسها، وتسعى لإرضاء نفسها، وتلك معادلة معقدة بحق، حيث تصبح الذات معبرة عن الآخر، ويصبح الآخرون معبرين عن الذات، فأم كلثوم حينما تؤدي تكون وجمهورها (حالة وجدانية) واحدة، وهذا وحده يفسر إصرارها على أن تكون أغنياتها المذاعة على الجمهور هي التي تؤديها في حفلاتها التي يحضرها العدد الغفير من الناس، لا في استوديوهات الإذاعة المغلقة التي لا تخاطب فيه إلا المايكروفون فحسب.
إن أداءها إذن هو نتاج تفاعلها مع الجمهور، وهو تفاعل لا يسهل تعريفه بأي حال، فالتفاعل لا يكون إلا بين ذاتين مستقلتين، بينما هي تكون، في الوقت نفسه، في حالة تواصل أو إندماج مع الذات الأخرى، أعني جمهورها.
تغني أم كلثوم أمام جمهور حاشد يصفق ويبكي ويضحك في وقت واحد، ومع ذلك فالمتأمل لوجهها لا يكاد يرى فيه إلا مشاعرها وحدها، فهي لا تبتسم أو تضحك تقديراً لإعجاب الجمهور كما يحدث للمغنين، بل المطربين عادة، وإنما لأن المعنى الذي تؤديه يدفع إلى ذلك، ويرتقي به إلى لحظة السرور المطلق، اسمع إليها وهي تؤدي كلمات (الآهات) لبيرم التونسي:
باتْ الســُّرور كلّه بيني وبينك مِتقسِّم
والزهـــر ويّانـــــــــا يُنظر لِنـا ويتبســـَّم
تجد أن صوتها كله ينطوي على السرور كله، المعبر عن حالة النشوة التي تعيشها في تلك اللحظة، وهي في الوقت نفسه تعبر عن لحظة النشوة التي يفترض أن عاشتها صاحبة الحكاية التي وصفها التونسي.
هي لا تُسرّ لمرأى جمهور مسرور ومنتشي، وإنما تسر لأنها تعيش لحظة تفاعل، وتواصل، مع اللحظة التي عبَّرت عنها الكلمة، فإذا ما انتشى الجمهور انتقل إليها هذا الإحساس مرة أخرى، ومن هنا يمكن أن نقول أن ما بينها وبين جمهورها يشبه أن يكون دائرة مغلقة، تحس بالمعنى، المختبئ بالكلمة، فتعبر عنه سروراً أو أسى، وهي في وجد كامل، فيتأثر الجمهور بذلك الإحساس، فيتصاعد عنده في حالة من الوجد أيضاً، فإذا بأم كلثوم تفنى في جمهورها ويفنى الجمهور في أم كلثوم، ويصبحان في توحُّد فريد لا يكون إلاّ لها وحدها.
فِضِلتْ أعيش في قلوب الناس
وكل عاشــق قلبي معـــاه

أم كلثوم لا تبتسم حينما يعبر المعنى عن كره، أو ضيق، أو ملالة، كما يحدث عند معظم المؤدين، فهي هنا في حالة من الاستقلال أو الانفصام عن الجمهور، والجمهور هنا هو من يتأثر بإحساسها في تلك اللحظة، فيسري إليه المعنى المؤدى، وهو ما سماه الصوفية قديماً (باستدعاء الوجد). وحينما يهب منبهراً باكياً ضاحكاً يكون قد ارتقى من (الإستدعاء) إلى (الوجد) نفسه، وتكون حالة الوجد قد تملكته، فلم يعد يحتمل أن يبقى مستقلا أو منفصلا عما تعبر هي عنه، ويسري ذلك التعبير إليها فيكون الجميع، هي والجمهور، حالة واحدة، تشبه أن تكون (نرفانا) من السعادة المطلقة، وهذه الحالة هي التي سماها الصوفية بالوجود، يعنون بها المرحلة العليا والأخيرة من الوجد. (حاسين إننا نحب وبس) . لقد اختزلت أم كلثوم هنا المسافة بين (الأنا) و(الآخر).

