|
المشروعية التاريخية لحق الإضراب
عبد الله لفناتسة
الحوار المتمدن-العدد: 4479 - 2014 / 6 / 11 - 07:22
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
1) مقدمة: في الصراع يشحذ كل طرف أسلحته ويصونها. وقد يتخلى عن بعضها حين يفقد فعاليته، أو يطوره أو يعوضه بأفضل منه. بل يتعدى ذلك إلى الاهتمام بأسلحة الطرف الآخر، بالتجسس والدراسة لإبطال مفعولها أو للحد من فعاليتها. ولا يحيد الصراع الطبقي عن هذه القاعدة، حيث تلجأ أطرافه إلى مختلف الاسلحة المتوفرة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والايديولوجية والعسكرية لهزم الطرف الآخر . في كفاحها ضد البرجوازية كثيرا ما استعملت الطبقة العاملة سلاح الإضراب الذي أخذ أشكالا وأدوارا مختلفة حسب تطور الصراع الطبقي عبر التاريخ. ومع تنامي وعي الطبقة العاملة، وخصوصا بعد صعود الفكر الماركسي وإدراك أسس النظام الرأسمالي ومتطلبات القضاء على الاستغلال والاستبداد، لم يعد الإضراب حاسما في جميع الخطط والبرامج الثورية على الرغم من دوره في تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية هامة، لفائدة الطبقة العاملة والشعوب عامة. وطيلة العقدين الأخيرين، حاولت الباطرونا والسلطة المغربيتين تمرير قانون الإضراب بتزامن مع وضع مدونة الشغل لكن مشروعها الرجعي اصطدم دائما برفض حازم من طرف القوى النقابية والحقوقية واليسارية. فما الذي يجعل الدولة الآن مستعجلة في تمرير "قانون تنظيمي يتعلق بالإضراب"، بعدما تجاهلت طويلا مطالب النقابات العمالية بتوفير الحماية القانونية لهذا الحق الذي ظل يتعرض، على مدى نصف قرن، لهجومات عنيفة من السلطة والباطرونا خلفت آلاف الضحايا بين مطرودين ومعتقلين ومضطهدين في أماكن العمل؟ للجواب على هذا السؤال لا بد من استحضار الشروط العامة الراهنة التي تجري فيها محاولة الإجهاز على حق الإضراب، كمكسب تاريخي للطبقة العاملة وللشعوب عموما في صراعها ضد الاستغلال والقهر والاستعمار : فالتضييق على حق الإضراب يشكل وجهاً للتراجعات العديدة المسجلة في ظل العولة الاقتصادية والآثار السلبية للأزمة الجديدة للرأسمالية؛ حيث أصبحت كل مكاسب الطبقة العاملة مستهدفة، بما فيها الحد الأدنى للأجور وتحديد مدة العمل والضمان الاجتماعي وشروط الصحة والسلامة في أماكن العمل...، تحت عنوان "المرونة"، بما تعنيه من تراجع عن معايير الشغل الدولية وإخضاع العمل وشروط العمل لقانون السوق. فالحكومة المغربية نفسها تعترف بكون المقاولات التي تطبق مقتضيات قانون الشغل لا تتعدى 15 في المائة من مجموع المقاولات المغربية، وبالتالي كان يجب أن تنصب جهودها )الحكومة) أولا على تعميم قانون الشغل واستعمال الوسائل المتوفرة لديها، بما فيها التشريع والجزر، لبلوغ هذا الهدف بدل الاجهاز على حق الإضراب والتضييق على العمل النقابي الذي يضطلع في هذه الظروف بدور مفتشي الشغل. بالموازاة مع الهجوم الرأسمالي على حقوقها ومكتسباتها، خاضت الجماهير الشعبية والطبقة العاملة خصوصا، في السنوات الأخيرة، نضالات بطولية، وارتفع بذلك عدد الإضرابات بمختلف أنواعها خصوصا بعد انطلاق حركة 20 فبراير. وبما أن كل المؤشرات تدل على أن الرأسمالية ماضية في حل أزمتها الجديدة بتعميق الاستغلال والاستبداد، فإن تقنين حق الإضراب في الظرف الراهن يندرج أيضا في إطار الحرب الاستباقية التي يخوضها النظام لإضعاف المقاومة العمالية والشعبية في ظل تعمق أزمته واحتدام الصراع الطبقي ببلادنا. فهو إذن لا يهدف إلى نزع أحد أسلحة الطبقة العاملة في صراعها ضد الرأسمال فحسب، بل يتجاوزه إلى محاولة الحد من لجوء عموم الجماهير الشعبية وقواها المناضلة إلى الإضراب في مواجهة الاستبداد والقهر وفي معركة التغيير بشكل عام. تؤكد الإحصائيات الرسمية المغربية نفسها، من جهة تركيز الثروة وتمركزها في يد أقلية من البرجوازيين والملاكين الكبار (البنوك، العقار، المناجم، البحر، الفلاحة التسويقية، ...)، ومن جهة أخرى تعميق وتوسيع الخصاص الاجتماعي الذي يتجلى في توسع الفقر وتدهور القدرة الشرائية للجماهير وتنامي البطالة وتفشي الأمراض الاجتماعية والبؤس والتهميش خصوصا في البوادي وهوامش المدن. فالتقارير الداخلية والخارجية تكاد تجمع على فشل كل الترقيعات في مجالات التعليم والصحة والشغل والسكن الاجتماعي والخدمات العمومية والبنيات الأساسية ... هذه الأوضاع مرشحة للاستفحال بسبب انعكاس الأزمة الجديدة للرأسمالية على واقع الطبقة العاملة والجماهير عموما، واتساع رقعة التسريحات من مواقع الانتاج والتراجع في تطبيق معايير الشغل وتقليص النفقات العمومية وضرب مكاسب شعبية تاريخية (التقاعد، المقاصة، ...). مما أدى إلى نهوض جماهيري عارم جسدته، على الصعيد الوطني، حركة 20 فبراير التي تبنت ضمن أهدافها العدالة الاجتماعية بمفهومها الواسع، كما تجسده يوميا نضالات العمال والعمال الزراعيين والفلاحين الفقراء والحرفيين والمعطلين ومنزوعي الأراضي وسكان الأحياء الهامشية ضحايا الهدم وغلاء الماء والكهرباء، والطلبة والتلاميذ ... حيث ارتفع عدد الاضرابات وتنوعت أشكالها وخصوصا بعد انطلاق حركة 20 فبراير. وهكذا، فضلا عن إرادة إقصاء فئات جماهيرية عديدة من حق الإضراب وتقليص مجاله وتجريم الإضراب السياسي، فإن المشروع الجديد للقانون التنظيمي الذي صاغته الحكومة يضع شروطا تعجيزية أمام النقابات نفسها، لخوض الإضراب في المستقبل.
