أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - علي عبد المطلب الهوني - ديناميكية الحوار بين السطح والأعماق(الجزء الثاني)2















المزيد.....


ديناميكية الحوار بين السطح والأعماق(الجزء الثاني)2


علي عبد المطلب الهوني

الحوار المتمدن-العدد: 1267 - 2005 / 7 / 26 - 11:13
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


ديناميكية الحوار بين السطح والأعماق(الجزء الثاني)2
دراسة ذات بعدين في شعر نزار قباني
بين الذهنية الدينية الخاملة والنقد التحليلي الواعي


فإذا أكدنا ما سبق بما جاء على لسان ابن جني من أنه يجيز الاحتجاج بقول المخالف، وأنه أيضاً أجاز للمرء أن يتحدث باللغة الأضعف وإن كان قادراً على التحدث باللغة الأقوى,( ) وإن خالف ذلك الرأي أحد أعمدة الرواة, وهو عمرو ابن العلاء, بقوله: إنه لا يحتج إلا بلغة قريش.
"روى أبو بكر الزبيدي الاندلسي في طبقات النحويين قال: قال ابن نوفل: سمعت أبي يقول لأبي عمرو ابن العلاء (توفى سنة 154هـ): أخبرني عما وضعت مما سمّيت عربية، أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال: لا، فقلت: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة؟ قال: أحمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات".( )
وقولٌ كهذا لأكبر راوية للغة والشعر العربي، يدل دلالة واضحة على أن الجريمة المبيتة من قبل الخلفاء والرواة آنذاك، للقضاء على اللهجات وعلى كل شعر صيغ بها، وذلك للخوف من العصبية القبلية، وهو أمر فيما أرى بعيد الاحتمال، لأن خلفاء بني أمية كانوا يشجعون على النعرات والعصبيات القبلية، ولكن الذي أرجحه هو خوفاً من أن تصير تلك اللغات أو اللهجات العربية توأماً للغة قريش التي هي لغة المصحف المعتمد من قبل الخليفة، فيفضي ذلك إلى اختلاف القراءات، ولكن بموت هذه اللهجات مات الشعر الذي صيغ بها، وضاعت علينا مرة أخرى أشعاراً ولغات أقل ما نقول عنها "إنها فاجعة الدهر"، فلو كان يقين هؤلاء راسخاً بالقرآن لعرفوا من قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.( )
إن الله قد تكفّل بحفظ القرآن من الضياع، ولكن الذي نرجحه والذي يرجحه الكثير غيرنا أنهم كانوا موقنين بصدق هذه الآية، ولكن زيادة في الاحتياط فعلوا ذلك، فهو كما يقال: "أمر دبر بليل".
ولكي تحصل الفائدة المرجوّة من هذا البحث، لابد لنا من العودة إلى الشعر النزاري، والنقد السطحي في عقول فرّخ فيها الجهل، وسيطرت على أذهانها الخرافة، يقول نزار:
حين يصير الدمع في مدينة
أكبر من مساحة الأجفانْ
يسقط كل شيء
الشمس، والنجوم، والجبال، والوديانْ
والليل، والنهار، والبحار، والشطآنْ
والله .. والإنسانْ( )
يبدو أن الله في الكون الشعري لنزار قباني مثل أي شيء من المخلوقات، ولذا فبالإمكان شتمه وهجاؤه، وفوق كل ذلك قد يتهم بأنه الجالب للتخلف، كما رأينا في الأبيات السابقة، علاوة على تشكيك نزار في وجود الله وقدرته على التدخل لحسم معركة، أو إنهاء حكم دكتاتوري، أو حتى كسب صراع كالصراع العربي الإسرائيلي لصالح العرب، يقول نزار ساخراً:
ولم نزل كالأمس أغبياءْ
نردد الخرافة البلهاءْ
"الصبر مفتاح الفرجْ"
ولم نزل نظن أن الله في السماء
يعيدنا لدورنا .. ( )
وليس غريباً أن يكون "الصبر مفتاح الفرج" عنده خرافة، فالقرآن أيضاً عنده خرافة، ومن ثم فالدين الإسلامي كله عنده خرافة، يقول نزار:
حين كنا ...