بين الفرح والأسى
ومع ذلك كيف يكون الأسى العميق، الناجم عن الإحساس بالغدر، والظلم، والهجر، والتشفي، والرغبة في الإيذاء، والانتقام، سعادة مطلقة، إنه لا يكون إلا إذا ارتقى المؤدي والمتلقي إلى حالة (الوجد) الذي تحدثنا عنها، ففي هذه الحالة، وحدها، لا يتبق ثمة فرق في التلقي بين الألم والفرح، وبين العذاب والعذوبة، وبين البكاء فرحاً والبكاء ألماً، فالمتلقي فرح حينما يبكي، وهو يبكي حينما يعم الفرح كيانه، بل هو يشجيه الأنين، ويتلذذ بعذابات الحبيب، وهو يضحك مع الضاحكين، ويبكي مع الباكين، ومع ذلك فهو لا يعلم لِمَ يضحك ولم يبكي، إنه إذن في حالة من الوجد وكفى، وإذا كان القدماء، لا سيما كثير من الصوفية، لم يجدوا للوجد تعريفاً، لأن (العبارة لا تقع عليه) على حد تعبيرهم، أي أن الكلام – لمحدوديته- غير قادر على الإفصاح عن مضمونه، فإنه يصعب أن تسأل أحداً من جمهور أم كلثوم عن طبيعة ما يحس به من مشاعر وهو مستغرق في سماع أدائها.
وأذكر أن مذيعة سألت الكاتب الكبير عباس محمود العقاد في توقف بين وَصلتين من وصلات حفلة لها في دار سينما قصر النيل بالقاهرة، أي أغانيها أجمل، أو أيها أثر في نفسه أكثر من الأخرى، أجاب العقاد وهو في حالة من الوجد، أنه لا يعلم، ولا يريد أن يعلم، لأنه ما سمعه في تلك الوصلة بهره ولم يترك له مجالا للتفكير، أليس عجيباً أن يعجز كاتب عظيم كالعقاد أن يعبر ولو بكلمات عن شعوره في تلك اللحظات، أو أن يتذكر بعض أغانيها فيقارن بين كلمات هذه وتلك، ويوازن بين لحن هذا المقطع أو ذاك، وهو الذي اعتاد على أنواع من المقارنات والمقاربات في جميع ما تناوله من مباحث الفكر، لكنه كان في حالة من العجز عن ذلك كله، وكان عجزه نفسه يعبر عن أنه في وجد لا يستطيع، بل لا يريد، أن يخرج من قيْدَه، فيعود إلى العالم من حوله كما فعل قبل أن تغني أم كلثوم تلك الوصلة، ولم يجد من الألفاظ ما يسعفه في وصف ما كان عليه. ويذكرنا هذا العجز بأولئك الصوفية الذين أقرُّوا بأن الوجدانيات القلبية (يصعب تصوّرها وتصويرها). وهكذا فقد اختزلت أم كلثوم المسافة بين الفرح والأسى.

بين السكون والحياة
وإذا كان الوجد في ظاهره عجزٌ وغيابٌ عن الواقع، فإنه ليس ضعفاً إنسانياً، أو انكفاءاً على الذات ، وإنما هو غيابٌ عن شيء، لتتجلى في مقابله أشياء، وهو عجز عن التعبير والوصف لأن المعاني المختبئة في الألفاظ أكبر، وأعمق، مما يمكن أن يؤديه اللفظ، فإن هذا هو ما يحسه جمهور أم كلثوم بمجرد أن تتوقف عن الأداء ولو للحظة، إنه يشعر بروح تملأ نفسه، وطاقة تملك قلبه، وارتقاء إلى عالم لم يكن يراه لعلوه، وسمو إلى سماء لم يكن يطالها من قبل ، وهذا (الإمتلاء) و(الإمتلاك) و(الإرتقاء) و(السمو) هو بالضبط ما يحسه الجمهور، وهذا هو العنصر الآخر من عناصر ما سمي بملائكية صوتها، أي القدرة على الصعود بالنفس، والارتقاء بها، وليس عذوبة الصوت وقوته كما ذهب من أحس بالحالة وعجز أن يدرك إلا أحد عناصرها.
