أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامح سعيد عبود - مقدمة وخاتمة كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى















المزيد.....


مقدمة وخاتمة كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى


سامح سعيد عبود

الحوار المتمدن-العدد: 327 - 2002 / 12 / 4 - 04:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



  
*****************
مقدمة الكتاب
يثار اليوم على الساحة السياسية عموما جدل حاد حول التنوير،فى ظل التهديد الذى تمثله الحركة الإسلامية فى منطقتنا لكل ما تم من تحديث وعلمنة خلال المائتى عام الماضية ،مبشرة بالمزيد من التدهور والتخلف،مهددة وجود كل التيارات الديمقراطية والعلمانية ذاتها وليس اليسار فحسب.. ذلك لو شاءت لها الظروف أن تصل إلى السلطة إلا أن الحقيقة التى يتحدث عنها الكتاب، ويرصدها عبر البحث هى: أن التنوير الحقيقى لا يجب أن يتم فقط فى مواجهة الإسلام السياسى فحسب بقدر ما يجب أن يتم أيضا ،وعلى نفس المستوى من الأهمية فى مواجهة القوى السياسية الرئيسية فى مجتمعنا "القوميين بتنويعاتهم المختلفة من أنصار الإقليمية مثل "المصرية" إلى أنصار "العربية"،سواء أكانوا فى المعارضة أم فى الحكم. والماركسيين اللينينيين بفرقهم المختلفة "الستالينين والماويين والتروتسكيين"، والليبراليين كما تجلوا فى الواقع ،فى الحكم أو فى المعارضة، والإسلاميين "معتدلين أو متطرفين"، وفى مواجهة الحركات الاجتماعية والثقافية المختلفة ذلك إن شئنا تحريرا حقيقيا للعقل الاجتماعى من قيوده ،وإحداث تنوير فعال اجتماعيا.
  وما بين التنوير السلطوى المحافظ الذى يمارسه البعض، ويميل إلى "التوفيقية" و"التلفيقية"، وبين رفض فكرة التنوير ذاتها باعتبارها مهمة برجوازية الطابع..تضيع الحقيقة الجوهرية،وهى ضرورة التنوير من أجل أحداث أى تغيير اجتماعى . ذلك لأن التغيير الاجتماعى ابن ظروف موضوعية مستقلة نسبيا عن أى إرادة أو وعى، بما فى ذلك وعى وإرادة الطبقة التى من مصلحتها التغيير - إلا إنه أيضا وفى نفس الوقت من صنع هذه الطبقات والفئات الواعية، بما تريد أن تغيره ،وبالوسائل التى تستطيع بها هذا التغيير.
ومن هنا فإن فعل التغيير مرهون بهذا الوعى ، المرهون بدوره بالظروف الاجتماعية ؛ إذ هو مجرد انعكاس لها : فجماهير هذه الطبقات والفئات لا تتحرك للتغيير وفق الضرورة الكامنة فى الواقع فحسب، ولكنها تتحرك وفق فكرة ما، مرتبطة فى ذلك بفهمها لنفسها وللعالم الذى تسعى لتغييره، كما أن هذه الفكرة تنشأ فى ظل ظروف اجتماعية بعينها، ويظل نجاحها مرهونا فحسب بتوافق هذه الفكرة مع الضرورات الحاكمة للواقع وتغيراته.