في الكتاتيب صغارا
حقنونا ..
بسخيف القول ..ليلاً ونهارا
درسونا:
(ركبة المرأة عورة ..)
(ضحكة المرأة عورة ..)
(صوتها ..
من خلف ثقب الباب عورة )
صوروا الجنس لنا ..
غولاً بأنياب كبيرة ..
يخنق الأطفال ..
يقتات العذارى ..
خوّفونا ..
من عذاب الله إن نحن عشقنا
هددّونا ..
بالسكاكين ..إذا نحن حلمنا ..
فنشأنا ..
كنباتات الصحارى
نعلق الملح ونقتات الغبارا
يوم كان العلم في أيامنا
فلقةً تمسك رجلينا ..
وشيخاً .. وحصيرا ..
شوّهونا
شوّهوا الإحساس فينا
والشعور ..
فَصَلُوا أجسادنا عنا ..
عصوراً .. وعصورا ..
صوروا الحب لنا باباً خطيرا
لو فتحناه .. سقطنا ميتين
فنشأنا ساذجين
نحسب المرأة شاة أو بعيرا
ونرى العالم ...
جنساً وسريرا ..( )
حرصت أن آتي بالقصيدة كاملةً ليطّلع المتلقي على مدى جرأة الشاعر على محارم الله، وعلى مدى وقوفه ضد أصالتنا المتمثلة في القرآن والسنة، وكلاهما ذكرا في القصيدة وعرّض بهما.
فما الذي حقنّا به في الكتاتيب غير القرآن، الذي عدّه من سخيف القول. ثم قوله إن رجال الدين جعلونا نعيش مرحلة انفصام بين الجسد والعقل عصورا وعصورا، بسبب تقديمهم للعلم على أنه مثلث رعب مكوّن من (فلقةً وشيخاً وحصيرا) الأمر الذي جعلنا نشأنا ساذجين متخلفين سبقتنا الأمم بمراحل، فهل كان الدين سبب تخلفنا!
قراءة ساذجة كهذه للنصوص السابقة، وخاصة قصيدة "خرافة"، تجعل الكثير من المتدروشين والمتزمتين يُكفّرون الشاعر ولا يقبلون له توبة. وسأحاول أن أقف عند هذه النصوص خاصةً قصيدة "خرافة" لأجلو عنها تلك العتمة والضبابية التي لحقت بها:
أ) استخدم الشاعر في هذه القصيدة البيئة استخداماً ذكياً ليؤكد أن المستهدف هو الوطن العربي، لأن المنطقة الإسلامية، التي لا تقع في دائرة اهتماماته. يتضح ذلك من:
1- استخدامه لكلمة كتاتيب.
2- نباتات الصحارى.
3- نلعق الملح ونستاف الغبار.
4- فلقةً وشيخاً وحصيرا.
5- شاةً وبعيرا.
ب) بَيّن الشاعر النظام التعليمي الذي كان سائداً.
ج) أما الموسيقى الداخلية للقصيدة، فحاول الشاعر جهده أن يجعلها مؤثرة، فجاءت كنحيب طفل، وإن كنت أجزم أن لا دخل له في اختيار البحر، والوزن، والقصيدة، التي يكون فيها الشاعر في حالة غياب عن ذاته في ذاته، وإن كانت الأفكار العامة للقصيدة ربما أرّقته أياماً وليال طويلة.
د) تعد هذه القصيدة محاولة بناء لا هدم بطريقة إظهار عيوبنا، والتي نحاول دائما أن نخفيها عن الآخرين، ولا نسمح لأحد منّا أو من غيرنا أن يظهرها، أو ينشرها على الملأ.
هـ) المقطع الأول في القصيدة والذي يبدو فيه الشاعر عنيفاً بعض الشيء، ويفهم منه بعض العوام، وممن لا معرفة لهم بنقد النص الشعري، أن هذا كفر صريح من الشاعر، والحقيقة غير ذلك فهو في قوله:
حين كنا ...
في الكتاتيب صغارا
حقنونا ..
بسخيف القول ..ليلاً ونهارا
درسونا:
(ركبة المرأة عورة ..)