ليس من سمات (الوجد) الذي يعيشه جمهور أم كلثوم أنهم يشعرون بالحياة تنبض في دواخلهم فحسب، وإنما هي تنبض في كل شيء حولهم أيضاً، من الشجر والزهر والطير والورد والشمس والقمر والكواكب والليل، بل وحتى الجمادات، ولا نقصد بالحياة هنا معناها (البايالوجي) البحت، وإنما سريان روح فيها تجعلها (تحس) و(تتبسم) و(تنظر) و(تبكي) و(تغار)، تشارك المحبين حالة السعادة التي يعيشونها، حتى إذا انطوت صفحة تلك الحالة، زال كل شيء، أو تبيَّن أنه لم يكن قائماً أصلاً، أو أنه - في أقصى تقدير- مجرد ظل يبتعد كلما حاول محب قد فشل في حبه اللحاق به، فكما كان الوجد قد اختزل المسافة بين الحزن والفرح، وبين الواحد والكثرة، وبين المحب والآخر، فإنه اختزلها بين الحي والميت أيضاً، أو بين الموجود وغير الموجود، فالميت حي بما يسري فيه من روح الحبيب، فإذا ما انقطع عن السريان لم تختفي الحياة في ذلك الحي، فيبدو ميتاً، وإنما يختفي الحي نفسه، ويغرق الجميع في الظلام، فهو لم يكن حياً، أو موجوداً، إلا به. اسمع إليها وقد اكتشفت اختفاء كل شيء بعد زوال الحبيب:
تعال شوف الطير أهو نام من قبل وفت النوم في ظلام
واتبدل الزهر البســـام لا عطر ينعش ولا أنغام
دا الأنس كان أنت
والإنسجام أنت
والزهر كان أنت
والابتسام أنت
فالكون كله محض خيال، وهو إن بدا (صرحاً) موجوداً فبالحب وحده، حتى إذا ما زال الحب، هوى ذلك الصرح، فعاد كل شيء عدماً.
كل شيء في العالم ساكن إذن فإذا سرى فيه الحب، انبعث حياً متوثباً متحركاً، فإذا وضعنا بدل كلمة الحب كلمة أخرى هي (الروح) أصبحت الفكرة صوفية تماماً، قال بها صوفية أمثال ابن عربي وعبدالكريم الجيلي وغيرهما. لقد اختزلت ام كلثوم هنا المسافة بين الموت والحياة، والسكون والحركة.


بين الواحد والكثرة
وجمهور أم كلثوم ليس في وفرة عدد، أو امتلاء لمدرجات مسرح، أو صخب معجبين، فكثير من المغنين اليوم تمتلئ بهم مدرجات الملاعب حيث لا تكفي القاعات والمسارح، ويعلو صخبهم وصياحهم حتى يصم الآذان، فلا يسعف المغني لإيصال صوته إلى سامعيه إلا مكبرات الصوت الضخمة، إنما هو شيء أبعد من هذا، وأكثر عمقاً، إنه مناجاة الإنسان الذي يعبر عنه هذا الجمهور، في دواخله، وفي أعماق أحاسيسه، وأذكر أنها سئلت يوما على من كنت تنظرين في وصلتك الأخيرة، فذكرت أنها كانت تنظر إلى رجل كفيف النظر يجلس في أحد الصفوف، وتبدو عليه مظاهر تأثر شديد، فهذا الأعمى اختصر في نظرها الجمهور كله، فلم تعد تبصر إلا إياه، وكان يكفي عندها أن ترى قسمات وجهه فيتجلى أمامها ما يفعله أداؤها من أثر من نفسه، وذبذبة في خلجاته، وهي لم تكن تخصه بالنظر لمجرد أن ترى قدرتها في التأثير، من باب الإعجاب بالذات، وإنما لأنها كانت تدرك بأنه طالما اختزل الوجد المسافة بين الفرح والحزن، فإنه اختزل المسافة بين الواحد والكل، ففيها تنطلق مشاعر الكل، وفي هذا الكفيف تنطلق مشاعرها هي.