2) بعض أوجه التضييق على حق الإضراب: بعيدا عن الملاحظات التقنية التي وردت في مقالات أخرى، ما هي أوجه التضييق على حق الإضراب في الصيغة الجديدة لمشروع القانون التنظيمي (صيغة مارس 2011)؟ - المشروع الحالي يُعَرِّف الإضرابَ بكونه "توقفا جماعيا واتفاقيا مؤقتا عن الشغل من أجل الدفاع عن مطالب مهنية" (المادة 2). نستنتج من ذلك: • أن المشروع لا يعترف بالإضراب الذي يخوضه شخص واحد إما بقرار منه أو تنفيذا لقرار منظمة أو جماعة (إضراب بائع منفرد في متجر أو حرفي ...) • المشروع لا يرى في الإضراب إلا توقفا مؤقتا عن الشغل وبالتالي يقصي باقي انواع الإضرابات )كالإضراب عن البيع او عن الشراء أو عن الدراسة او عن الطعام ...(؛ كما أن المشروع لا يعترف بالإضراب إلا إذا كان مؤقتا وبالتالي يصبح الإضراب المفتوح أو اللامحدود غير محمي بالقانون. - لعل أخطر ما تضمنه هذا المشروع هو منعه لكافة انواع الإضراب غير المهنية، سواء التي يمكن أن تلجأ إليها النقابات للاحتجاج على سياسة الدولة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي بشكل عام، أو الإضراب السياسي المشروع تاريخيا والذي تدعو له قوى المجتمع من أحزاب وتكتلات، ناهيك عن الإضرابات الطلابية والتلاميذية وغيرها. وللتذكير فإن منظمة العمل الدولية، منذ تأسيسها سنة 1919، لم تتجرأ على نزع الشرعية عن الإضراب السياسي (الذي يدعو له حزب سياسي مثلا، وهو إضراب سياسي بطبيعته) باعتباره يتجاوز مجال اختصاصها. بل إن لجنة الحريات النقابية التابعة للمنظمة أكدت مشروعية الإضراب الذي تخوضه النقابات احتجاجا على السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة أو للتضامن مع الطبقة العاملة في بلد آخر، خصوصا في ظل العولمة الرأسمالية وما تتطلبه من تضامن بين عمال فروع الشركات المتعددة الاستيطان في بلدان مختلفة. إن مشروعية الإضراب التي تكرّست عبر التاريخ تنبع من مشروعية أهدافه، وهي إما: -;- مهنية ضيقة مرتبطة بتحقيق أو تحسين شروط العمل، -;- او نقابية واسعة تنبع من المهام التاريخية للنقابات والقانونية الواردة في التشريع المحلي والدولي وفي قوانينها الداخلية ومقرراتها، -;- أو سياسية، تتمثل في مواجهة السياسات المنتهجة وتهدِف إلى إرساء بنيات واختيارات بديلة. وهذا النوع من الإضراب يعتبر حقا، ليس للنقابات وحدها، بل لكافة قوى المجتمع. وهكذا نرى بان مشروع القانون التنظيمي يقزم اهداف الإضراب ويحصرها في مستواها الأول (المهني) ويمنع كافة الإضرابات الأخرى (السياسية اساسا) تحت طائلة العقوبة التي قد تصل إلى سنة سجنا. وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما نص عليه الدستور من تقليص لمهام النقابة إلى مجرد "الدفاع عن الحقوق والمصالح الاجتماعية والاقتصادية للفئات التي تمثلها" (الفصل 8) نستنتج أن أهداف الإضراب لن تتجاوز الدفاع عن تحسين شروط العمل بالنسبة للمأجورين. ولن يسمح لباقي فئات الشعب المغربي باستعمال سلاح الإضراب دفاعا عن حقوقها ومصالحها. ألا يحِقُّ مثلا لحزب أو مجموعة أحزاب أن تعلن الإضراب لرفض الحرب أو للاحتجاج على توقيع اتفاقيات التبادل الحر أو على تفويت المؤسسات العمومية للخواص أو لحماية القدرة الشرائية للجماهير أو من أجل وضع دستور ديمقراطي...... إلى غيرها من الأهداف المشروعة والتي تتجاوز "المطالب المهنية للمأجورين"؟ هل شكك أحد –مثلا- في مشروعية الإضراب الذي دعت له الجبهة الشعبية التونسية وشاركت فيه مختلف فئات الشعب التونسي يوم 8 فبراير 2013 احتجاجا على اغتيال الزعيم اليساري توفيق بلعيد، وهو إضراب سياسي امتياز ؟ - وانطلاقاً من تحديد أهداف الإضراب في الدفاع عن الحقوق المهنية للمأجورين، فإن مشروع القانون التنظيمي يضع قيودا أخرى على هذا الحق، تتعلق بمكان الإضراب والجهة المخول لها إعلان الإضراب، وإلزامية إجراء المفاوضات قبل الإضراب، ووقف عقد الشغل أثناء الإضراب، ومهلة الإخطار... إلى غيرها من القيود التي لا يتسع المقال للتفصيل فيها. - فضلا عن استثناء غير المأجورين من حق الإضراب، فإن المشروع يمنع فئات عديدة من المأجورين أنفسهم من ممارسة هذا الحق، كمتصرفي وزارة الداخلية وموظفي وأعوان إدارة الجمارك حاملي السلاح وموظفي وأعوان المياه والغابات حاملي السلاح ...، بالإضافة إلى القضاة الذين أصبحوا ممنوعين من الحق النقابي بمقتضى الدستور (الفصل 111)، وذلك في تناقض تام مع اجتهادات منظمة العمل الدولية التي لا تسمح بمنع أو الحد من حق الإضراب سوى بالنسبة للموظفين الذين "يمارسون مهام السلطة باسم الدولة"، الأمر الذي لا ينطبق على الفئات المذكورة أعلاه. - تضييق آخر على حق الإضراب،يتمثل في فرض حد أدنى من الخدمات في المحاكم والنقل البري والسككي والملاحة الجوية والأرصاد الجوية ...