|
تاريخ من الخديعة
جمال الهنداوي
الحوار المتمدن-العدد: 4477 - 2014 / 6 / 9 - 11:42
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لعقود طوال ما كان الناس يعلمون عما يدور على بعد كيلومترات قليلة من مدنهم وقراهم , ولا تتعدى معرفياتهم الا بما تجود به عليهم صحف الصباح او ما يتقاطر من اخبار -مخلوطة بضجيج التشويش- تسترقها الاسماع من الاذاعات البعيدة..ولسنوات اطول كان الناس يستمعون للانباء الاقرب الى البيانات الرسمية الذي كانت تقدمها وسائل الاعلام المركزية المحتكرة للفضاء الاعلامي باستمرار ورتابة وثبات يثير الحفيظة قبل الاسى..ولكنها كانت تحمل بعض الاحترام والرهبة لما يأتي من ذلك الجهاز العجيب الذي ينقل لنا الاحداث والقصص. وقد يكون هذا الواقع هو السبب في الارباك الذي يمثله ذلك الانفتاح الاعلامي والصادم الذي واجهه المواطن العراقي من خلال ارتطامه المفاجيء بعشرات الوسائل الاعلامية التي حولته الى وعاء تسكب فيه يوميا عشرات التصريحات والإعلانات أقلها سمين وأكثرها غث لا أهمية له، والاهم هو في تبدد صورة الاعلام المهني والملتزم وسط ذلك التراشق بالتكذيب والتكذيب المضاد الذي يمتلئ به المشهد الاعلامي حد الصدمة ومواجهة واقع جديد من اولية ومركزية التضليل في وسائل الاعلام الحديثة في المنطقة..وليكتشف ان "الهدف الأساسي لبرامج التلفزيون الإذاعة والسينما في المجتمعات التجارية الإستهلاكية ليس إثارة الإهتمام بالحقائق الإجتماعية، والإقتصادية بل تحجيم هذا الإهتمام وتخفيف حدته"كما يقول الباحث الامريكي هربرت أ. شيللرفي كتابه ( المتلاعبون بالعقول) . ولكن الاكثر مدعاة للدهشة هو اكتشاف ان للتضليل الاعلامي تاريخا طويلا من التأثير على اراء الناس واحكامهم قد يكون ابعد بكثير مما يظنه الكثير الذين يربطون بينه وبين ثورة الاتصالات في اواخر القرن المنصرم, ففي كتابه المهم "صناعة الخبر واساليب التضليل الاعلامي يشير الباحث د. معن الطائي الى أن أقدم عملية من عمليات التضليل الإعلامي استطاع تحديدها بعد الدراسة و البحث هي قيام كهنة معبد الشمس في جنوب العراق بكتابة تاريخ إنشاء المعبد على انه في عهد الملك الأكدي "مانيشا توشو" و الذي كان قد توفى حتى قبل البدء بالبناء و ذلك لتبرير النفقات الباهظة التي تم صرفها و إقناع الناس بذلك. وكذلك نرى السيد منذر الحكيم يرصد في دراسته التاريخية في أساليب التضليل الثقافي في (القرن الإسلامي الأول) ان انطلاقة ممارسات التضليل الثقافي "تزامنت مع بزوغ الفجر الأول للإسلام، واتخذ أساليب متعددة، كان أسلوب الإتهامات الباطلة في طليعتها، كوصف النبي بأنه (شاعر وكاهن ومجنون) مضافاً إلي انتهاج أسلوب التشويش الذي تمثّل بصّد النبي عن قراءة القرآن، بالتصفير تارةً وتخليط من القول أخرى، وأسلوب تشكيك المسلمين بدينهم وزعزعة عقيدتهم من خلال التظاهر بالدخول في الإسلام، ثم الخروج منه". وبعد وفاة النبي الأكرم (ص) اتخذ المضللون أساليب متعددة، يأتي في مقدمتها "استهداف السنة النبوية..وذلك بالتشكيك فيها وإحراقها والمنع من تدوينها وروايتها، واستهداف القرآن الكريم من خلال تعويم نصوصه، وجعلها مرمى للآراء المتناقضة، وفسح المجال لليهود بالخوض فيه وتفسيره بأهوائهم" وعند ولادة الدولة الأموية بلغت ظاهرة التضليل ذروتها، وبرز إلي السطح الاجتماعي عدد من الأساليب التضليلية، كوضع الحديث واختلاقه، وبث بعض الأفكار والنظريات التي تهدف إلي خلط الأوراق وتشويه الحقائق" مما خلف تركة أثقلت كاهل الأمة الإسلامية، دفع المسلمون ثمنها، وكان من بينها، ظهور البدع واستحكامها، فضلا ظهور التيارات العقائدية المنحرفة. وكذلك نلاحظ استمرار المسيرة المظفرة للتضليل حتى وصلت الى ذروتها في عصرنا الراهن وخاصة في اعلامنا المحلي الذي اسرف في ممارسات الفبركة والتشطير والتجزئة للتصريحات و"تقطيع الكلام بما يشوه معاني ومقاصد هذه التصريحات عبر التضليل والخداع والكذب" في"محاولات ابتزازية سياسية رافقت التحضير للانتخابات كان الغرض منها التسقيط السياسي والتحريض الشعبي بطريقة خادعة وتضليلية", وهو ما هز مصداقية هذه الفضائيات ويفضح اتجاهاتها ولو بعد حين. ولكننا رغم ذلك الافق المدلهم من صناعة الخديعة والتضليل الا اننا نستشف الامل من خلال تاريخ طويل من مواجهة الكذابين والوضاعة ومختلقي الوقائع والاقوال الذي نهض به علماء الامة من جرح وتعديل وعرض على كتاب الله والتي افرزت العديد من التحقيقات التي احالت الشواهد الى المكان الاقرب الى الحقيقة مما كان يراد له ان يكون, ونرى انعكاس تلك المقاومة الفكرية للتدوين والاعلام المضلل من خلال انكفاء العديد من الناس عن تصديق ما يرونه وما يسمعونه في وسائل الإعلام الموجهة. كما أن تزايد الملاحظات والنقود الساخرة لما يرد فيها قد تعزز الفرصة في انتاج معارضة –بل مقاومة- واضحة الرؤية ذات طابع تعبوي وتحشيدي برؤى واضحة. ما زالت الكلمة العليا لوسائل الاعلام والجهات الممولة في فرض وجهات نظر مقولبة سلفا على الفضاء الاعلامي بسبب الموارد العملاقة والميزانيات الضخمة, ولكنهم لن يتمكنوا من منع السؤال من اذهان الناس وتزايد فهمهم بصورة اعمق للمحركات الاساسية للمنظومة الاعلامية مما يشكل الفرصة في تشكل ميكانزمات الوعي الذي سيفرز فهم اعلى واكثر واقعية للتغيير الحقيقي الذي اصبح ضرورة ملحة للغاية في الراهن المعاش من تاريخنا.
#جمال_الهنداوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اغلبية سياسية..أم توافق ؟
-
في ذكراه (الميمونة)
-
مبادرة الرئيس
-
السياسة السعودية في مواجهة الباب المغلق
-
الشعوب تكتب ايامها
-
الارهاب والسيادة الوطنية..ابو انس نموذجاً
-
الاعتذار لا يستحقه الا الاقوياء
-
تقارب معلن ومخاوف مخفية
-
توثيق مهمل..ذاكرة زائفة
-
حوادث لا نحب ان نتذكرها
-
الشعب ضد قوى الاسلام السياسي
-
حرب الميادين..فتنة في الافق
-
انقلاب..ام تصحيح
-
واقع جديد ..اي واقع؟؟
-
مصر في عين العاصفة
-
بين اردوغان وتقسيم
-
الى اين نحن ذاهبون ؟
-
ما زال هناك وقت للحوار
-
جريدة التآخي..عقود من الحب
-
فتنة مفتحة العيون
المزيد.....
-
اليهود يغادرون.. حاخام بارز يدعو أوروبا إلى التصدي لتزايد مع
...
-
اقــــرأ: ثلاثية الفساد.. الإرهاب.. الطائفية
-
المسلمون متحدون أكثر مما نظن
-
فخري كريم يكتب: الديمقراطية لا تقبل التقسيم على قاعدة الطائف
...
-
ثبتها بأعلى إشارة .. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 على ال
...
-
“ثلاث عصافير”.. استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025
...
-
مؤرخ يهودي: مؤسسو إسرائيل ضد الدين والإنجيليون يدعمونها أكثر
...
-
الشيخ علي الخطيب: لبنان لا يبنى على العداوات الطائفية +فيدي
...
-
اضبط الان تردد قناة طيور الجنة toyor al janah على الأقمار ال
...
-
” بإشارة قوية ” تردد قناة طيور الجنة بيبي 2025 Toyor Aljanah
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|