بين الشكل والمضمون
كيف كانت أم كلثوم (تستدعي) الوجد، بحسب اصطلاح الصوفية، أو ترتقي بالمتلقي إلى حال الوجد كما نقول نحن؟ إنها تحفظ نصاً اختارته بعناية فائقة، وأدته بمهارة عالية، فأين موطن التأثير على المتلقي حتى يرتقى إلى الوجد المنشود؟ لا يكفي هنا القول أنها كانت تؤدي اللفظ بصوتها العذب المتمكن، وبحسب اللحن الموضوع، لأنها في هذه الحالة تكون مغنية أو مطربة في أقصى تقدير، وفي الحقيقة التي يعرفها كل من سمعها أنها حينما تعيد الجملة، كلها أو شطراً منها، أو حتى لفظاً، أو حرفاً، لا تكرر أداء اللحن، وإنما تعيد أداءه بصورة جديدة تماماً مستخدمة مقامات متنوعة للغاية، ومع أن هذا أمر صعب ويحتاج إلى مهارة فائقة في معرفة جزئيات المقامات الموسيقية، لكنها لا تفعل ذلك لمجرد التنويع، وإنما لتعبر عن معان عديدة مختبئة وراء كل لفظ تؤديه، وهنا يجب التوضيح، فهي لا تحمل اللفظ معان مختلفة، كأن يكون اللفظ (مانيكانا) تضفي عليه في كل مرة ثوباً جديداً، ثوباً يعبر عن الأمل، وآخر يعبر عن اليأس، وثالث يعبر عن التوسل..الخ، وإنما الأمر على الضد من ذلك تماماً، إنها تكتشف، وتكشف، في اللفظ الواحد عدداً عجيباً من المشاعر والأحاسيس المختلفة، بعضها يناقض بعضها الآخر، وبعضها يتوافق معه، فتمضي في الغوص في المعاني العميقة والمستترة وراء اللفظ، توقظ في كل مرة تؤديه فيه احساساً خفياً، وشعوراً غافياً ما كان ليظهر لولا هذا التنوع الهائل في الأداء، إنها في الواقع لا تلون (المانيكان) بما تلبسه من أثواب اللحن والمعنى، وإنما تجعل (المانيكان) ينبض بالحياة نفسها .
إن أبسط لفظ يتكرر مثلاً في أغنيات أم كلثوم هو (آه)، فيندر أن لا تنطوي أغنية على أكثر من (آه) واحدة، وربما آهات عديدة، كما في أغنية (الآهات)، ومع أن هذا اللفظ يمكن أن يؤدي إلى أكثر من معنى، أهمها (التوجع) فإن أم كلثوم استطاعت أن تطلق من خلال هذين الحرفين مخزوناً من المشاعر والأحاسيس الهائلة التي يمكن أن تموج في وجدان إنسان، هنا آه تعبر عن اليأس، وأخرى تعبر عن الأمل، وثالثة تعبر عن الغضب، ورابعة تعبر عن الحزن، وخامسة تعبر عن غير ذلك من المشاعر، إنها تطلق إذن طاقة وجدانية من خلال لفظ واحد، والمهم أنها لا تأتي بالطاقة من خارج اللفظ، فتضفيه عليه، وإنما هي تطلقها من داخله، ومثل ذلك كلمات أو جمل عادية مثل (حبي) و(حبيبي) فهذه الألفاظ مُجَّت لكثرة ترددها على ألسنة المغنين، بسبب اقتصارهم في أدائها على معنى واحد، إلا أن أم كلثوم تكتشف فيها مرة بعد مرة، وبالتتابع الشديد، معان أخرى وأخرى، فتعيد الحياة للفظ باكتشافها روحه الكامنة وراءه، فإذا بها روح وثابة، حية، متمردة ساعة، ومستكينة أخرى، وهكذا الأمر في كل أغنياتها، وأظن أن قدرتها على اكتشاف روح الكلمة، والجملة، لا الوقوف عند معناها الظاهر، هو الذي جعلها تتجاوز اللحن الذي يضعه الملحن لهذه الكلمة أو الجملة، فمن المعروف أن الملحن يضع أكثر من لحن لجملة معينة، حتى تعيد أداءها على وفقه، ولكن أم كلثوم تتجاوز في أدائها ما يضعه الملحن من ألحان لتلك الجملة، فتؤديها على وفق ألحان عديدة تضعها ارتجالاً تكشف في كل منها احساساً مختلفاً، مثال ذلك أنها حينما غنت أغنية (الأوِّله في الغرام) من كلمات بيرم التونسي، وألحان زكريا أحمد، تجاوزت ألحان الأخير مرات عديدة، حتى لم يعد المتلقي يتذكر اللحن الرئيس الذي وضعه، وتحول أداء جملة مثل (اسعفيني يا عين وبالدمع جودي) إلى تعبير مجرد عن لوعة حزن تارة، واستعطاف للعين تارة أخرى، ونهر لها تارة ثالثة، ويأس منها تارة رابعة، وهكذا، وربما كان بيرم يريد أن يعبر عن ذلك كله في هذه الجملة، ولكن كيف له أن يفعل إلا أن يكتب شرحاً مطولاً لها يتجاوز ما يمكن أن يكون شعراً مغنى، شرحاً يعبر فيه ما جال في أعماق نفسه من مشاعر متضاربة، وهنا استطاعت أم كلثوم أن تكشف كل ما جال في أعماق هذه النفس.