وهي قطاعات لا تشكل "خدمات اساسية" بمفهوم منظمة العمل الدولية اي التي يمكن "لتوقفها ان يشكل خطرا على حياة وسلامة أو صحة جميع السكان او جزء منهم". فالمشروع يخلط عن قصد بين "خدمة" (service) و"مرفق" أو "قطاع" (secteur) ، فيصبح قطاع النقل بكامله "خدمة اساسية" (المادة 38). والحال أن لجنة الحريات النقابية التابعة لمنظمة العمل وضعت لائحة لمجموعة من القطاعات التي لا يمكن اعتبارها بكاملها "خدمات أساسية" ومن ضمنها قطاع النقل والأرصاد (544، 545). وأوصت اللجنة، الحكومات والنقابات والباطرونا في كل بلد، بدراسة كل مرفق (الملاحة الجوية مثلا، الفقرة 545) لتحديد "الخدمة الأساسية" أو "الخدمات الأساسية" داخله، التي يمكن لتوقفها أن يشكل خطرا على حياة أو سلامة أو صحة السكان (مراقبة الملاحة الجوية، 544). وفي هذ الحالة يجب التوافق مع النقابات على عدد الأشخاص المعنيين بضمان الحد الأدنى للخدمة ومهامهم. كما أن لجنة الخبراء اعتبرت "غير محبد وغير ممكن الادعاء بوضع لائحة كاملة ونهائية للخدمات الأساسية" صالحة لكل بلد (159، 160). لذا فإن لائحة القطاعات الواردة في مشروع القانون، والممنوعة من حق الإضراب أو الملزَمة بتوفير حد أدنى من الخدمات، لا تهدف إلى ضمان استمرار "الخدمات الأساسية" بقدر ما تهدف إلى تقليص مجال الإضراب وإفراغه من مفعوله. - مقتضى غريب يتضمنه المشروع (المادة 39) يُخوّل لرئيس الحكومة بأن يأمر بمنع الإضراب أو وقفه في حالة حدوث "حدوث أزمة وطنية"! وهنا وجب التذكير بأن الإضراب يعتبر وسيلة أساسية للدفاع عن حقوق ومصالح الطبقة العاملة وأحد الأنشطة النقابية التي لا تسمح المعايير الدولية للسلطات الإدارية بأي تدخل فيه "من شأنه أن يقيد هذا الحق أو أن يعوق ممارسته المشروعة". فرئيس الحكومة لا يمثل السلطة الإدارية فحسب، بل يعتبر أيضا مشغلا بالنسبة لموظفي الدولة الذين في حالة دخولهم في إضراب، سيواجهون رئيسهم باعتباره خصما وحكما. - فما بالك لما يكون الإضراب سياسيا يهدف إلى الضغط على الحكومة للتراجع عن سياستها اللاشعبية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي أو للتعبير عن رفض الاختيارات الطبقية للدولة ... أكيد أن رئيس الحكومة سيلجأ إلى مبرر "الأزمة الوطنية الحادة" لمنع مثل هذه الإضرابات، تماما كما تلجأ السلطة الآن بشكل تلقائي إلى ورقة "الأسباب الأمنية" لمنع الحركات الاحتجاجية من تنظيم المسيرات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية، خصوصا وأن الحكومة تحتفظ لنفسها بتحديد مفهوم "الأزمة الوطنية الحادة". إطلالة سريعة على بعض المحطات الكفاحية التاريخية تؤكد أن حق الاضراب، كما مارسته الطبقة العاملة وشعوب العالم منذ قرنين، يتجاوز هذه الحدود التشريعية التي تهدف الآن إلى تكبيله والإجهاز عليه. 3) المشروعية التاريخية لحق الإضراب: كان امتناع العمال عن العمل بمثابة رد فعل على القهر داخل المعامل وعلى سرقة أجورهم عن طريق الغرامات التعسفية وإرغامهم على شراء المنتجات من مخازن الباطرونا بأسعار مرتفعة. وقد لجأ العمال أثناء الإضرابات الأولى التي شهدها القرن 19، إلى تحطيم الآلات وتكسير زجاج المصانع والمكاتب الإدارية...، قبل أن يدرك العمال الطليعيون أن مواجهة الاستغلال والقهر تتطلب التنظيم. وبذلك شكلت مرحلة الإضرابات العفوية مرحلة في تطور وعي الطبقة العاملة في صراعها الطبقي ضد البرجوازية. وحتى بعد انتظام العمال في جمعيات وتنظيمات عمالية أخرى، استمرت الإضرابات كشكل من أشكال المقاومة الجماعية وللضغط على الباطرونا وعلى الحكومات لتحقيق مطالب خاصة بالعمال أو عامة تهم مجموع الجماهير الشعبية. وقد كان تنظيم إضراب في مصنع أو عدة مصانع يتطلب أياما من التعبئة والتحضير، وعقد الاجتماعات السرية لصياغة المطالب وفرز قيادة محنكة للإضراب ولضمان أوسع التفاف عمالي حولها. ومنذ ظهور الإضراب كوسيلة للاحتجاج والضغط يصعب الفصل بين وجهه المطلبي والآخر السياسي الذي يتجلى في الإضراب العام خصوصا. بحيث لم يكن هناك حدا واضحا بين الإضراب والانتفاضة والتمرد. وقد كانت أغلب الإضرابات التي شهدها القرن 19 ذات طابع ثوري. واستمرت البرجوازية الصاعدة تنظر إلى الإضراب، في أغلب دول العالم، كعمل اجرامي قد تصل عقوبته إلى الإعدام. وتعرضت العديد من الإضرابات إلى القمع المسلح واعتقل المئات من العمال وتمت تصفية العديد من القياديين. إلا أن الطبقة العاملة والشعوب عموما لم تنتظر اعترافا قانونيا بحق الإضراب لتستعمله في كفاحها ضد الاستغلال والاستبداد والاستعمار. مباشرة بعد انطلاق الثورة الفرنسية 1789، وفي انقلاب صارخ على البروليتاريا، "تجرأت البرجوازية الفرنسية…على أن تسلب العمال حق الاتحاد الذي اكتسبوه توّاً، وأعلنت في مرسوم صدر في 14 يونيو 1791 (قانون لوشابلييهLoi Le Chapelier )، أن جميع تحالفات العمال تشكل جريمة ضد الحرية وإعلان حقوق الإنسان" ، كما منعت "أي تواطؤ أو اتفاق بين