  كذلك هو الأمر فى علاقة الإنسان بالطبيعة، حيث استطاع الإنسان تحويل ما فى الطبيعة إلى مالا حصر له من مواد مصنعة، بل وإحداث شتى التغييرات بها، عبر رحلة طويلة امتدت خلال تاريخه بأسره، وكان شرط نجاحه دائما هو فهم الضرورات الكامنة فى الطبيعة، والوسائل التى يمكن أن يحدث بها تأثيره على هذه الأشياء لتتحول إلى ما يريد، وهذا أمر مشروط بدرجة التطور الاجتماعى التى وصل إليها البشر فى مرحلة تاريخية معينة.. وعبر هذا التاريخ الطويل تراكمت المعلومات والخبرات عبر ملايين السنين، والتى حصلها الإنسان عبر الاحتكاك العملى بينه وبين الطبيعة من حوله، وعبر الملاحظة والتجربة وصل إلى ما وصل إليه من تقدم مذهل فى علاقته بالطبيعة. ومن هنا فإننا إذا أردنا إحداث تغيير فى المجتمع البشرى - على اعتبار أنه أيضا شئ كأشياء الطبيعة، وإن كان يختلف عنها فى بعض الخصائص - فإننا لابد أن نفهم الضرورات الكامنة فى طبيعة المجتمع، والقوانين التى تحكم تغيراته وتحولاته، وهذه هى مهمة العلم الاجتماعى.. ثم تأتى الخطوة الثانية،وهى اكتساب الطبقات والفئات التقدمية التى من مصلحتها التغيير لهذا العلم؛ كى تستطيع أن تحقق فكرتها : التحرر من القهر والاستغلال الواقعين عليها من الطبقات والفئات الرجعية التى تسعى لاستمرار ذلك القهر وذاك الاستغلال، ومن ثم يكون دورها تشويه الفهم الصحيح للمجتمع.. من خلال علم زائف تصنعه وتروج له.
  ولما كانت الأسطورة من حيث هى أحد أشكال الوعى الاجتماعى تتضمن رؤية معينة وفهما خاصا للعالم بما فيه المجتمع البشرى ، فإنها تصبح الأساس للعديد من حركات التغيير الاجتماعى عبر التاريخ البشرى ، ولنفس السبب تتكون حركات اجتماعية تقوم على أساس فهم علمى للمجتمع ، هو بدوره أحد أشكال الوعى الاجتماعى ، يتضمن رؤية وفهما خاصا للعالم بما فيه المجتمع البشرى. وقد قامت حركات اشتراكية أسطورية، وحركات اشتراكية علمية ، وكلتاهما تهدفان للتغيير الاجتماعى ، إلا أن كلا منهما كانت تقوم على أساس فهمها الخاص للعالم ، ورؤيتها لتغييره ، وقد استخدمتا من أجل ذلك منهجين مختلفين فى التفكير والتغيير الاجتماعى، يتلاءم كل منهما مع رؤية كل منهما للعالم .
  والأسطورة التى أقصدها هنا ليست فقط الأسطورة القائمة والمستندة على فكرة غيبية ما ، ولكنها كل بناء فكرى قائم على أساس منهج معين للتفكير ، يتميز بعدد من الخصائص، حتى إن لم يكن فى بنائها الفكرى أى أفكار غيبية، بل وحتى إن اتخذت موقفا معاديا للغيبية.
  ويقف العلم على الطرف النقيض ، لاستناده أساسا على فهم الواقع بكل أشيائه ومظاهره وعملياته المستقلة عن أى وعى وبصرف النظر عن أى غيبيات ،على المنهج العلمى فى التفكير المتميز بعدد من الخصائص التى استقرت عليها الخبرة البشرية.
والإسلام السياسى هو حركة سياسية للتغيير الاجتماعى تقوم على أساس رؤية معينة للدين والعالم .تستند فى قوتها بالإضافة إلى ظروف اجتماعية وتاريخية معينة - إلى أن المنهج الفكرى السائد (حتى بالنسبة للكثير من العلمانيين والماركسيين ) هو منهج أسطورى بكل خصائص هذا المنهج المناقضة للمنهج العلمى، و من ثم فإن جزءا من مواجهة هذه الحركات يكمن فى تشريح ونقد المنهج الأسطورى ، ليس فحسب فيما يتعلق بالحركة الإسلامية فحسب إنما فيما يتعلق بكل الحركات السياسية والاجتماعية التى تسعى إلى تغيير المجتمع البشرى على غير أساس من العلم.
وتقوم عملية تشريح ونقد خصائص المنهج الأسطورى على البحث عن الجذور المنهجية والفلسفية داخل الخطابات السياسية للقوى السياسية المختلفة ، من أين تنطلق هذا الخطابات فى حكمها على الأشياء ؟ وما هى حدود التغييرات الاجتماعية التى تبشر به ؟
  إن أهم ما يهدف إليه الكتاب لا يمكن اختصاره فى مجرد المواجهة السياسية مع تلك القوى ، فهو – بالأساس – محاولة لتحرير العقل من قيود المنهج الأسطورى فى التفكير، لتتفتح لهذا العقل رؤية أخرى تعتمد على منهج آخر.. وهذا شرط جوهرى لفهم العالم على النحو الصحيح ، ومن ثم اكتساب القدرة الفعلية على تغييره.