لقد اختزلت ام كلثوم هنا المسافة بين الشكل والمضمون، أي بين اللفظ ودلالاته، وهو بالضبط ما يمكن أن نسميه (إبداعاً)، وسمته هي (حاجة من ربنا).


بين الكامن والمعلن
أي قدرة امتلكتها فتاة قدمت من أعماق الريف في التوغل في أعماق النفس البشرية، فتصف (المستخبِّي فيه) ، إنها تذكر بأدائها الطبيب النفساني الذي يدع مريضه على (أريكة) ثم يبدأ باكتشاف مجاهل نفسه، من خوف، وقلق، وأمل، وحب، وانتقام، ويأس، وسكينة. وأم كلثوم لا تتحدث عن تجربة الشاعر الذي نظم كلمات ما تؤديه، وإنما تتحدث من خلال ذلك عن النفس الانسانية مطلقاً، ومن ثم فهي تخاطب كل انسان في ثوابته التي لا تتغير، ومن هنا يحس كل واحد من سامعيها أنها تخاطبه هو دون غيره من السامعين، بل تحاوره في صخب وصمت معاً، في ثورته وفي سكونه، وفي كبريائه وفي ذلِّه، وفي حبه وفي انتقامه، على حد سواء. وعلى الرغم من المتعة التي يحسها الجمهور، بحكم ارتقائهم الجمعي إلى مستوى الوجد – كما ذكرنا- فإن السبيل إلى ذلك الارتقاء هو العلاقة العميقة والمفعمة بالحيوية التي تقيمها أم كلثوم مع ثوابت النفس الإنسانية لكل فرد من ذلك الجمهور الواسع. كثير ما روى مستمعون لأم كلثوم كيف أنهم أحبوا واقترنوا برفيقات أعمارهم متأثرين بأغنية من أغانيها، وكيف اقترنت مراحل من حيواتهم، أو حيواتهم كلها، بأم كلثوم، لقد لخَّصت هذه السيدة بأدائها كل أحاسيسهم بعمق، أو أنها أخرجتها إلى السطح، تماماً كما يفعل الطبيب النفساني حينما يخرج، بالتداعي الحر، ما هو كامن من إحساسيس لدى من يشعرون بمتاعب في حياتهم ، فلا يغادرون عيادته إلا وهم في حال أفضل، لأنهم أدركوا سر ما كان يؤرقهم. لقد اختزلت أم كلثوم هنا المسافة بين الكامن والمعلن في النفس الإنسانية.


