رام الله ـ فلسطين المحتلة
في صحيفة القدس المقدسية(
30/11/02)إعلان ضخم موقع من جهة تطرح نفسها بوصفها " حشد ": الحملة الشعبية للسلام
والديمقراطية. وفي هذا الزمن الفلسطيني تكثر الأسماء والمسميات، ويستطيع أياً كان
أن يطلق الحملات الإعلامية التي يشاء، وهو أمر لا يضمن وجود أي شيء على أرض الواقع.
لكن ثقل الحملة وأصحابها_ الذين نؤثر عدم الخوض في هويتهم ما داموا لا يصرحون بها _
لا يؤثران كثيراً في قراءتنا " للتصور ".
وأول عناصر القراءة هي قراءة شكل الإعلان، الذي يعبر
عن غنى الجهة التي تقف وراءه، وهو ما يشي بطبيعة الحال بوجود التمويل الأجنبي في
الظل، وإن كان الإعلان غفلاً من ذكر الممول، خلافاً لما هو الحال في مثل هذه "
النشاطات ". وثاني الأمور هو تمتع مثل هذه الإعلانات بالتساهل، وربما الرعاية. ومنذ
بضعة أيام لاحظنا كلاماً من نفس النغمات منشوراً أعلى الصفحة الأولى لجريدة القدس
دون أن نميز في الواقع هل هو في إطار الخبر أم الإعلان مدفوع الأجر. وإن كنا نرجح
الخيار الثاني على الرغم من وضعه في شكل يوهم أنه خبر. وهي طريقة ابتكرتها المنظمات
غير الحكومية على الأرجح، عندما درجت على نشر "أخبار" مدفوعة
الأجر.
إذا
انتقلنا إلى قراءة المتن نفسه، فإننا نقع فريسة الفنتازيا على الفور. فالواقع أن
النص يبشر بكل ما يحلم به الجائع الفلسطيني الذي يمكن أن يكتفي بالعيش( الخبز
باللهجة الفلسطينية). والحقيقة أن الحلم لا يكتفي باستعادة كل المناطق المحتلة عام
67، ولكنه يؤكد على وضعها تحت سيطرة السيادة التي تتمتع بها الدولة الفلسطينية
الحرة _ ولا نعي بدقة ماهية الحرية المشار إليها في هذا السياق _. وهذا في الوقع
غيض من فيض، فالدولة ستكون بحسب النص دولة الحريات والشفافية والنمو الاقتصادي
والتكنولوجي _ أي والله _ والانطلاق العلمي. والحقيقة أن كل هذا يرفع الفلسطينيين
إلى السماء السابعة ذاتها. لكن كيف يتحقق ذلك؟
يخبرنا الجانب الأيسر من الصفحة بأن
ذلك لا يحتاج أكثر من انسحاب إسرائيل من مناطق الضفة والتنازل الفلسطيني عن حق
العودة، ثم يأتي نزع سلاح الدولة الفلسطينية الحرة صاحبة السيادة. هكذا يتحقق
كل شيء.
قد
يتوهم البعض أننا نظلم الإعلان أو نتجنى عليه في أسلوب القراءة، والحقيقة أن هناك
بضعة جمل لا يجوز إغفالها عن تبادل الأراضي، وكون إسرائيل هي أرض الشعب الإسرائيلي،
وفلسطين ارض الشعب الفلسطيني. ولكن ذلك كله لا علاقة له بالموضوع، فالصحيح أن سبل
تحقيق الأحلام الفلسطينية إنما تتهيأ عبر نزع السلاح، والتخلي عن حق العودة. وبعد
شيء من التفكير وخصوصاً أن أصحاب الإعلان يوجهون الدعوة لمن شاء ليراسلهم ويساهم في
تطوير الفكرة أو شيء من ذلك القبيل، وجدنا أن من المناسب أن نبين للقارئ أن
الاقتصاد الفلسطيني جاهز للإقلاع منذ مدة طويلة لولا النفقات الهائلة التي يتجشمها
بسبب التسلح العملاق الذي أنشأ ترسانة لا يضاهيها في الخطورة إلا ترسانة صدام حسين،
مما يشكل مخاطر جسيمة على الدولة العبرية المسالمة منذ نشأتها الميمونة عام 48 وحتى
اللحظة. وليس من المستبعد أن يقوم مجلس الأمن الأمريكي بوضع " فلسطين " على رأس
قائمة الأخطار بعد أن يفرغ من الأخطار العراقية. ولا بد أن إسرائيل في أمس الحاجة
إلى الحماية من الفلسطينيين. لكن الفوائد التي ستعود على الدولة الفلسطينية كاملة
السيادة منزوعة السلاح _ لا مكان للمنطق في تفكير أصحابنا وإلا كانوا انتبهوا إلى
الخرق الفادح للقانون الثاني من قوانين الفكر المنطقية، لكن ذلك لا يهم _
تجعل المصلحة الفلسطينية الإسرائيلية متطابقة من هذه الناحية تماماً. والواقع أن
أصحاب البيان الذي يجيء في ذكرى قرار التقسيم، لا يقولون شيئاً عن ذلك القرار الذي
فتح الباب لتأسيس دولة إسرائيل شرعياً على أساس القرارات الدولية. وفي هذا السياق
يأتي التنكر الفلسطيني العجيب للقرار 194 الذي يغيب تماماً ليس عن المطالبة
والتفعيل، وإنما حتى عن مجرد الذكر على الأقل من باب مجاملة الذات. فالناس يترحمون
على موتاهم ليس من أجل استعادتهم، وإنما من باب الوفاء المجاني الذي لا يتناقض مع
حب السلام أو بناء تكنولوجيا واقتصاد حديث على أنقاض عالم الأسلحة المدمرة التي
تملأ الأرض الفلسطينية منذ زمن طويل.