المواطنين يهدف إلى التوقف عن العمل للزيادة في الأجور" (ماركس وأنجلز، رأس المال، الجزء الأول. ص 914). رأت البرجوازية الفرنسية في منع حق الإضراب والحق النقابي عموما على الطبقة العاملة، إجراء ضروريا للاستحواذ على أعلى فائض للقيمة ينتجه العمل، وبالتالي تحقيق أقصى تراكم رأسمالي في مرحلة التصنيع التي انطلقت مع الثورة الصناعية. ولم يتم إلغاء هذا المنع إلا سنة 1864 مع صدور قانون أولوفيي الذي يسمح بحق الإضراب. وكان يجب انتظار 1946 ليصبح حق الإضراب دستوريا. وخلافا لما كان عليه الأمر في سنة 1830 حيث تم استبدال "ملك سيء" (شارل العاشر) "بملك مواطن" (لويس فيليب)، فإن الطبقة العاملة كانت في ثورة 1848 أكثر نضجا وحنكة، وضداً على المنع القانوني ظل الإضراب حاضرا في أهم المحطات الكفاحية للشعب الفرنسي، كان الإضراب الذي نفذه العمال ابتداء من يوم 22 فبراير، حاسما في إعلان الجمهورية بفرنسا. شارك في هذا الإضراب عمال مقالع الحجارة ومستودعات السكة الحديدة وأحواض السفن وحمالو الميناء وسائقو العربات والفحامون وعمال التعدين وعمال البرونز والميكانيكيون الذين برعوا في بناء المتاريس. وهكذا توقف العمال عن العمل والتحقوا بالطلبة وبالمجموعات اليسارية في الشارع، وساهموا بفعالية في بناء المتاريس ومواجهة الجيش الملكي. لكن ورغم أن العمال لعبوا دورا حاسما في إفشال مناورة تعيين ابن الملك خلفا له، باحتلالهم لقصر البلدية وإرغام الحكومة المؤقتة على إعلان الجمهورية، فإن الطابع الجنيني لتنظيماتهم وغياب الأداة السياسية المستقلة للطبقة العاملة، مكن البرجوازية من الالتفاف على الأهداف العمالية لثورة 1848. فبعدما كان وزير المالية في الحكومة المؤقتة يتوسل بأن "تتخلى فرنسا عن العلم الأحمر حتى لا تنهار البورصة"، انتهى العمال مطاردين ومحكومين بالإعدام وبالأشغال الشاقة وبالنفي، فضلا عن ترحيل الآلاف منهم إلى الجزائر كمستعمِرين. باستثناء تخفيض مدة العمل إلى 10 ساعات في باريس و11 ساعة في الضاحية، وهو القرار الذي ألغي يوم 9 شتنبر 1898 بالضغط من الباطرونا، فقد أخفقت الطبقة العاملة في تحقيق أهدافها وتوقفت الإضرابات العمالية التي انطلقت في فبراير. لكن الكفاح العمالي استمر، مسترشدا بدروس ما سمي "بربيع الشعوب الأوروبية" لسنة 1848 وبتعاليم "عصبة الشيوعيين" التي عقدت مؤتمرها الثاني وكلفت ماركس وانجلز بانهاء صياغة "البيان الشيوعي" قبل انطلاق ثورة فبراير. أشير أيضا إلى أن عمال البرونزالفرنسيين المذكورين أعلاه سيصبحون بعد 15 عاما روادا للأممية الأولى. وقد كان شعار "يوم عمل من 8 ساعات" الذي رفعه شيوعيو الأممية الأولى يوحِّد الطبقة العاملة على ضفتي المحيط الأطلسي. ومن بين أهم الإضرابات العمالية التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال القرن 19، يكتسي إضرابي 1857 و1886 أهمية تاريخية: في 8 مارس 1857 أضربت عاملات النسيج بمدينة نيويورك وخرجن للشارع للمطالبة بتخفيض مدة العمل إلى عشر ساعات في اليوم وإنشاء حضانات لأطفالهن ومساواتهن في الأجر مع الرجال. العنف الذي ووجهت به هذه المعركة العمالية النسائية أدى إلى سقوط عدة شهيدات من بين المتظاهرات برصاص الشرطة. ثلاثة عقود بعد ذلك أي سنة 1886، أضرب 340.000 عامل وعاملة وتوقفت عن الانتاج 12000 وحدة صناعية بكامل التراب الأمريكي. وسقط عدة شهداء برصاص الجيش والعصابات البرجوازية بمدينة شيكاغو، وصدرت أحكام بالإعدام على المعتقلين، تم تخفيضها إلى المؤبد بضغط أممي. بفضل هذه الإضرابات و التضحيات التي رافقتها تحقق "يوم عمل من 8 ساعات" في نفس سنة 1886 بالنسبة للعمال في القطاع الصناعي والصناعة التقليدية ولموظفي الإدارة الفدرالية الامريكية. كل حملات القمع البرجوازي الدموي وآلاف الضحايا من مشردين ومعتقلين وشهداء في صفوف العاملات والعمال على امتداد القرن 19، لم تمنع الطبقة العاملة وحركات التحرر من الاستمرار في اللجوء إلى سلاح الإضراب خلال القرن العشرين في صراعها ضد الاستغلال الرأسمالي والاستبداد والاستعمار والعنصرية، كما يتجلى ذلك في التجارب الأوروبية ودروسها الغنية بروسيا وفرنسا... والتي امتدت إلى المستعمرات ومن ضمنها المغرب : تنامت الاضرابات في روسيا في نهاية القرن 19 وكان أشهرها إضراب معمل موروزوف سنة 1885 والذي كان يشغل 5000 عامل وعاملة وتبعته إضرابات في معامل أخرى. إلا أن المكاسب التي حققها العمال بعد هذه الإضرابات (كمنع استيلاء أرباب المصانع على الغرامات من العمال...) كانت متواضعة إذا ما قورنت بالتضحيات المقدمة (اعتقال 600 عامل من مصنع موروزوف ومحاكمة العشرات منهم ...). لكن المهم أن هذه الإضرابات ساهمت في رفع وعي وحنكة العمال وبروز قادة وسطهم واقتناعهم بضرورة النضال المنظم مما ساهم أيضا في بروز طلائع المنظمات الماركسية التي ستلعب دورا أساسيا في ثورتي 1905 ثم 1917.