بين ماض وآت
على أن أم كلثوم لا تحاكي، أو تؤكد، احساس مستمعيها فحسب، كأن تثير أشجان الحزين، كثيرون من المغنين يفعلون ذلك، وينالون قبول مستمعيهم لأنهم يساعدونهم على البكاء أحياناً، وعلى الفرح في أحيان أخرى، وفقاً للحالة التي هم عليها، إلا أن أم كلثوم لا تحاكي، وإنما تحاور، فقد تساعد الحزين على الارتقاء فوق أحزانه، وأن تجعل المسرور أقل سروراً ولكن أكثر نضجاً ووعياً بحاله، وهي تفعل ذلك من خلال قدرة فائقة في استخدام أنواع عديدة من المقامات لأداء لفظ واحد، وأذكر أنها حينما سافرت إلى سوريا سنة 1931 في أول رحلة فنية لها، وأدت بعض أغانيها هناك، نقد أحد النقاد عليها أنها تستخدم مقاماً حزيناً للتعبير عن معنى مبهج، وبالعكس، فإنها ربما استخدمت مقاماً مفرحا للتعبير عن معنى حزين، ولم يجد لذلك تفسيراً إلا بعدم تسجيل المقامات الشرقية بحسب النوتة الغربية!، وواضح أنه راعى هنا ما كان عليه الغناء في عهده، حين يؤدي المغني لحناً حزيناً لإثارة شجن سامعيه، مع أن أم كلثوم لم تكن تفعل ذلك، وهو ما فاته إدراكه، إنها كانت تحاور سامعيها بأن تساعدهم على أن تخرج من أعماقهم كل ما هو مختزن فيها من أحاسيس تتراوح بين أنواع من المتناقضات. ولأن هذه الأحاسيس متناقضة بطبيعتها، ومتقاطعة، فلا يمكن التعامل معها على وفق مقام واحد، مهما كان تأثيره محدداً. لقد تنقلت مثلا بين أنواع من هذه الحالات في أغنيات (رباعيات الخيام)، حيث ساعدت كلمات هذه الأغنية في تصاعد أحاسيس مستمعيها، من الدعوة إلى الفرح، إلى التفكر، إلى التأمل، إلى الندم، إلى طلب الرحمة، وفي أغنية (الحلم) حينما تتصاعد في التعامل مع أحاسيس مستمعيها من الترقب، إلى التلهف، إلى التشوق، إلى التخيل، ثم تنتهي فجأة باليقظة حيث يكتشف أن الأمر لم يكن إلا خيالاً وحلماً، فتتنقل بالسامع بين الواقع والوهم في جدلية عميقة تدور في أعماقه، ومثل ذلك في أغنيتها (شمس الأصيل) حينما تبدأ بالتصاعد من خلال تقديم صور متتابعة، مفعمة بالإحساس، لمشهد النيل في الليل الساكن، وصورة القمر وهو يظهر ويغيب بين الغيوم، وقدود المتمايلات على شاطئه، حتى إذا ما امتلأ السامع إحساساً بما حوله، كشفت له أن هذا الإحساس لم يكن إلا صورة حبه لحبيبته، فإذا ما وعى ذلك وأدركه، كان فراق الحبيب وغيابه، وكان ذلك الفراق مثل غياب القمر وراء الغيوم، لتنتهي الأغنية بحالة من الأسى العميق، وهناك أغان عديدة يمكن أن نتلمس فيها هذه الكثرة من الأحاسيس المتناقضة مما ذكرنا، وكل ذلك يتجاوز تصنيف تلك الأغاني على أنها (أغان حزينة) أو (أغان فرحة) على النحو الذي تصنف بها الأغاني عادة.
أن هذه الحوارات المستمرة لثوابت النفس الإنسانية هي وحدها السبب في أن تبقى لأم كلثوم مكانتها الفنية العالية في خلال عصرها، مع أن معظم متلقيها اليوم لم يدركوا ذلك العصر، وهي التي جعلتها حاضرة في حياتنا مالئة عصرنا الذي لم تدركه هي! إن أم كلثوم هي الفنانة الوحيدة التي لا تتحول أغانيها لتوضع على الرفوف العالية للإذاعات، وإنما ظلت تسيطر على وجدان المتلقي جيلا بعد جيل، متجاوزة حدود الزمان، حتى أن معجباً بها صرخ مرة، في تعليق له على الفيسبوك: إن صوت أم كلثوم هو الوحيد الذي سيسمع حتى يوم القيامة! وكان الأديب يوسف السباعي قد لاحظ من قبل أن أم كلثوم "عاشت عدة أعمار فنية، كانت فيها همزة الوصل بين أجيال وأجيال"
لقد اختزلت أم كلثوم إذاً المسافة بين زمن وآخر.