ليس واضحاً على وجه الدقة ما إذا كان هناك مصادر أخرى
لتمويل الرفاه الفلسطيني _ بالإضافة إلى المدخول الذي سيجري توفيره من الأموال التي
كانت تستثمر في التسلح_ أما التخلي عن حق العودة فإنه بدوره ضروري تماماً لإنجاز
أية تنمية، فحضور ملايين الفلسطينيين من الخارج إلى أرض إسرائيل سيشكل ضغطاً هائلاً
على المصادر والموارد، الطبيعية منها خاصة. وكلنا يعلم أزمة المياه التي تعاني منها
البلاد منذ أيام الكنعانيين. والحق أن استبدال الفلسطينيين بأية أعداد من يهود
العالم هو أفضل بما لا يقاس بسبب من حضارية هؤلاء وقدرتهم _ المجربة _ على جلب
العلم والرفاه والسعادة لهم ولجيرانهم على السواء. ومن هنا لا يطالب الإعلان مطلقاً
بوضع حد " للعودة " الإسرائيلية، بحيث تكتفي بالقدر الذي تحقق رحمة بالمنطقة
وقدرتها على الاستيعاب _ مثلا _. إنها تسمح بعودة من يرغب منهم إلى ما شاء الله.
وأما الفلسطيني فإنني أتوهم على الرغم من إشارة النص إلى إمكان عودته إلى أرض الدول
الفلسطينية إذا شاء، أتوهم أن من الأفضل أن لا يعود كي لا ينتقص من إمكانيات الرفاه
الهائلة التي ستحققها دولته ذات السيادة المنزوعة السلاح. فالواقع أن دولا مشابهة
مثل ألمانيا قد تعرضت للكثير من الصعاب عندما تحققت الوحدة سنة 1990 بعد هدم سور
برلين. وذلك ولا شك يشكل عبرة لنا لكي لا نتسرع وننساق وراء المشاعر القومية، وننسى
أن رفاه الإنسان في دولة "التكنولوجيا والانطلاق العلمي " تبقى أهم من إعادة الناس
إلى حيث يزعمونها أرضاً لهم. فالغايات العملية الواقعية تبقى أهم بكثير من الأحلام
القومية المتعصبة، وهذا واحد من أهم وأنفع دروس البراغماتية والليبرالية المشهورة
في الثقافة ألأنجلو_سكسونية.
منذ يومين نخضع في هذا المكان لمنع تجول محكم يشتمل
على مطاردة الأطفال واعتقالهم إذا ما خرقوا حظر التجول. ويبدو الاقتصاد الفلسطيني
الذي يمتلك في الضفة صفراً من الإمكانات في أسوأ أحواله. لكن كل ذلك لا يهم،
فالرؤية التي يمتلكها أصحاب الحل المقترح تتفوق على الواقع، لأنها ببساطة لا تراه.
وإنما ترى الجهة الأخرى من العالم: ذلك الجانب الذي تشرحه رواية سكوت فيتزجرالد"
هذا الجانب من الجنة." ولأنهم هناك فإن بإمكانهم أن يحلوا كل شيء عبر النوايا
والأحلام وشيء من الفنتازيا الغربية التي طالما تذوقناها نخباً معزولة في أبراجها
وجماهير مطحونة في قراها ومخيماتها ومدنها البائسة. لكن كل طرف تذوقها على طريقته،
فللحقيقة دائماً وجهان: أحدهما لسكان " العشة "، والآخر لسكان القصر، وهؤلاء هذه
المرة هم نخب مثقفة حسب قواعد اللبرلة الأمريكية.