(ضحكة المرأة عورة ..)
(صوتها ..
من خلف ثقب الباب عورة )
1- الشاعر لم يشر إلى القرآن الكريم أصلاً، وإن أشار إلى أولئك العوام الذين لا حَظَّ لهم من الدين، إلا حفظهم للقرآن وبطريقة مغلوطة، والذين يقدمون فتاويهم الظلامية لأولئك الأطفال الصغار الذين عليهم أن يتقبلوها لأن عقولهم الصغيرة صفحة بيضاء، ولأنهم يَرون في هذا الشيخ أعلم أهل القرية، أو الحي، فإذا كانت الفلقة ستكون من نصيب أي واحد لم يحفظ ما كُلّف به، مع عدم مراعاة الفروق الفردية لهم، فما بالك بمن يجرؤ على معارضة الشيخ.
2- قدّم الشاعر نماذج لتلك الفتاوى: "ركبة المرأة عورة.."، "ضحكة المرأة عورة.."، "صوتها.. من خلف ثقب الباب عورة.."، وكأني به يقول على لسان أولئك الجهلة من المشائخ: "المرأة عورة تسير على الأرض"، لأنهم كانوا ينظرون إليها من الناحية الجنسية فقط، فهي تُعْلَف وتُرْكَب وتُنْجِب، وهذا أقصى أماني المحظوظات عندهم، فهي لا تستطيع الخروج لمشاركة الرجل العمل، كما كانت أيام الإسلام الأوَل، وبدا حُرِمَ نصف المجتمع من المشاركة، فتأخر عن باقي مجتمعات الدنيا.
وحتى يُبْرِز نظرة أولئك الشيوخ في المرأة، التي لا ينظر إليها إلا سلعة تباع وتشترى، وقيمتها على قدر ما تتمتع به من جمال، فالنظرة كما تلاحظ جنسية لا أكثر ولا أقل، يقول نزار في ذلك:
صوروا الجنس لنا ..
غولاً بأنياب كبيرة ..
يخنق الأطفال ..
يقتات العذارى ..
ولعل هذا أكثر ما يتضح في ذلك القصص الخرافية التي تحكيها الجدة عادة لأحفادها ليلاً كقصة شهرزاد، أضف إلى ذلك الرعب، والخوف من الفضيحة المصاحب لخروج المرأة من بيتها، فهي تُحْجَب ولا يسمح لها بالخروج إلا مرتين في عمرها، مرة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، وأخرى من بيت زوجها إلى قبرها، أفبعد هذا كله نلوم نزار على جرأته، ولا نلوم أولئك المشائخ أصحاب العقائد الفاسدة، والعقول الخاملة، لإرجاعهم عجلة مجتمعاتنا إلى الخلف، وعودة إلى ذي بدء، أي إلى نصوص ما قبل قصيدة "خرافة"، يقول نزار:
حين يصير الدمع في مدينة
أكبر من مساحة الأجفانْ
يسقط كل شيء
الشمس، والنجوم، والجبال، والوديانْ
والليل، والنهار، والبحار، والشطآنْ
والله .. والإنسانْ( )
يرمز نزار قباني إلى حجم الكارثة التي هي أكبر من حجم المُصاب بها، وهو الشعب العربي، هذه الكارثة التي مرّغت أنفه في التراب، وجعلت كل قِيَمِهِ ومبادئه تسقط في الوحل، فالله يقصد به هنا حكام الوطن العربي، الذين هم آلهة أيضاً، وأما الإنسان فهو المواطن الذي لا حول له ولا قوة، والذي لا يشارك في اتخاذ قرار، ولا يعرف من أمور وطنه شيئاً.
أما الشمس والنجوم والجبال والوديان والليل والنهار والبحار والشطآن فيقصد بها العقائد والعادات والتقاليد الفاسدة التي صارت ثوابت، فهو يريدها أن تسقط كلها، وينتهي أمرها، وكذلك الحال في قوله:
ولم نزل كالأمس أغبياءْ
نردد الخرافة البلهاءْ
"الصبر مفتاح الفرجْ"
ولم نزل نظن أن الله في السماء
يعيدنا لدورنا ..