  وسعيا لإيضاح الرؤية سالفة الذكر فإنه كان على أن أتناول خصائص المنهج الأسطورى بمقارنتها بنقائضها من خصائص المنهج العلمى ، وكان ذلك فى تسعة فصول ، بحيث يتناول كل فصل خصيصة من هذه الخصائص ونقيضتها، المترابطة والمتسلسلة بشكل منطقى، على النحو التالى : النقدية والنقلية ، استيعاب الآخر و نفى الآخر ،التطور و التجمد ،الموضوعية و الذاتية ،الواقعية و الرومانسية ،التاريخية و اللاتاريخية ،المادية و المثالية، النسبية و الإطلاقية ،التقدمية و المحافظة.
  فى هذا الكتاب دعوة ضمنية لتأسيس علم اجتماعى و إنسانى جديد قادر على فهم أفضل للواقع البشرى، وهو الفهم الذى لن يكون إلا بامتزاجه بممارسة هذا التغيير فعلا، كما أنه لن يكون إلا عبر منهج علمى بكل الخصائص العامة للمنهج العلمى من موضوعية وواقعية..الخ ..فمن الملاحظ أن العلوم الطبيعية قد تطورت تطورا هائلا بالنسبة للعلوم الاجتماعية التى لم تتخلص بعد فى الكثير من فروعها ونظرياتها من الخصائص المناقضة للعلم..
قد مر الكثير من الوقت وأنا أبحث عن مصطلح مناقض لمصطلح العلم ،حتى اهتديت فى النهاية إلى مصطلح "الأسطورة" كمجرد اسم لهذا النقيض الذى لا يجب المعانى الأخرى للكلمة ولذلك لا يجوز الخلط بين المنهج الأسطورى فى التفكير، وما يتم إنتاجه من تراث فنى وأدبى وفلكلورى استنادا إلى الأسطورة ، فالأسطورة هنا تعنى الأفكار التى يصنعها العقل البشرى لتفسير وفهم وتغيير الواقع عبر المنهج الأسطورى المناقض للعلم ومنهجه. ولأن الأساطير السياسية الخيالية هى عالم من المثل والصور المثالية فإنها تشكل دوما مشروعا للهندسة الاجتماعية ، يحاول من يتبناها أن يتعامل مع المجتمع البشرى كما يتعامل النجار مع الخشب ، ولما كان النجار لا يتحاور مع الخشب وأدوات عمله ، فإن "المهندسين" الاجتماعيين يتعاملون مع البشر بنفس مستوى الاستبداد الذى يتعامل به الصانع مع ما يصنعه ، فضلا عن أنهم يظنون دائما أنهم يحملون الحل النهائى لكل مشاكل البشرية ، وأن فى أفكارهم تتلخص الحكمة النهائية، وبالتالى فعلى الجميع أن يخضعوا لهم باعتبارهم غير عارفين لمصلحتهم الحقيقية التى يعرفها فحسب هؤلاء المهندسون بما يروجون له من أساطير خيالية.
  حاولت أن يشمل هذا الكتاب على تطبيقات عملية لخصائص المنهج الأسطورى : ليس فحسب على خطابات القوى السياسية المختلفة التى أرى أنها قد لا تختلف كثيرا عن الحركة الإسلامية فى اتصافها بهذه الخصائص ، وإنما أيضا على ما نمارسه فى حياتنا اليومية أفرادا وجماعات فى العمل ، والأسرة ، ومعاهد الدرس ، والمنتديات الاجتماعية والثقافية ، وفى الطرق العامة ، سواء فى سلوكياتنا أو طرق تفكيرنا ، وفى علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين.