اطلاق روح اللفظ
تختار أم كلثوم الكلمة قبل أن تختار ناظمها، والأساس في ذلك الاختيار أنها تسعى لاكتشاف المعاني التي يمكن أن تكون مختبئة وراء هذه الكلمة وفي ثنائاها أيضاً، لتتمكن من أن تطلقها، أو تكشفها، لجمهورها.
وقد كاد الموسيقار محمد عبدالوهاب أن يلمس هذا المعنى حين ذكر أن دورها في الاغنية يشمل "خلق الكلمة والمعنى، وأحياناً فكرة الأغنية كلها" . وفي الواقع فإنها لم تخلق الكلمة بالمعنى الدقيق للكلمة، لأن للكلمة شاعر نظمها، وكذلك فكرة الأغنية، وهي لم تخلق معناها، لكنها اكتشفت معان عديدة لها بالغوص في أعماقها. لقد أحاط بها شعراء كبار، وهم يتمنون أن تؤدي شيئاً من أشعارهم، وأكثرهم كانت لها صلات شخصية بهم، لكنها لم تشأ أن تختار أحدهم لتغني له، وإنما كانت تختار النص أولاً، وفي ضوء ذلك تختار ناظمه، ولو أنها أخذت بالضد من هذه القاعدة، لغنَّت لرامي كل أغانيها، لكنها غنَّت له لأنه كان، بحكم صوفيته، الأقرب فهماً لأسرار حوارها مع جمهورها، ومع ذلك غنت لغيره من شعراء عصرها، بل لشعراء عصور سلفت، وبعضهم من المشهورين بينما كان بعضهم مغموراً تماماً.
وكثيراً ما كانت تغير لفظاً في قصيدة، ليس لأنها (تقيلة) كما تقول، ولكن لضعف إحساسها به، وليس ذلك الضعف قصورها في فهمها له، وقد كانت قارئة جيدة للأدب العربي عامة في كل عصوره، وإنما لأن من الألفاظ ما يكون ناقص الدلالة، ومنها ما يكون غنياً بها، كما هي الأجسام يكون منها العليل، ومنها الصحيح أيضاً، لقد كانت قادرة على نحو مبهر في تمييز الألفاظ الصحيحة، أي التي لو أدتها لأطلقت منها مشاعر شتى، عن تلك التي لا تعبر إلا عن القليل. وحينما رفض أحد الشعراء إحداث تغيير أرادته، اعتذرت عن أداء القصيدة كلها، بل أنها أنهت صلتها بناظمها.
وبلغ من عناية أم كلثوم بكل نص أدته وتبنيها له أنها بدت وكأنها الناظمة الحقيقية لكل ما أدته. أو أنها في الواقع أدت قصيدة واحدة نظمتها هي على ألسن أولئك الشعراء، فعلى الرغم من التنوع الشديد في معاني تلك القصائد وغاياتها، إلا أن تأملها يظهر أنها كانت تعبر عن روح واحدة لها مواقف متقاربة من الحياة، فكأنها من نظم شاعر واحد. وهكذا يمكنك أن تتبع المعنى الواحد يتطور، أو يتأكد، في عدد من الأغاني، فيكمل كل منها ما تؤديه في اغنية أخرى.