التوكل على الله أمر محمود، والتواكل عليه أمر مذموم، فمن يدعو إلى التواكل وإلهاء نفسه وغيره بالصبر وعدم إعداد العدة للعدو، وينتظر أن يأتيه النصر من عند الله، دون تضحية وعمل، يكون ككبش في قطيع عندما يأتي موس الجزار، قد يكون هو أول المذبوحين بصبره وتواكله.
وبإمكاننا القول إن التفسيرات السطحية، والتي يصدرها من لا معرفة له بأبسط قواعد النص الشعري، فيطلق شروحه وتفسيراته، والتي تأخذ في أغلبها شكل فتاوى دينية توريطية، الأمر الذي يعيق حركة الإبداع، ويؤخرها، فمتى يصمت هؤلاء المشائخ الجهلة ويتركوا الإبداع يسير بالطريقة التي يشاء، يقول نزار:
"كويدا..
كويدا..
ويندفع الثور نحو الرداء
قوياً عنيدا ..
ويسقط في ساحة الملعب
كأي شهيد ..
كأي نبي ..
ولا يتخلى عن الكبرياء( )
أيحق لنزار وصف الثور بعد أن صار جيفة، أو حتى قبل أن يصير، بأنه نبي أو شهيد!
كما أن إطلاق نزار لمصطلح شهيد، وهو مصطلح إسلامي على كل من قتل في سبيل حرية الكلمة، يُبْعِد هذا المصطلح عن أداء وظيفته الحقيقة التي جاء من أجلها، ولا أظن أن من حق نزار أيضاً استخدام هذا المصطلح الإسلامي لغير المسلمين، وذلك عندما يقول:
كل من قاتلوا بحرف شجاع
ثم ماتوا فإنهم شهداء( )
أي بغض النظر عن دينهم، أو عقيدتهم، أو بلدانهم، أو أجناسهم، وفي هذا إبعاد للمصطلح عن الغاية التي ينبغي أن يُستخدم فيها.
ومن مغالطاته أيضاً قوله:
يصلب الأنبياء من أجل رأي
فلماذا لا يصلب الشعراء( )
إنّ إدعاء نزار الكاذب، وإقراره بصلب الأنبياء، يحمل في مضمونه مغالطات ينفثها بين المسلمين عن طريق نشرها مقروءة بصوته، أو مكتوبة في مجموعاته الشعرية ، ليؤكد من أن هناك مجموعة من الأنبياء صلبوا، فيكون صلب المسيح تحصيل حاصل، وهذا مخالف للنص القرآني، الذي يقول:
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.( )
ويبدوا أن الإنسان الكاذب إذا كذب كذبة وصدقها، صارت لديه حقيقةً، وما نزار إلا واحد من أولئك الذين كذبوا على الله وصدقوا كذبهم، يقول :
من ينقد المسيح ممن قتلوا المسيح ؟
من ينقد الإنسان ؟ ( )
بعد هذه القراءة غير الدقيقة لما سبق من نصوص بغية تقريب وجهة النظر السطحية، من ذهن المتلقي، نرى أن محاولة محاكمة نزار على استخدامه لمصطلح إسلامي في غير موضعه، محاكمة غير شرعية، وتستند في محاكمتها إلى تراكمات عفنة في الذاكرة الجماعية، لمشائخ الرعب، فنزار لم يكن بصدد تحديد مفهوم لهذا المصطلح، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه ليس بدعاً بين الشعراء والمفكرين، فهناك من يقول: شهيد الوطن، وشهيد الواجب، وشهيد الحب، الذي عبّّّر عنه جميل ابن معمر، بقوله:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريـد
فكل حديث بينهن خصاصة وكل قتيـل بينهن شهيد( )
ومع هذا لم نسمع من اعترض على جميل من الفقهاء، أو النقاد لا قديماً ولا حديثاً، لاستخدامه لهذا المصطلح في غير موضعه. فلماذا يحاول الكثيرون من أصحاب مذهب معين تكفير نزار وغير نزار، وهم في كل ما ذهبوا إليه، وما يذهبون إليه، لا يستندون على رؤية صحيحة للمفهوم الديني أو المفهوم النقدي.