  وأجزم أنا نفسى - برغم ترصدى لخصائص المنهج الأسطورى وما تشكله من قيود على العقل - أننى قد أقع أحيانا فى النقلية ، و أحيانا قد أسلك وأفكر وفق بواعثى الذاتية أو على نحو مثالى، وهذا وإن كان عيبا من زاوية ما ، إلا أنه عيب شائع للغاية ، فالطريقة التى نبرمج بها اجتماعيا عبر الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام تجعلنا نفكر ونسلك على هذا النحو أو ذاك تلقائيا ، ولا ننتبه لما وقعنا فيه من خطأ إلا إذا نبهنا أحد إليه ، ولكن علينا أن نكون أمناء مع أنفسنا لكى نعترف بهذا الخطأ دون مكابرة أو تعصب.
  ومن هنا فإن لهذا الكتاب أيضا هدفا ضمنيا لم يعلن عنه حتى الآن ، وهذا الهدف هو : محاولة البحث عن طريقة تحرير العقل البشرى من قيوده ليس فحسب فى الحياة السياسية، وإنما فى شتى مجالات الحياة الإنسانية ؛ فيسهل علينا حين نعرف نوعية القيود التى نرصف فيها أن نكسرها ، وأن نتحرر منها.
  وإذا كان العصاب هو ذلك المرض النفسى الذى يعنى الوهم الذى يسيطر على المريض ، فأنى ألاحظ ومع تجاوز حدود تعريف المرض النفسى أن الغالبية الساحقة من البشر وعلى مدى تاريخهم المكتوب عصابيون على نحو ما ، إذ تسيطر على أفكارهم وسلوكياتهم الأوهام : ففى ظل واقع أقسى من أن يتلاءموا معه وأمنع من أن يغيروه ، وفى ظل ظروف أصعب من أن يتجاوزوها.. تجدهم يهربون لعالم الوهم الجميل.
  ولن يتحرر البشر من أوهامهم العصابية إلا حين يسيطرون على واقعهم وظروف حياتهم.. إلا حين يتحررون من القهر والاستغلال والاغتراب. إلا إذا آمنوا بأن البشر هم صانعوا تاريخهم، وأنهم لقادرين بشرط أن يفهموا الضرورات التى تحكم الواقع.. هذا الفهم الذى لن يأتى إلا عبر استخدام المنهج العلمى فى البحث والتفكير ، أى : عبر النقد العلمى لكل من الواقع والفكر، وعلى نحو موضوعى .
وأخيرا فأنى لاحظت عبر تأمل البحث .أن التمسك بالمنهج العلمى يصلح كفلسفة للحياة فى السلوك الإنسانى وطريقة التفكير، على المستويين الفردى والجماعى ،تحقق إشباع الاحتياج الإنسانى لمثل هذا النوع من الفلسفة،الذى سيظل ضروريا مهما تغيرت الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية،لارتباط هذا الاحتياج بالنوع الإنسانى فى حد ذاته. فسيظل البشر إزاء كل: من الموت والمرض والفشل والرغبات المكبوتة والآمال المحبطة والخوف والجهل والدهشة ،أسرى نوعهم الحيوانى، اللهم إلا إذا تغيرت هذه الطبيعة.ومن ثم فسيظلون فى احتياج دائم لفلسفة من فلسفات الحياة تعينهم على المقاومة والتجاوز ليس عبر الأساطير والأوهام العصابية .وإنما عبر فهم علمى للحياة الإنسانية.
وأخيرا يجب على أن أشير إلى أن هذه الطبعة الموسعة والمنقحة التى بين يدى القارىْ هى تطوير جذرى للطبعة الأولى التى اقتصرت تطبيقاتها على الإسلام السياسى بالأساس.وقد شملت التغيرات كل فصول الكتاب والمقدمة التى أضيفت لها خاتمة الطبعة الأولى كما أضيفت خاتمة جديدة و أضيف ثبت بالمصادر والمراجع الذى أغفل فى الطبعة الأولى.وقد أدى ذلك إلى مضاعفة حجم الكتاب تقريبا.