لا تختار ام كلثوم إذن كلمات شعرائها فحسب، وإنما تختار وقت أدائها تلك الكلمات، وهذه مسألة مهمة لا أظن أنها أثارت ما تستحقه من الملاحظة، ولا نقصد هنا أنها كانت تختار من النصوص ما يوافق مناسبة وطنية أو دينية مثلاً، كما يفعل الكثير من المغنين، وإنما كانت تختار من اللفظ ما من شأنه أن يطلق طاقة روحية في نفس المتلقي، من نوع ومستوى ما مر بنا، بغض النظر عن أن يكون النص وطنياً أو دينياً أو حتى عاطفياً، لأنها لم تكن تخاطب المناسبة لفظاً مباشراً، وإنما (إشارة) كما يقول الصوفيون، مثال ذلك أنها حينما أرادت حض المصريين على تجاوز حالة الضعف في موقفهم من البريطانيين الذين كانوا يهيمنون على مصر ويحتلون القناة، اختارت أن تؤدي أغنية دينية لا وطنية أو سياسية، فكانت قصيدة (سلوا قلبي) لأحمد شوقي، لأنها تضمنت روحاً من الحماسة الملتهبة مقابل اليأس السائد، فلا "تؤخذ الدنيا إلا غلاباً"، وليس بانتظار ما تجود به أيدي المستعمرين، من خلال المفاوضات السقيمة كما كانت الأمور تجري عهد ذاك، وإذ قامت ثورة 1952 شعرت أم كلثوم بضرورة دعم الإحساس الوطني ودعم الجبهة الداخلية بإلهاب روح جديدة قوامها الاعتداد بالنفس والثقة والإرادة، فلم تختر قصيدة وطنية مما نظمه شعراء تلك اللحظة العصيبة التي كانت تمر بها بلادها، وإنما أبيات انتقتها بعناية من قصيدة قديمة مضى على نظمها نحو خمسة عقود، هي (مصر تتحدث عن نفسها) التي نظمها شاعر النيل حافظ ابراهيم قبل الحرب العالمية الأولى، ومن يقارن بين أصل القصيدة وبين ما انتقته أم كلثوم من أبياتها يكتشف على الفور أنها أطلقت في تلك الأبيات المختارة روح القصيدة لا شكلها، وذلك أنها حذفت الأبيات التي تفقد القصيدة تركيزها وأبقت قلبها فكأنها أعادت نظمها وهكذا بدت وكأنها نظمت في سنة أدائها، ومن تلك الأبيات ما يدعو الثوار إلى وحدة الرأي إذ أن (عثرة الرأي تردي) فلم يفهم أحد منها إلا أنها تقصد ما كان يمر به ثوار يوليو من اختلاف في اختيار طريق التغيير والثورة لا ما كان يقصده حافظ ابراهيم قبل نحو خمسين عاماً.
إن ما كانت تفعله أم كلثوم لم يكن إذن اختياراً لأبيات، وإنما إعادة تشكيل القصيدة عن طريق حذف كل ما من شأنه أن يعيق انطلاق روحها كما مر بنا. ومثل هذا ينطبق على قصائد عديدة اخذتها من دواوين لشعراء رحلوا، فأعادت ترتيب أبياتها، بعد حذف ما رأته خارجاً عن الفكرة التي أرادتها، مثل (حديث الروح) لشاعر الباكستان إقبال، حيث اقتبست أبيات من قصيدتين للشاعر، فوصلت بينها بأن أعادت ترتيبها لتبدو قصيدة واحدة، تعبر عن روح واحدة، وتحاور في النفس أحاسيس عديدة.
وصفت أم كلثوم ذات مرة نص الأغنية كقطعة القماش، إن كان فاخراً متماسكاً أجاد الخياط في (تفصيله) وإن كان رخيصاً مبتذلاً جاء صنيع خياطه مثله، فنقطة البدء لدى أم كلثوم إذن هي الكلمة، ثم يأتي كل شيء من بعدها. لقد غنت أم كلثوم لشعراء عديدين إذن، نظموا قصائدهم لها، إلا أنها في الواقع أدت قصيدة واحدة نظمتها هي على ألسن أولئك الشعراء، فعلى الرغم من التنوع الشديد في معاني تلك القصائد وغاياتها، إلا أن تأملها يظهر أنها كانت تعبر عن روح واحدة لها مواقف متقاربة من الحياة، فكأنها من نظم شاعر واحد. وهكذا يمكنك أن تتبع المعنى الواحد يتطور، أو يتأكد، في عدد من الأغاني، فيكمل كل منها ما تؤديه في أغنية أخرى.

لقد اختزلت أم كلثوم المسافة بينها وبين الآخر
واختزلت المسافة بين الواحد والكل
واختزلت المسافة بين زمن وآخر
واختزلت المسافة بين الحزن والفرح
واختزلت المسافة بين الكامن والمعلن
بل اختزلت المسافة بين الحياة والموت...









#عماد_عبد_السلام_رؤوف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد عبد السلام رؤوف - ام كلثوم واختزال المسافات