ابتدأت الثورة الروسية لسنة 1905 بإضراب عمال المطابع بموسكو يوم 19 شتنبر الذي امتد إلى بطرسبرغ ومدن أخرى. وفي أوائل أكتوبر التحق بالإضراب عمال السكك الحديدية وتوقفت القطارات في موسكو ثم في كل روسيا، وتوقف البريد والتلغراف وعدة مصانع. وقد تلقى العمال المضربون مساندة من فئات أخرى كالطلبة والمحامين والمهندسين والأطباء والمثقفين... فأصبح الإضراب عاما وسياسيا (شارك فيه اكثر من مليون عامل وموظف). وجدير بالذكر أن هذا الإضراب لمْ تدعُ له نقابة عمالية بل البلاشفة الروس وانتهى بمواجهة مباشرة بين الحزب البلشفي مدعوما بالطبقة العاملة الروسية وبين الاتوقراطية القيصرية. وقد أُجبِر القيصر على اصدار بيان يوم 17 نونبر يَعِدُ فيه بتوسيع الحريات وتأسيس دوما تشريعية بدل الدوما الاستشارية التي كان يرفضها الحزب البلشفي. لكن القيصر كان يناور لربح الوقت وإعادة تنظيم الأجهزة القمعية. القمع الذي صاحب هذه الاضرابات لم يمنع العمال من إبداع سلاح جديد يتمثل في مجالس النواب العمال (السوفيات) كمنظمات سياسية، حيث انتخب أولها في أكتوبر 1905 بمدينة بطرسبرغ، ثم تبعه مجلس موسكو… ثم مجالس سوفياتية لنواب الجنود والبحارة والفلاحين. ورغم أنها كانت في بدايتها، حققت هذه المجالس مكاسب على مستوى حرية الصحافة وتحديد يوم عمل في 8 ساعات ورفض أداء الضرائب القيصرية... ولما كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي وخصوصا جناحه البلشفي يستعد للثورة المسلحة، فإن الحكومة القيصرية كانت بدورها تستعد لإفشال الثورة وتشتيت المجالس السوفياتية لنواب العمال . فتمَّ سحق الإضراب السياسي العام الذي أُعلن عنه من طرف سوفيات موسكو في دجنبر 1905. نقطة الضعف الرئيسية التي أدت إلى فشل إضرابات دجنبر، تمثلت في رفض مجلس بطرسبرغ (الذي كانت قيادته منشفيكية) الدخول في الإضرابات واستمرت القطارات تشتغل وتنقل جنود القيصر لسحق الثورة في موسكو. فاستمرت المواجهات غير المتكافئة في موسكو لمدة 9 ايام، واعتُقلت قيادة الثورة المسلحة وأُحرِقت الأحياء الصامدة. وكانت قد اشتعلت معارك في مناطق أخرى (أكرانيا، ليتوانيا، فلندا ...)، لكنها سُحقت بدورها من طرف القيصرية. وفي تقييم ثورة 1905، قدَّرَ المناشفة أن حمل السلاح كان خطأ، في حين كتب لينين "كان ينبغي ان نوضح للجماهير أن ليس من الممكن الاقتصار على الإضراب السلمي". وفي نقدهم لنظرية المنشفيك حول "حياد النقابات" اعتبر البلاشفة أن مهام الطبقة العاملة لا يمكن إنجازها إلا إذا ظلت النقابات العمالية منظمات طبقية مناضلة. عشية ثورة فبراير 1917 البرجوازية في روسيا، تحول إضراب 9 يناير إلى مظاهرات في شوارع بتروغراد وموسكو... ومواجهات بين العمال والشرطة الخيالة. وفي يوم 23 فبراير (الموافق ليوم 8 مارس عالميا) نزلت آلاف العاملات للشوارع تلبية لنداء اللجنة البلشفية في بتروغراد للتظاهر ضد المجاعة والحرب والقيصرية. وسرعان ما تحول الإضراب السياسي إلى مظاهرة سياسية عامة ضد النظام القيصري. ولم يمنع سقوط العديد من العاملات والعمال من اتساع رقعة الإضرابات والمظاهرات خصوصا بعد انضمام الجيش (المكون في غالبيته من الفلاحين المعدمين) إلى جانب الطبقة العاملة والشعب الروسي في مواجهة شرطة ودرك القيصر. مما عجل بسقوط القيصرية. أما ثورة أكتوبر 1917 فلم تعتمد على إضراب عمالي، بل على المشاركة الفعلية للعمال إلى جانب الفلاحين والجنود في الكفاح المسلح.
التجربة الفرنسية في مجال الإضراب غنية بالدروس سواء من حيث ممارسة هذا الحق طيلة قرنين من طرف الطبقة العاملة ومختلف فئات الشعب الفرنسي، أو ما يتضمنه أو يتجاهله التشريع الفرنسي حول الإضراب (لا تتوفر فرنسا لحد الآن على قانون الإضراب). وقد وقفنا فيما سبق على دور الإضرابات العمالية في التحولات التاريخية التي شهدتها فرنسا في القرن 19 وخصوصاً إضرابات فبراير 1948 التي انتهت بإعلان الجمهورية الفرنسية.
- لذا فإن الكنفدرالية العامة للشغل بفرنسا منذ تأسيسها سنة 1895، شكلت ضمن هياكلها "لجنة الإضراب العام" التي أصبحت فيما بعد "لجنة الإضرابات والإضراب العام" مكلفة "بدراسة حركات الإضراب عبر العالم" و"التعبئة لإقناع العمال بضرورة الإضراب العام" من أجل فرض يوم عمل من 8 ساعات كهدف مستعجل. وقد حددت الكنفدرالية تاريخ فاتح ماي 1906 كأجل لتحقيق هذا الهدف عن طريق الإضراب العام. لكن الإنزال البوليسي بباريس (50 ألف شرطي) واعتقال قياديين نقابيين أدى إلى فشل هذا الإضراب ولم يتحقق يوم عمل من 08 ساعات إلا سنة 1919.
- في سنة 1925 كانت حرب الريف على أشدها، خصوصاً بعد تعيين مقيم عام فرنسي جديد بالمغرب وهو فيليب بيتان محل المارشال ليوطي الذي قدرت الحكومة الفرنسية بأنه فشل في مواجهة عبد الكريم الخطابي. فتمت تعبئة 250 ألف جندي فرنسي وإسباني بسلاح متطور بما فيه السلاح الجوي، مدعوماً بحملة إعلامية تصف المقاومة الريفية "بالمتوحشة" و"تهدد الحضارة الفرنسية". فتوحدت مجموعة من القوى الشيوعية والعمالية في إطار "لجنة مناهضة حرب الريف" وعقدت مؤتمراً عمالياً يومي 4و5 يوليوز بباريس، صدر عنه قرار الإضراب العام. وقد وُجه النداء "للعمال والموظفين والمستخدمين والفلاحين ليشكلوا جبهة موحدة ضد الأمبريالية الفرنسية" وللمشاركة في الإضراب "ضد الحرب الفرنسية في الريف المغربي وفي سوريا ولرفض السياسة الإجرامية للحكومة الخاضعة للدوائر الأمبريالية" ورغم أن الكنفدرالية العامة للشغل التي كانت لم تحسم موقفها بعد من الاحتلال الفرنسي للمغرب، لم تساند الإضراب، فقد عرف نجاحاً كبيراً وشارك فيه حوالي مليون عامل. كما اعتقل المئات من العمال المضربين والمتظاهرين الذين واجهوا قوات البوليس في الشوارع وأصدرت المحاكم ما مجموعه 320 سنة سجناً على المعتقلين. وسقط العامل أندريه ساباتيه شهيداً برصاصة مهندس يميني بمعمل "راديو إلكتريك". - سنة 1936، فازت الجبهة الشعبية بالانتخابات التشريعية ببرنامج يهدف لمواجهة انعكاسات الأزمة العالمية 1929 االتي كانت آثارها لا تزال واضحة على أوضاع الشعب، وعلى الطبقة العاملة على الخصوص. ويتضمن هذا البرنامج تخفيض مدة العمل دون تخفيض الأجور وخلق صندوق وطني للبطالة ونظام تقاعد وإطلاق مشاريع كبرى ذات فائدة عمومية... أيام قليلة بعد انتصار اليسار في الانتخابات وقبل حتى تشكيل الحكومة انطلقت موجة من الإضرابات واحتلال المعامل بكل أنحاء فرنسا،. هذه الإضرابات عبَّرت عن رد فعل عميق على الاستغلال الرأسمالي الفاحش للعمل وعلى القمع التي ووجهت به النضالات العمالية من طرف الباطرونا والحكومات اليمينية المتعاقبة منذ بداية القرن. وبدل أن تستقوي الحكومة الشعبية بهذه النضالات العمالية لتفرض تغييرات هيكلية تتماشى مع هويتها اليسارية، قامت حكومة ليونْ بْلومْ بدور المطافئ لإنهاء الإضراب وإخلاء المعامل "لأصحابها". أمام النجاح الكبير للإضرابات لم تردد الباطرونا في الموافقة على اتفاق ماتينون يوم 8 يونيه 1936 والذي اشتمل على: زيادة 7 إلى 10% في الأجور والاعتراف بالحق النقابي بالإضافة إلى القوانين الصادرة فيما بعد والمتعلقة بتحديد مدة العمل في 40 ساعة في الأسبوع، وخلق إجازة سنوية مدتها 15 يوما. وقد كانت الطبقة العاملة على استعداد لفرض تنازلات أكثر لولا انحراف التحالف الحكومي إلى جانب البورجوازية بدعوى أن وقت الثورة الاجتماعية لم يحن بعد، وأغلب هذه المكاسب تم التراجع عنها بمبرر إعطاء الأسبقية لتوفير شروط الدفاع الوطني التي تتطلبها الحرب الثانية.
- انطلقت إضرابات ماي 1968 من الوسط الطلابي الساخط على تردي الوضع بالجامعات التي تعرف اكتضاضا ونقصا في الموارد. كما أن الحركة الطلابية كانت تتفاعل مع آخر التطورات العالمية: الحرب الأمبريالية ضد الشعب الڤ-;-يتنامي، اغتيال شي غيڤ-;-ارا، العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني... وسرعان ما عمت الإضرابات بالمؤسسات الصناعية تعبيرا من العمال على تضامنهم مع الطلبة الذين تعرضوا للقمع البوليسي في جامعات تانتيرْ والسورْبُون. وتحولت الإضرابات إلى احتلال للكليات والمعامل ومظاهرات في الشوارع ومواجهات مع البوليس. وقد بلغ عدد المضربين حوالي 10 مليون في أغلب مؤسسات الإنتاج والخدمات، كما تميزت الحركة باندماج العمال والطلبة والمعطلين والصحافة ورجال القضاء والمثقفين التقدميين... النقابات التي فاجأتها الأحداث ترددت قبل الالتحاق بالإضرابات ومحاولة الركوب عليها ثم فرملتها. وهكذا انطلقت مفاوضات من 27 إلى 30 ماي ضمت ممثلي النقابات والباطرونا والحكومة انتهت بتوقيع اتفاق غرونيل بزيادة 10% في معدل الأجور و35% في الحد الأدنى للأجور والاعتراف بالفروع النقابية داخل المقاولات والرجوع التدريجي إلى أسبوع عمل من 40 ساعة... أصيبت الطبقة العاملة وخصوصا الشباب العامل بخيبة من هذه النتائج، وبدل أن تتوقف الإضرابات بعد الاتفاق خرجت مظاهرات ساخطة واستمر احتلال المعامل والكليات. لكن غياب القيادة الثورية الموحدة وخيانة البروقراطية النقابية وتواطئها مع البورجوازية الفرنسية في تحويل الصراع من مواقع الإنتاج إلى صناديق الانتخابات (يونيه 1968)، أجهض هذه الحركة العمالية والشعبية الواسعة التي لا يمكن اختزال أهدافها في تحقيق مطالب مهنية ما، بل إنها (الحركة) عبَّرت عن رفض لعلاقات الانتاج والمؤسسات القائمة.
- آخر درس بليغ قدمته لنا التجربة الفرنسية، يتمثل في إسقاط ما سمي بعقد التشغيل الأول سنة 2006، حيث توحَّدَ الملايين من عمال القطاع الخاص وموظفي القطاع العام والطلبة والتلاميذ في مواجهة الرأسمال الذي لا يشبع جشعه إلا بتكثيف الاستغلال وتعميق الهشاشة عن طريق: عقود المناولة والعقد المحددة المدة وعقد التشغيل الجديد… ثم عقد التشغيل الأول. فانطلقت في الأسبوع الأول من فبراير 2006 إضرابات متفرقة ومظاهرات، سرعان ما تعاظمت وتحولت إلى مظاهرات شعبية بلغت أوجها في اليوم الاحتجاجي الذي دعت له المركزيات النقابية بتاريخ 28 مارس، حيث شارك أكثر من 3 مليون متظاهر في المظاهرات التي شلت البلاد. وتحت ضغط الشارع، قاطعت النقابات الحوار الذي دعا له الوزير الأول وطالبت بسحب مشروع القانون كشرط لذلك الحوار. وفي خطوة، اعتبرت تحديا لحركة الإضرابات وهروبا إلى الأمام، صادق البرلمان الفرنسي على مشروع قانون عقد التشغيل الأول، تم زكاه الرئيس شيراك والمجلس الدستوري قبل نشره في الجريدة الرسمية يوم 08 أبريل. لكن المظاهرات العمالية والشبابية التي خرجت يوم 04 أبريل 2006 في كل مدن فرنسا وتجاوز عدد المشاركين فيها 3 مليون، وتبعتها عمليات احتلال لمحطات القطار والطرق والقناطر يوم 6 أبريل، أرغمت الباطرونا والدولة الفرنسيتين على التراجع وسحب المشروع نهائيا، بتصويت في البرلمان يوم 12 أبريل 2006.
- خلافا لما ينص عليه مشروع قانون الإضراب الذي تحاول تمريره الحكومة المغربية من تعريف للإضراب بكونه “توقف عن العمل” وحصر أهدافه في تحسين شروط العمل، فإن الثرات النضالي للطبقة العاملة وللجماهير الشعبية يؤكد أن الإضرابات التي عرفها المغرب منذ الفترة الاستعمارية يتجاوز هذا المفهوم الضيق للإضراب. الوقوف على التجربة الفرنسية يسمح بفتح نافذة على ممارسة الإضراب بالمغرب منذ الفترة الاستعمارية. ذلك أن سنة 1936 التي تميزت بالإضرابات الفرنسية الشهيرة المذكورة أعلاه، سجلت أولى الإضرابات العمالية الهامة بالمغرب (يونيه 1936) والتي شملت "المعامل والمصانع والمناجم والنقل، وتخللتها حركة احتلال المؤسسات. وكشف العامل المغربي ليس فقط عن وعيه الطبقي لطبيعة الصراع بل عن إمكانيات قيادية هائلة" .ومعلوم أن هذه الإضرابات سبقت الاعتراف القانوني بالحق النقابي الذي صدر بصدده ظهير 24 دجنبر 1936، والذي اقتصر على العمال الأوروبيين وأقصى المغاربة. فالأزمة الرأسمالية العالمية التي استمرت آثارها طيلة سنوات الثلاثينات من القرن 20، انعكست على أوضاع الطبقة العاملة بفعل غلاء القمح والشعير وإغلاق المصانع والمناجم وتراجع البناء وما نتج عن ذلك من تفشي البطالة وانخفاض القدرة الشرائية. وبعد انتصار الجبهة الشعبية في الانتخابات الفرنسية، وتشكيل حكومة لِيونْ بْلومْ التي ضمت عدد من الاشتراكيين والشيوعيين، كانت البيروليتاريا الأوروبية العاملة بالمغرب تنتظر تحسين أوضاعها الاجتماعية والاعتراف بالحق النقابي، أما البيروليتاريا المغربية فقد انتظرت فضلا عن ذلك، تحقيق المساواة في الحقوق بين العامل الأوروبي والمغربي. وما أن بلغ خبر توقيع اتفاق ماتينون في فرنسا (8 يونيو 1936)، حتى "بدأت الحركة يوم 11 يونيه بإضراب عمال شركة السكر المغربية بالدار البيضاء (كوزومار) التي تشغل 760 عاملا منهم 700 مغربي ضمنهم 80 عاملة"، وفي نفس اليوم "أضرب عمال شركة الدهن (كْييرونْ) بالدار البيضاء، وفي اليوم التالي امتد الإضراب إلى مناجم الفوسفاط في خريبكة، وتلاه إضراب عمال الفوسفاط في لُوِّي جانْتيلْ (اليوسفية) يوم 13، وكذلك عمال البناء وشركات الدهن ومعامل الصيانة التابعة لشركات النقل، وشركة الحديد والصلب، وبلغ عدد الورشات التي شملها الإضراب بالدار البيضاء 70 ورشة، كما انضم إليهم عمال النظافة وجميعهم من المغاربة"، وامتدت هذه الإضرابات إلى "مدن أخرى مثل فاس وشملت عمال الحافلات وسائقي الطاكسيات، وكذلك مدينة الرباط حيث أضرب عمال السكك الحديدية والحافلات وسيارات الأجرة"، وقد أبان العمال عن حنكة نضالية عالية، حيث بدأ عمال مناجم خريبكة إضرابهم ليلا "باحتلال محطة الكهرباء، وهي النقطة الإستراتيجية التي تتحكم في مجموع مرافق المركز المنجمي، تم احتلوا مستودع السيارات"…"وبعد تدخل المقيم العام شخصيا لوقف إضراب عمال شركة السكر اعترفت الإدارة للعمال بحق الاضراب وحقهم في عطلة سنوية مدتها 15 يوما مدفوعة الأجر... والاعتراف بممثلي العمال" بالإضافة إلى مكاسب أخرى لا تقل أهمية مثل "دفع أجرة أيام الإضراب". لكن السلطات الاستعمارية حرمت عمال النظافة بالدار البيضاء (وكلهم مغاربة) من هذه الحقوق واعتقلت 17 منهم وطردت 2140 عاملا. ومن ضمن القوانين الإيجابية التي انتزعها المضربون والتي استمرت سارية المفعول إلى سنة 2004، هناك ثلاثة ظهائر مؤرخة في 18 يونيه 1936، تتعلق بتحديد مدة العمل في 8 ساعات في اليوم، والحد الأدنى للأجور والتعويض عن التسريح فضلا عن ظهير 24 دجنبر 1936 الذي اعترف لأول مرة بالحق النقابي بالمغرب. - وبعد سنة أضرب التجار بمكناس وبمجموعة من المدن المغربية احتجاجا على القمع الذي ووجهت به المظاهرات الشعبية التي خرجت للإحتجاج على قرار السلطات الاستعمارية "بتحويل مجرى نهر بوفكران لصالح المستوطنين الزراعيين الأوروبيين على حساب الفلاحين المغاربة وحاجيات سكان المدينة من الشرب فانطلقت مظاهرات الاحتجاج في فاتح شتنبر وتواصلت في اليوم الثاني سقط خلالها عدد كبير من القتلى والجرحى برصاص قوات الاحتلال وألقي القبض على عدد كبير قدموا إلى محكمة الباشا الذي أصدر في حقهم أحكاما قاسية...". وهذا دليل على أن الإضراب استعمل في المغرب منذ البداية للدفاع عن حقوق ومصالح واسعة تتجاوز تتجاوز "المطالب المهنية" الضيقة.
- على إثر جريمة الاغتيال التي نفذتها قوات الاستعمار الفرنسي يوم 05 دجنبر 1952 وراح ضحيتها الشهيد فرحات حشاد الكاتب العام للاتحاد العام التونسي للشغل، أُعلن بالمغرب عن تنظيم حداد على شكل إضراب يوم 8 دجنبر بدعوة من الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب (فرع الكنفدرالية العامة للشغل الفرنسية)، بعد ما استطاع عدد من المغاربة الوصول إلى مواقع المسؤولية النقابية ضداً على القوانين الاستعمارية. وبينما كان العمال يعبئون لنجاح هذه المعركة ويعينون لجان الإضراب في الميناء والمقاولات الكبرى بالدار البيضاء، أصدر المقيم العام أوامره لباشا المدينة لإبعاد السكان عن هذا الإضراب. هذا الأخير بعث رجاله عشية الإضراب لتهديد السكان بأوخم العواقب إن هم أغلقوا الدكاكين أو عرقلوا عمل قوات البوليس يوم الإضراب. ومن ضمن الأحياء التي شملها هذا التهديد "كاريان سانطرال" القريب من الأحياء الصناعية "الصخور السوداء" "وعين السبع" ومن محطة القطار، وبالتالي يقطن به عدد كبير من عمال الصناعة والسككيين الحاملين لوعي عمالي وحِسٍّ وطني عاليين، وسرعان ما انطلقت مظاهرة عمالية شعبية متحدية للسلطات الاستعمارية. إلا أن قوات البوليس واجهت المظاهرة بالرصاص وبالمداهمات لبيوت العمال استغرقت طيلة الليل، تم تجددت المظاهرات وإطلاق الرصاص يوم 08 دجنبر، حيث سقط عشرات الشهداء واعتقل المئات من النقابيين. لقد كان إضراب 08 دجنبر 1952، احتجاجا على السياسة الاستعمارية في المغرب وفي عموم المستعمرات، وتعبيرا عن تطلع الطبقة العاملة المغربية للتحرر الوطني والاجتماعي، ومرحلة جديدة في مسلسل كفاحي طويل انتهى بإعلان الاستقلال السياسي للمغرب في 02 مارس 1956.
4) الخلاصة يتضح من خلال الأمثلة السالفة أن الإضرابات التاريخية، سواء التي خاضتها الطبقة العاملة وشعوب العالم أو التي عرفها المغرب خلال الفترة الاستعمارية، تتجاوز الحدود المرسومة في المشروع الحالي لقانون الإضراب. كما أن هذا المشروع لا يتسع لباقي الإضرابات الشهيرة التي طبعت تاريخ المغرب بعد "الاستقلال"، وأذكر من بينها: إضراب 23 مارس 1965 ضد السياسة التعليم التصفوية وضد الاستبداد السياسي، وإضراب 20 يونيه 1981 احتجاجا على الزيادة في الأسعار…وإضرابات أصحاب الشاحنات سنة 2005، ثم الإضرابات الأخيرة بمحطات البنزين والمخابز، وهي إضرابات غير مشروعة من منظور مشروع القانون لكونها إما لا تعني الأجراء، أو لها أهداف "غير مهنية"، أو لا تؤدي إلى "التوقف عن العمل" بل همَّت الدراسة والتجارة…، أو أنها تصادف "أزمة وطنية حادة". لو طُبّق مشروع القانون التنظيمي الحالي بأثر رجعي فإن أبطال إضرابات الفترة الاستعمارية (1936 و1937 و1952...) سيجدون أنفسهم أمام محاكم المغرب "المستقل" التي قد تصدر ضدهم أحكاما سجنية نافذة (المواد 16، 41، 46). إن مسؤولية مقاومة هذا المشروع الرجعي لا تقع على النقابات وحدها. بل إن الأحزاب التقدمية مسئولة في المقام الأول عن حماية هذا المكسب التاريخي الذي استعملته حركات التحرر الوطني والاجتماعي، ضمن أسلحة أخرى، طيلة قرنين في صراعها من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. كما أن الحركة الحقوقية والشبابية والنسائية وكل الحركات الاحتجاجية معنية بهذه المعركة، مثلما كانت بالأمس معنية وفعالة في مقاومة مشروع رجعي آخر من خلال "لجان مناهضة مشروع مدونة الشغل". وفي كل الأحوال فإن الطبقة العاملة والشعوب عموما لم تنتظر اعترافا قانونيا بحق الإضراب لتستعمله، ضمن باقي أسلحتها، في كفاحها ضد الاستغلال والاستبداد. عبد الله لفناتسة
#عبد_الله_لفناتسة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معركة 6 فبراير 2014: انتصار آخر للتوجه النقابي الكفاحي بالمغ
...
-
اشتداد العنف الطبقي بمواقع العمل بالمغرب
-
المطالب المستعجلة للطبقة العاملة المغربية
-
قمع الحريات النقابية ميزة ثابتة للنظام القائم بالمغرب
-
إضراب 8 مارس بتونس: غير مشروع بالمغرب؟
-
التحديات الراهنة للعمل النقابي بالمغرب
-
الحقوق الشغلية في دستور2011 بالمغرب: سراب وتراجعات
-
واقع الحريات النقابية بجنوب البحر الأبيض المتوسط المغرب نموذ
...
-
الحد الأدنى للأجور بالمغرب
-
الحكومة المغربية والباطرونا خارج القانون الحد الأدنى للأجور
-
الحقوق الشغلية في مهب العولمة اللبرالية
المزيد.....
-
الحكومة الجزائرية تعلن عن تعديل ساعات العمل في الجزائر 2024
...
-
المالية العراقية تعلن عن موعد صرف رواتب المتقاعدين في العراق
...
-
“الجمل” يتابع تطوير شعبة الفندقة بالجامعة العمالية لتعزيز ال
...
-
وزارة المالية.. استعلام رواتب المتقاعدين وحقيقة الزيادة في ا
...
-
وزارة المالية العراقية تحدد موعد صرف رواتب الموظفين لشهر ديس
...
-
حصيلة بقتلى العاملين في المجال الإنساني خلال 2024
-
4th World Working Youth Congress
-
وزارة المالية العراقية تُعلن.. تأخير صرف رواتب الموظفين شهر
...
-
بيسكوف: روسيا بحاجة للعمالة الأجنبية وترحب بالمهاجرين
-
النسخة الألكترونية من العدد 1824 من جريدة الشعب ليوم الخميس
...
المزيد.....
-
الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح
...
/ ماري سيغارا
-
التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت (
...
/ روسانا توفارو
-
تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات
/ جيلاني الهمامي
-
دليل العمل النقابي
/ مارية شرف
-
الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا
...
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها
/ جهاد عقل
-
نظرية الطبقة في عصرنا
/ دلير زنكنة
-
ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|