*****************************************
خاتمة الكتاب
أحب أن أشير فى البدء أن هذا الكتاب لم يكن عملا بحثيا يهدف إلى إثبات خرافية منهج القوى السياسية فى مصر خاصة والعالم العربى عموما فى سبيل تأسيس حركة سياسية أخرى تستند للمنهج العلمى،وإن كان هذا من نتائج البحث الضمنية التى لاحظها القارئ، ولذلك لم أتعمد جمع مادة كافية لحصر الخطابات السياسية لتلك القوى، وهو ما يحتاج لجهد بحثى ضخم لا يتسع له حجم الكتاب وهدفه الأساسى المشار إليه فى المقدمة.ولذلك فما تم جمعه من مادة كان بغرض تحليل الخطاب وعلى نحو سجالى من أجل توضيح خرافية المنهج الفكرى السائد عمليا.فكل مثل من الأمثلة المذكورة سنجد له ما لا حصر له من الأمثلة المشابهة ،وعند كافة القوى السياسية والاجتماعية يستوى فى ذلك مفكريها وكتابها ودعائيها ومحرضيها ، كبارا كانوا أم صغارا.وسيكون سرد المزيد من الأمثلة هو مجرد تكرار سيكون مفيد لو كان الغرض من البحث تحرى مدى الخرافية لدى كل حركة سياسية أو اجتماعية .
فالهدف الأساسى هو المقارنة بين المنهجين العلمى والخرافى تطبيقا على الخطابات السياسية للقوى السياسية والاجتماعية المختلفة ،وهو ما تم توضيحه عبر الكتاب إلا أن ما يلفت النظر حقا هو ذلك التشابه الفكرى بين تلك القوى على اختلاف مواقفها السياسية والاجتماعية والثقافية ،وبرغم ما تعلنه من مناهج فكرية مختلفة.وهو ما يشير للجذر الاجتماعى/ الثقافى المشترك الذى تفرعت منه الحركات السياسية والاجتماعية فى مصر والعالم العربى وهو ما تم الإشارة إليه فى متن الكتاب .. الجذر الاجتماعى لكل تلك الحركات هو الفئات المتعلمة تعليما حديثا، والتى تعمل بالعمل الذهنى عموما ،والمنفصلة عن الطبقات الأساسية فى المجتمع ،والمسماة بالانتلجينسيا ،وحيث أن مجتمعاتنا لم تتبلور فيها الطبقات الاجتماعية بعد مما سمح لتلك الفئات بفرصة إدعاء تمثيل إحدى هذه الطبقات أو بعضها أو كلها والتحدث باسمها،و ومن ثم ترفع أيديولوجية الهوية أيا كان نوعها قومية أو دينية أو ثقافية أو عنصرية أو طبقية،ذلك لأن المصلحة المؤكدة لتلك الفئات تتطابق مع ما تزعمه لنفسها من دور تاريخى فى قيادة من تتحدث باسمهم لحل مشاكلهم، وعلى رأسها الخروج من دائرة التخلف والتهميش، و الذى لن يكون إلا بدولة قوية على النسق الحديث ،يكونون هم عمادها الأساسى باعتبارهم الفئات الأكثر اتصالا بحكم تعليمهم الحديث بالحضارة الرأسمالية الحديثة، ومن ثم القادرين على إدارة أجهزة الدولة الحديثة.
وهم فى إطار هذا الدور وبحكم ما اكتسبوه من تعليم حديث، يبحثون عن أيديولوجيا تبرره، قد تستند للتراث الدينى رافضة تماما الحضارة الحديثة كما فى حالة التكفير والهجرة أو منتقية منها ما تراه مناسبا مع هذا التراث، ومتأثرة به فى نفس الوقت كالإخوان المسلمين،وقد تستند على الحضارة الرأسمالية الحديثة منتقية منها ما يناسب تحقيق أهدافها كالحركات القومية المتأثرة بالحركات القومية الحديثة التى ظهرت فى أوربا فى إطار عملية توحيد السوق القومى كالحركة البعثية، وقد تربط تلك الحركات نفسها بالتراث الدينى و الثقافى المحلى مثل حركة مصر الفتاة أو تتبنى العلمانية كالوفد. وقد ينتقى بعضها الماركسية اللينينية التى هى نتاج عملية طويلة أدت لتحويل الماركسية إلى ما يشبه الديانة ،والتى كانت وليدة ظروف اجتماعية مشابه للظروف الاجتماعية فى بلادنا من حيث التخلف وانقسام المجتمع لقطاعات متقدمة وقطاعات متخلفة . فقد قاد البلاشفة فى روسيا المتخلفة العمال(القطاع المتقدم)إلى السلطة بفضل التأييد الفلاحى (القطاع المتخلف) فى مجتمع لم تنضج فيه الظروف الموضوعية للاشتراكية بعد. ولذلك فقد سقطت الثمرة فى يد البيروقراطية التى تشكلت فى النهاية من كتل الانتلجنسيا لتؤدى مهمة قيادة عملية التقدم والتطوير فى المجتمع السوفيتى بنجاح لاشك فيه حتى الستينيات من هذا القرن ،وهو ما أدى لتبنى قطاعات من الانتلجينسيا فى البلدان المتخلفة ومنها مصر لهذه الأيديولوجيا لما حققته من نجاح ساحق فى ثلث المعمورة، وليس تعبيرا عن انحياز حقيقى للطبقة العاملة كما تفترض الماركسية ، وإن كان هذا لا يعنى عدم تأثرهم القوى بالتراث الماركسى فى إنحيازاته الطبقية بشكل عام.