أما قول نزار :
من ينقد المسيح ممن قتلوا المسيح
فليس بالضرورة أن يكون مصدقاً لصلبه، بل لأنه يريد أن يلزم اليهود الحجة، وإن كان هنا قد وظف معنى ونصاً قديماً لغرض حديث، فلا هو يقصد عيسى عليه السلام، ولا يقصد اليهود الذين قتلوا المسيح بقوله: (ممن قتلوا المسيح)، بل أراد أن يوظف هذه المعاني لاستهجان الفعل الذي يُرْتَكب كل بوم ضد أصحاب الحق من الفلسطينيين.
وعودة مرة أخرى إلى الطريقة السطحية في فهم النص الأدبي، والتي في يعضها مبنيةً على خبث أصحابها لاستصدار فتوى ظلامية ضد المبدعين لتقييد حرية الإبداع، نرى أن نزاراً لُقّب بـ"شاعر المرأة" و"شاعر الجنس" من دواوينه الأوَل، ومن أكثر من شيء عُرف به، ويرى هؤلاء أنه لم يقف في بث سمومه عند الشعر، بل أسهم حتى بكتاباته النقدية لنشر أفكاره المضللة لشباب الأمة، ففي مقدمة ديوانه (امرأة لا مبالية) يقول:
"هو كتاب كل امرأة حَكَمَ عليها الشرق العمل الجاهل المعقد بالإعدام، ونفذ حكمه فيها قبل أن تفتح فمها".( )
فالشرق الذي حكم على المرأة ونفذ الحكم فيها دون أن يعطيها فرصة للدفاع عن نفسها، لا شك أنه شرق غبي وجاهل ومعقد، من وجهة نظره طبعاً، فهل هذه النعوت تليق بالشرق المسلم، وهل يستحق هذا الشرق من شاعر من شعرائه ذلك، وكأني به ينادي بالإباحية والتحلل من كل ما يقيد هذه الإباحية، من عقد وخرافة، فالعادات والتقاليد الحسنة، وكذلك الدين هي عقد وخرافة، ثم انظر إليه وهو يشتم الرجل العربي لأنه يريد أن يصون زوجته في بيتها، ولا يريدها أن تخرج إلا محجبة، لأنه يغار عليها، يقول نزار:
"ما دام جسد المرأة مسيجاً بالرعب والعيب والخرافة، وما دام فكر الرجل العربي يمضغ كالجمل غلافات المجلات العارية ويعتبر جسد المرأة منطقة من مناطق النفوذ والغزو والفتوحات المقدسة، فلن يكتب لنا النصر، لأننا عاجزون من الانتصار على أنفسنا".( )
وكأن النصر لا يأتي إلا بالتفسخ والانحلال، وكأنّ أسباب النصر كلها معلقة بالتخلي عن الدين والالتزام الخلقي والفضيلة، فالغرب ودولة إسرائيل خاصةً ما انتصرت علينا في كل المجالات علمية، عسكرية، أدبية، وحرية إبداعية، وغيرها، إلا بالتفسخ والانحلال.
أما الجنس فيراه نزار أكبر همومنا على الإطلاق، وكذا خرافة الدين هي من أهم الهموم، فأينما كان دين كان هناك تخلف، ناسياً أو متناسياً أننا بلا دين كالجسد بلا روح، ولا نزيد عن تحولنا من بشرٍ إلى أنعامٍ، بل أقل من الأنعام لأنها ليست مكلّّفة، وقد عبّر الله عن ذلك خير تعبير بقوله جل من قائل: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً.( )
فإذا عدنا إلى نزار نجده من الذين يصرون على ما قالوا، من ارتكاب الخطيئة، فهو ضال لنفسه مضل لغيره، يقول:
"الجنس هو واحد من همومنا الكبيرة، بل هو أكبر همومنا على الإطلاق، ولن يكون هناك تغير حقيقي إذا بقى الورم الجنسي ينهش حياتنا وجماجمنا، نحن بحاجة إلى كسر خرافة الجنس والنظر إليها نظرة حضارية وعلمية... نريد أن نرد جسد الأنثى إليها، فهو حتى الآن ملك التاريخ والأعراف والمؤسسات الدينية والدنيوية، تتصرف فيه على كيفها وتضع له قوانين سلوكه قبل أن يولد".( )

القول السابق لا يحتاج إلى تعليق أو تمحيص لكي يبيّن غرض الشاعر، من أنه يريد من المرأة أن تختار من يضاجعها، ومن يعشقها، ومن يحبها، وإن كان ذلك الحب والعشق لا يفضي إلى زواج شرعي، وحتى تصير الصورة الواضحة مجلوة وأكثر وضوحاً، نستشهد بقوله:
لماذا لا يكون الحب في الدنيا
لكل الناس..
كل الناس..
مثل أشعة الفجر..
لماذا لا يكون الحب مثل الخبز والخمر؟
ومثل الماء والنهر..( )
فهو يقصد طبعاً بالحب الجنس، ويريده مشاعاً بين الناس كأشعة الشمس والماء والخبز والخمر، لمن يشربها، وهذا الديوان (يوميات امرأة لا مبالية) ينظر من أوله إلى آخره للمرأة على أنها جسد وشهوة، ويريدها مشاعاً للجميع، ويحرضها على مجتمعها وأعرافها ودينها وأسرتها، ويطالبها بأن تطلق لجسدها الحرية والعنان دون قيد أو شرط. لذا فهو في هذا الديوان يقسو على الرجل الشرقي العربي الذي يرى فيه سبب البلوى، ويَحْمِل على الدين الذي يرى فيه أصل هذه البلوى، وإن كان ركّز أكثر في ديوانه هذا على الأب خاصةً، متهماً إياه بالتخلف والشدة والقسوة والأنانية، يقول نزار في كل ذلك:
ملايين من السنوات.. والسياف مسرور
مقيم في مدينتنا
أراه في ثياب أبي
أراه في ثياب أمي
أراه .. ها هنا.. وهنا
فكل رجال بلدتنا..
هم السياف مسرور....( )
فهل بعد هذه البلوى، بلوة نزار، بلوى؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله، فالشجرة لا يقطعها إلا عرف منها، وهذا نزار المحسوب على المسلمين يحاول أن يفتّت وحدة المجتمع المسلم، حتى يسهل أخذه من قبل أعداء الأمة.
نحن لا نشك أبدا أن التحليلات السطحية السابقة والمؤسسة على مفهوم ديني خاطيء، والتي تحاول جاهدةً التأسيس للتخلف والتبعية الفكرية لعصور أقل ما يقال عنها أنها بعيدة عن عصرنا الحاضر بزمن بعيد، وكأن أصحابها قد تأخروا في الولادة، إذ كان عليهم أن يولدوا في تلك العصور، فهم حاضرون بيننا جسداً ومكاناً، غائبون عنا روحاً وفكراً وزماناً.
فنزار في كل ما قاله سابقاً لا ينظر إلى مخزوننا الثقافي المليء بالشوائب والأفكار الخاطئة، والتي في كثير منها محسوبة على الدين، حتى تعطي القدسية لتلك الجماعات المشوهة فكرياً، ليصعب بذلك نقضها أو استئصالها من المجتمعات الإسلامية التي عششت فيها الخرافة زمناً طويلاً وطويلاً جداً، خاصةً إبان الاحتلال العثماني للبلاد الإسلامية عامةً، والعربية خاصةً، والذي حكم باسم الدين، فكانت كل دولة تخرج عليه تعد مارقة، لابد من إرجاعها إلى دولة الخلافة، إن نزار يحاول دائماً في أقواله أن يجرد الدين والأعراف وكل ما يمس الإنسان العربي مما علق به من شوائب وما لحق به من أوحال، لذا لابد له أن يصطدم بأمثال أصحاب التفاسير الخاطئة للنصوص الأدبية، وبالإمكان وضع ردود على الأقوال السابقة في نقاط:
1– إن من عادة نزار أن لا يتحدث عن العالم الإسلامي، إذ هو مسكون بالهم العربي، فعندما تحدث عن (الشرق) فإنه قصد به العرب، ولا أحد غير العرب، وأولئك الذين نصبوا من أنفسهم نواباً لله في الأرض يحاكمون خلقه على أقوالهم وأفعالهم، لا يمثلون إلا أنفسهم ومن تبعهم من الظلاميين.
2– إن تسلط الرجل (الأب، الأخ، الزوج) كما جاء في قصيدة نزار عن المرأة، لا ينكره إلا مغالٍ في التعصب لمجتمعه، ظناً منه أنه إذا حقق ذلك فإنما يخدم الدين والدولة، ولقد سارت أغلب الحكومات العربية على هذا النسق، تخفي مصائبها وأمراضها عن أقرب الأقرباء، لأنها من أسرار الدولة، في حين أن الإمراض والجريمة تنخرها وتهدد مجتمعاتها بوباء مدمر، ومع ذلك لا تعترف به، حتى لو وضعوا الشمس عن يمينها والقمر عن شمالها، ولو أنها أعلنت إحصائيات جرائمها وأمراضها لوقف العالم إلى جانبها وأخذ بيدها للخروج من هذا المأزق، ولكن كما يقال: يجني الجاهل على نفسه أكثر مما يجنيه عليه عدوه.
3– أ) إن هذا التستر من جهة الدولة على الجرائم والأمراض والتخلف مبرمج له من قبل القاصرين معرفياً وسلوكياً، ممن يحكمون هذه الدول، ظناً منهم أنهم بذلك إنما يطيلون من أعمار حكم طواغيتهم، ولا يدرون أن الأمراض لا تفرق بين المواطن درجة صفر والمواطن درجة مائة، وإن كانت المسافة بين حكامنا ومواطنيهم هي أكثر من مائة، ولكنني وضعت هذا الرقم لإشعار المتلقي بالهوة بين الرقمين.
ب) أما من الناحية الدينية، فإن الخطأ جد جسيم، فوفود مذاهب إسلامية متطرفة إلى دول إسلامية وغير إسلامية لا تعرف الغلو في الدين طيلة حياتها ومجاهرة أولئك الوافدين بهذه المذاهب عن طريق المجاهرة بآرائهم وأفعالهم ووصفهم لمن لا يتبع مذهبهم بأنه كافر مارق، عليه أن يجدّد إسلامه، يجعل هؤلاء شوكة في ظهر مجتمعاتهم، فضلاً عن أنهم ينتمون بولائهم إلى فقهاء وأئمة غاية في التعصب والغلو في الدين، وإصدار الفتاوى بالقتل والتدمير، فيصير أتباع هؤلاء المشائخ جيوش منظمة داخل بلدانهم، فبفتوة رخيصة يتحولون إلى وحوش كواسر، تقتل بلا سبب وبلا رحمة وبدم بارد، من أجل أن تكون كلمة مشائخهم في الأرض هي العليا فهم نواب الله على الأرض، وإن كان هؤلاء الأتباع والمريدون يتوزعون في دول كثيرة، إلا أن جل فقهائهم ينتمون إلى دولة واحدة ويقيمون بها.
وعودة إلى السطح أو إلى الدراسة المسطحة في قول نزار قباني:
ثقافتنا فقاقيع من الصابون والوحل..
فما زالت بداخلنا
رواسب من (أبي جهل)
وما زلنا
نعيش بمنطق المفتاح والقفل..
نلف نسائنا بالقطن.. ندفنهنّ بالرمل..
ونملكهن كالسجاد..
كالأبقار في الحقل
ونهزأ من قوارير
بلا دين ولا عقل..
ونرجع آخر الليل..
نمارس حقنا الزوجي كالثيران والخيل...
نمارسه خلال دقائق خمس
بلا شوق.. ولا ذوق..
ولا ميل..( )
---------------------
ولنا لقاء في الجزء الثالث




#علي_عبد_المطلب_الهوني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (ديناميكية الحوار بين السطح والأعماق (الجزء الأول


المزيد.....




- أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل ...
- في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري ...
- ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
- كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو ...
- هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
- خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته ...
- عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي ...
- الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
- حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن ...
- أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - علي عبد المطلب الهوني - ديناميكية الحوار بين السطح والأعماق(الجزء الثاني)2