كان استيراد أو إنتاج أيديولوجيا ما على نحو نقلى يعنى النفى المطلق و النسبى لفئات الانتلجينسيا الأخرى التى وقع اختيارها على أو إنتاجها لأيديولوجيات مختلفة، ومن ثم كان الجمود هو طابع تلك الحركات السياسية النخبوية.
ولأن هذه الحركات انطلقت لتعبر عن ذات جماعية رافضة الذوات الجماعية الأخرى، فأنها وفى إطار خطابها الفكرى والسياسى استندت لرؤى رومانسية لنفسها باعتبارها تجسيد للذات الجماعية التى تمثلها، ولهذه الذات نفسها التى تتحدث باسمها ،وقد بلغ الاندماج فى التمثيل حتى ذاب الممثل والممثل عنه فى كل واحد، فأختفي الواقع الاجتماعى من خشبه المسرح السياسى لتظهر لنا فحسب نخب الممثلين بصراعاتهم حول السلطة،ولأنهم أخفوا الواقع المتغير فقد ظهرت لهم الأشياء بلا تاريخ .
كانت تلك الانتلجينسيا ومازالت هى منتج ومستهلك النظريات ،ومن ثم ظل وعيها بالعالم وعيا نظريا ومثاليا وإن كان فى النهاية تعبير عن ضرورات واقعية حتى ولو كان تعبيرا مشوها أو مقلوبا،وهو انعكاس للواقع الاجتماعى بصور مختلفة بعضها يقترب من الفهم الصحيح وبعضها يبتعد عن الفهم الصحيح، ولأن هذا العقل المثالى يقدس النظرية، ويعتبرها الأسبق فى الوجود عن الواقع، كونها خالقة الواقع، وكونها تشكل قواه المؤثرة ،وكونها تسبق المعرفة بالواقع وفهمه ،فأنه يعتمد الإيمان بالمطلق والتحدث باسمه ،ومن ثم فلم تكن تلك الحركات تقدمية بما يكفى لتغييره جذريا.
ليس الهدف من هذا الكتاب التقييم "القيمى" للحركات السياسية، وتحديد موقعها من الخطأ والصواب،وما عليها من سلبيات وما لها من إيجابيات،وبهدف مدحها وذمها، لتعارض هذا الهدف مع منهج البحث الذى يفسر الظواهر الاجتماعية بما هو كامن فى الواقع الاجتماعى من ضرورات مادية مستقلة عن أى وعى أو إرادة، ومن ثم فلا مجال إلا لتقييم موضوعى من أجل فهم الظاهرة يجد جذورها فى الواقع الاجتماعى وتغيراته.
ربما ما دفع المرء لإنجاز مثل هذا العمل هو أننا أى سكان الأرض نعبر لحظة تاريخية فارقة قد تمتد لعشرات السنين،وهى لحظة لم تتكرر خلال التاريخ البشرى إلا مرتين. فالبشر يبدو أنهم على شفى تحول فى نفس درجة التحولات التى شهدوها بعد اكتشاف الزراعة التقليدية وتدجين الحيوانات،ثم بعد الثورة الصناعية،فما نحن بصدده الآن ثورة ثالثة فى قوى الإنتاج لابد وأن تتبعها ثورة فى علاقات الإنتاج،وما يستتبع ذلك من تغير فى شكل التنظيم السياسى للمجتمع البشرى،والوعى الاجتماعى،و الذى سيكون مختلفا عن ما تحمله نخب الانتلجينسيا الآن من أيديولوجيات، تنتمى للبنية والحضارة الرأسمالية، والتى يبدوا أنها تذبل مفسحة الطريق لبنية و لحضارة أخرى تقوم على أساس نظام اجتماعى اقتصادى مختلف،وهو ما يفسر أزمة كل تلك الحركات السياسية المرتبطة بالبنية الرأسمالية من موقع القبول أو الرفض ،حيث تستدعى تلك التغيرات السالف ذكرها نشوء حركات سياسية جديدة تعبر عن واقع اجتماعى مختلف.لا يمكن لنا تلمس ملامحها إلا على سبيل التخمين،ولذلك فلا محل للسؤال عن البديل أو ما العمل.وخصوصا أنني لست فى موقع يسمح لى بالإجابة ذاتيا أو موضوعيا.
لكن ما يمكن أن أتحدث عنه سيكون على سبيل التوقع والتمنى،و هو يتلخص فى أن التغيرات السالف ذكرها لابد وأن تؤدى إلى صراعات اجتماعية بين الطبقات والفئات الرجعية والطبقات والفئات التقدمية ،وإذا كان على أن أحدد موقفى فسيكون الانحياز للتقدم وقواه ، ومن ثم أرى ضرورة نشوء حركة سياسية أممية تناضل من أجل تحقيق أقصى درجة ممكنة من الحقوق الإنسانية بما يتجاوز ما نصت عليه إعلانات حقوق الإنسان العالمية المرتبطة بالبنية الرأسمالية ،يكون هدفها التحسين المستمر لظروف الحياة الإنسانية لكل البشر على الأرض وبصفتهم بشر لا غير.ولا شك أن نضالا لابد وأن يشتعل من أجل تسخير العلم والتكنولوجيا من أجل تحسين شروط الحياة لكل البشر ،وهو ما يتطلب تحريرهما من سيطرة كل من رأس المال والبيروقراطية اللتان تعوقان هذه الإمكانية.
ويمكن لنا أن نقول أن التوحد الاقتصادى المطرد على مستوى العالم لابد وأن يفرض تنظيما سياسيا للمجتمع البشرى لابد وأن توجد قوى اجتماعية تناضل من أجل أقصى درجات مقرطته وعلمنته .ولما كانت المعرفة والمعلومات ستصبح مصدر السلطة فى العصر القادم فأن صراعا لابد وأن ينشب بين محتكريها ،ومن يسعون لإتاحتها للجميع .
وإذا كان التطور العالمى يفرض حرية انتقال رؤوس الأموال والسلع عبر العالم لما فى ذلك من تلبية لمصالح الرأسمال العالمى فأن نضالا من قبل قوى العمل لابد وأن ينشب ليفرض حرية انتقال العمالة عبر العالم، ومن أجل أن يتساوى عائد العمل مع الإنتاجية عبر العالم.
وفى النهاية فأن معيار الانحياز لدى فى الصراع الطبقى والاجتماعى والسياسى هو إلى أى مدى يمكن أن نحقق المزيد من الحرية والعدالة الاجتماعية والعقلانية والكفاءة الاقتصادية والسعادة لكل البشر.

 



#سامح_سعيد_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسائل و ردود
- الفصل الثامن من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتم ...
- الفصل السابع من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل السادس من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الخامس من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الرابع من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الثالث من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الثانى من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الأول من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى ...
- اللاسلطوية والصحة العقلية
- ملاحظات على التجربة
- لاسلطوية نجيب محفوظ
- نقد اشتراكية الدولة
- لماذا تحولت للاسلطوية؟
- هرم السلطة وذرات المقهورين
- فى أمس الحاجة للحلم اللاسلطوى
- اللاسلطوية والقضية الفلسطينية
- أثر الملكية الخاصة فى المجتمعات
- لماذا الحرية والمساواة معا؟
- إشكالية الهوية فى إسرائيل


المزيد.....




- -لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د ...
- كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
- بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه ...
- هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
- أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال ...
- السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا ...
- -يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على ...
- نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
- مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
- نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامح سعيد عبود - مقدمة وخاتمة كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى