أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - مهند البراك - هناك . . عند الحدود (16) الاخيرة















المزيد.....



هناك . . عند الحدود (16) الاخيرة


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 4473 - 2014 / 6 / 5 - 12:41
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


استمرت المفرزة بمسيرتها صعوداً، و صارت تمرّ بمناطق يزداد فيها الثلج، وفي حوالي الرابعة صباحاً، حيث وصلوا الى المنطقة الحرجة التي ينتصب فيها الثلج جامداً في شواخص قائمة و كأنها هياكل لمخلوقات ضخمة، وسط الصخب العالي للمياه المتدفقة الجارية في اسفل قطع ثلجي عميق لايسهل الإقتراب من حافة هاويته السحيقة لإحتمال انهيارها . . . مشكّلة بذلك جواً يبعث على الرهبة في ذلك الفجر الذي بدى يلوح في تلك القمم . .
و بينما بدأوا بالصعود التدريجي على الجسر الثلجي الطبيعي، بخطى فرضت سعتها مدرجات دكّتها اقدام مجاميع المارة بحيواناتهم، و كانت تحميهم من الإنزلاق على الثلج سواءً على الطريق ذاته او تحمي من الإنزلاق على جوانبه منه ، الذي كان لايعني الاّ الإنزلاق الى تلك الهاوية السحيقة . .
في ذلك المكان الأكثر حراجة امتنع الجندي علي عن مواصلة المسير صعوداً و هو يسمع هدير الماء الصاخب المخيف . . وصاح :
ـ لاتقتلوني . . شفاعة للنبي !! انا لم اؤذي احداً . . كنت في الربيئة بواجب عسكري لااستطيع الهروب من الجيش والاّ كانوا سيعدموني . . انا و الله لم اقتل احداً . . لماذا تقتلوني ؟؟
فصاح عليه الجريح ابو داود و بسرعة اسكتته، رغم الآلام الشديدة لعينه المصابة . . باعتباره المسؤول السياسي الذي شارك في قيادة اقتحام الربيئة، وهو مدرك جيداً ان اي توقف على ذلك الجسر او اية حركة غير طبيعية عليه قد تؤدي الى انهياره، و صاح على العريف عودة :
ـ عريف عودة اهتم عزيزي بـ " أبو حسين " لأنه اقلّ خبرة منك . .
و فعلاً ادّت كلمات ابو داود الحازمة و عباراته المختارة بعناية و دقة نابعتين من قلب عامر و حنان و رأفة ابويتين، و بلهجته الكربلائية في تلك الظروف و في ذلك الموقع الخطير، لعب كل ذلك دوراً هاماً في اسراع العريف الأسير عودة الى اسناد الجندي الأسير علي الذي جثى على ركبتيه و هو يقبّل يد العريف عودة باعتباره من سلالة آل البيت . . الذي بدوره همس بأذنه كلمات مشجعة عن الصبر و عن صبر الإمام الحسين . . اعادته الى رشده و نهض بشاربيه الكثيفين المبللين بدموعه التي تجمّد قسم منها كراتٍ بسبب البرد، و هو يتمتم :
ـ الحمد لله الذي لايُشكر على مكروه سواه !! الحمد لله ! الحمد لله . .
و واصل السير .
لم يستطيعوا ان يتوقفوا و انما استمرّوا بالسير صعوداً على الجسر الثلجي و لهاثهم يتزايد، و اجتازوا القطع العميق وسط ضباب مخيف منتظرين وقوف الدليل السائر في المقدمة كي يأخذوا قسطاً من الراحة . . الاّ ان الدليل استمر بسيره، مما جعل صاحب يصيح عليه بضرورة التوقف للتأكد من صحة الجرحى و خاصة الجريح يوسف . .
استدار الدليل اليهم وقال :
ـ نستطيع التوقف بعد مسافة قصيرة . . المهم ان نخرج من هذا الحوض الذي نسير فيه، قبل شروق الشمس لأننا لن نستطع بعدئذ السير على الثلج صعوداً، حيث ان ذوبان جزء من سطحه لايسبب الاّ إنزلاق السائر عليه صعوداً . . . هل يستطيع يوسف المواصلة ؟؟
اشار يوسف الذي يعرف المنطقة جيداً الى الطبيب بيده و هو يرفع رأسه لأول مرة و يقول بصوت مسموع ، " نعم استطيع ! " ، فواصلوا المسير . .
و انتبه صاحب الى انهم فعلا في حوض ثلجي هائل شبه مغلق من كلّ جهاته، و انهم يسيرون باتجاه مايشبه المنفذ الوحيد الضيّق للخروج من الحوض من خلال عنقه، الذي كان الثلج عليه لايزال جامدا بقوة . . و فيما هو يفكّر، شاهد غيوماً فقال لحمه هركي " و لكن حتى ان امطرت هذه الغيوم فسيذوب الثلج و سيصبح الصعود مستحيلاً، اليس كذلك ؟ "
ابتسم حمه و قال :
ـ هذه الغيوم لاتمطر . . لاحظ اتجاه حركتها !!
ـ . . . ؟!
بعد ان خرجوا من الحوض، استمروا بالسير لمسافة طويلة هدّهم فيها التعب، و توقّف الدليل مشيراً الى امكانية قضاء استراحة قصيرة فتوقفوا جميعاً . . و القى صاحب نظرة سريعة على الجرحى الأكثر حراجة و تأكد من حال ابو داود المصاب بعينه و ابو آذار المصاب في كليته و تبادل الابتسام مع ابو فيروز و ابو نضال كدلالة على حسن صحتهما، و فحص بدقة يوسف هركي ؛ مظهره و حركة وجهه و عيونه ثم قياس ضغطه و نبضه و اطمأن على حاله بجرعة مقويات و منعشات جديدة . . و بعد ان رشفوا شاي من ترمسين حرص حمه هركي على حملهما و العناية بهما ، دخّنوا بما امكن ثم واصلوا السير خوفاً من سريان البرد في اجسامهم . .
و فيما كانوا يراقبون قَطْعاً ثلجياً ـ شبه حائط ـ تكوّن بسبب انهيار ثلجي و اظهر طبقات متنوعة الألوان واضحة الحدود بين بعضها البعض من الثلج . . و التي منها تمكن العارفون حساب السنين و ما شهدت من حرّ و برد او ما شهدت من دمار و انهيار و تألّق ايضاً . .
قال ماموستا هيرش و هو يدقق في القطع :
ـ منذ صغرنا و نحن نسمع من جدّاتنا و من الغجر . . روايات عمّن ركبوا العواصف و المخاطر، و صالوا و جالوا و قتل البعض و انتصر الآخر . . في اراضي و بوادي المجهول و الموت حيث تنتصب جبال الثلج العاصية متحدية الزمان . . جبال "كاني بفر " و " كاني بفران ". (1)
و في مسيرتهم صعدوا مدرّجات صخرية شبه مرمرية مبنية او مثبتة على ارض صخرية نبتت على شقوقها اعشاب برية خضراء تقاوم الثلج، عندما حاول صاحب اقتلاع اعشاب منها لتفحصها، وجد انها قد تتمزّق ولكن لاتقتلع باليد مهما سحبت بقوة.
و وصلوا الى رابية في شبه منحنى هناك . . شاهدوا عندها لوحات صخرية و كأنما هي مسلاّت او جداريات، اضافة الى صخور نقش عليها او كتب عليها بخطوط مسمارية او ماشابهها (2)، و كانت هناك مجاميع من مقابر حجرية كبيرة منحوت عليها الهلال الإسلامي، و حولها اشجار باسقة، اضافت اليها سكون و خشوع و كأنما اكملت لها اسرار و حرمة المقابر.
و على اغصان احدى الأشجار، عقدت انواع المناديل و الشرائط لطالبي الرحمة من الفاريّن و المطرودين والمطاردين و طالبي الأمل للمرضى و العواقر و ذوي الحوائج، للذين اعياهم الإنتظار. . و لم يعرف احد ماهية تلك الدعوات و الأماني و الرجاء و بتوصية من و ممن و الى مًنْ، لتوالي مرور انواع البشر بانواع معتقداتهم و دياناتهم و قومياتهم . . كما لم تُعرف قصة تلك الشجرة، هل تقوم على مدفن امام او مدفن ولي من الأولياء و القديسين، و ان كان لقربها من السماء فإن اشجار المقبرة كلها اقرب للسماء و كلها على نفس المرتفع . . ؟؟
قال حمه هيركي :
ـ المتعارف بين عشائر المنطقة هنا . . ان طريقنا هذا هو جزء من طريق الحرير التأريخي بين اهم امم الأرض في التاريخ . . الطريق الذي يربط سواحل اوروبا على البحر الأبيض بالهند و الصين ؟!
و رأى صاحب ما يؤكد كلام حمه هركي . . فالمقابر الكبيرة الأخرى التي يشاهدها و عليها نقوش بين ملامح صور و بين كتابات غير مفهومة . . مقابر بُني في مقدمتها صليب كبير، في دلالة على انه لابد و ان تكون هناك او كانت هناك مدن و ابنية او محطّات تعود الى قلاع و حضارات قديمة . . . و تذكّر الرواية الملحمية " قلعة دمدم " . .
التي فيما عبّرت عن بطولات و نضال الكورد في سبيل الحياة و الحرية و الكرامة، و بقي صداها يتردد بين شعوب المنطقة كمثالٍ للحب و الثورة ضد الظلم القومي و الإجتماعي . . فإن احداثها دارت في المنطقة ذاتها التي يسيرون عليها . .
و استمروا صاعدين جبال الثلج حتى مرّوا بنصب الحدود الخرسانية الواضحة تماماً هناك . . و اطلّوا من علٍ على خط واضح للحدود، الذي كان عبارة عن سلسلة خرسانات عليها نُصُب معدنية، و كأنها شواخص ثابتة لسياج حقيقي يمكن في اي وقت اقامته بايصال مايربط باحكام بين الخرسانات المثبتة عميقاً في الأرض ـ كما تأكّد من ذلك بعدئذ ـ ، ليكون مانعاً برياً حقيقياً محكماً . . و بقي السؤال قائماً في ذهنه بلا جواب . . . لماذا خط الحدود هنا واضح تماماً ذلك الوضوح، و في اماكن اخرى ليس كذلك، بل و حتى لاتوجد لاشواخص و لا اي شئ دالٍّ ؟؟
و تذكّر صاحب انه في خريف احدى السنوات مرّ بطريق مشابه لذلك الطريق و ضمن نفس العقدة الجبلية الكبيرة من سلاسل جبال سيدكان، عندما رافق قافلة للجرحى اجبرت على المرور في مناطق ليلكان متوجهة الى بيرانشهر ـ خانه ـ ، حين مرّت في مناطق مرتفعة شكّلت كما لو كان سقف المنطقة هناك . .
و نزلت المفرزة في ذلك الخريف، على طريق كانت تتخلله مسافات ثلجية افقية كان سمك الثلج فيها كبيراً، كما كان يظهر في عدد من قطوعاتها. وقد ضمّت تلك المسافات الثلجية مساحات صغيرة و متوسطة من نبات يشبه الثيّل و هو ممتزجاً بسائل اسود و طين، و كانت تنبعث منها روائح نفطية متنوعة، و يتصاعد من بعضها البخار، مشكّلة منظراً لاينسى في تلك المناطق التي كانت تمتد بما يشبه الصحراء البيضاء الراقدةعلى قمم واسعة مفتوحة تلتقي نهاياتها بخط الأفق، حين وصلوا الى رابية كانت تشغلها قطعان من خيول مطلقة السراح، تركها اصحابها الرعيان لتبحث هي عن علفها في الشتاء، و ليسوقوها اليهم بعد انتهاء ذلك الفصل و عودة الربيع . . رابية احتضنت مقابر متعددة في سقف المنطقة ذلك الذي كان يطلّ على سلاسل جبلية اخرى كساها الثلج .
وكان من المعروف هناك، ان المقابر تعود لجيوش متعددة، حيث كانت القبور العديدة تلك، مرتبة بصفوف منتظمة اختلفت من حيث الطول و العرض باختلاف المقبرة، وكانت عليها الواح ونصب حجرية بدا عليها القدم والتآكل و صدأ الحديد، وتبين بعد محاولة البعض لفك مانقش عليها، انها قبور لمقاتلين اتراك وفرس وبريطانيين وروس، عكست النزاعات الضارية لدول المنطقة و لجيوش اجنبية للسيطرة على تلك الأراضي الغنية من كردستان العراق .
و تذكّر صاحب حادثة وقعت له آنذاك اثناء سير تلك المفرزة، حين سقط مغشياً عليه بسبب الحمىّ العالية التي كان يعاني منها اثر اصابته بالتهاب قصبات حاد تطوّر سريعاً بسبب البرد، و كيف تركه رفاقه ليرتاح في ره شمال ـ بيت شعر ـ و تركوا معه رفيقين مسلّحين، على ان يلتقي الجميع بعد ان يتحسن . . في قرية سيلوه الحدودية الإيرانية . و تذكّر كيف نام هناك نوماً مضطرباً بسبب الحمى وترائى له و هو لايصدّق . . انه سمع صوت ربّة العائلة تنادي ابنتها وهي تصيح :
ـ اجلبي النفط من الكاني !! . . بهذا الدلو !! (3)
و انه استيقظ و وجد نفسه غارقاً بعرقه الذي كان يتصبب منه وهو مكسواً بدهن الطعام وملفوفاً بفروة سميكة عملت و اشارت بها ربة البيت . . كانت الصوبة (4) حمراء كالجمر، الاّ انه لم يرَ حطباً قربها كالعادة !! بل كان محيط الصوبة نظيفاً تفوح منه رائحة كالنفط، وضحك من فكرة انهم يستخدمون النفط للتدفئة هناك، فمن اين يجلبوه وكيف ؟
وقلّب فكره حينها في صياح المرأة " اجلبي النفط من النبع " ؟! . . هل يوجد النفط في مياهنا ايضاً؟! و اين ؟ هنا في سقف عالمنا، بين الثلج ؟!
و عندما استيقظ عند الفجر نشيطاً معافى، وذهب متدثراً بالفروة لقضاء حاجة، فخرج من جهة الره شمال التي خصصها اهل البيت للضيوف . . كانت الريح ثلجية باردة وكان رذاذ من مطر خفيف ينهمر وسط معمعة خافته وثغاء خراف، وشاهد انواراً بعيدة تتلألأ بمجاميع وسط ذلك الظلام الذي كان لايزال مخيّماً في السهول الواقعة في الاسفل و الذي زادته الغيوم المرابطة هناك عمقاً، و قال مع نفسه : هذه "اشنوية" (5) وتلك "خانة" التي كانت ابعد .
واثارت انتباهه هناك آثار اقدام شكّلت شبه ممر، فسار عليه الى نهايته حتى وجد نفسه امام بركة صغيرة لسائل داكن مسود . . بركة تحيط بها حشائش خشنه كالثيّل ايضاً، وكان موضوعاً جنبها صفيحتين مرتبتين بهيئة دلوين، كانتا مملوئتين بسائل لزج القوام كما بدا، تنبعث منه رائحة النفط الممزوجة برائحة طين . . وتأكد بعد ذلك من ان الذي كان يسيل من تلك العين والذي استعملته زوجة الراعي لاشعال الصوبة، هو النفط الذي يخرج ويسيل بشكل طبيعي من الأرض في بلادنا، في واحدة من اعاجيب بلاد النفط، و كرر في نفسه انه ينبع من تلقاء ذاته لايحتاج لا الى حفّارات و لا اجهزة و لا اخصائيين كبار، لايعرف مدى صدقهم من كذبهم .
و بعد ان قرر صاحب و رفيقاه الإلتحاق بالمفرزة في قرية سيلوه كما اتفقوا . . شكروا اهل الره شمال و تحركوا نزولاً ماريّن بقرية "زيوكه" سائرين بين مزارع الفراولا ، ثم بقرية صغيرة كانت تدعى "نَوْت" Naot (6)، حيث اشتم رائحة نفط قوية كانت تفوح على طول مسافة ليست قصيرة حول القرية، ولاحظ انتشار ذلك الثيّل الاخضر الخشن المنظر الذي يظهر في بقع واسعة ضحلة من سائل يشبه الماء الآسن ، بقعاً انحسر منها الثلج الذي كان يغطيّ اطراف القرية والى مسافة طويلة منها، لدفئ الارض المحيطة بمكان تجمّع النفط الخام الدافئ.
و تأكد له ان ذلك السائل هو النفط الذي كُشف عن وجوده في منطقة المثلث العراقي ـ التركي ـ الأيراني "ميركه ور"، ونشره في الصحف البريطانية لأول مرة آنذاك المهندس البريطاني مكدريج، المهندس في شركة بريتش بتروليوم التي كانت تنقب عن النفط شمال غرب ايران في اربعينات القرن الماضي، ووصفه آنذاك، بأنه اكبر مخزون نفطي في الشرق الأوسط !
الأمر الذي ادىّ الى طرده من الشركة لأنه افشى سراًّ خطيراً لها، على حد وصف الشركة، و حكم عليه بالإعدام في ايران في وقتها بضغوط شركات النفط الغربية العاملة فيها على القضاء. ثم خفف الحكم الى السجن المؤبد، بعد تدخل عائلة السياسي البريطاني الشهير تشرشل، لكون زوجة المهندس تعود بقرابة اليها.
ويشير متخصصون و باحثون الى ان شركات النفط لاتقوم في العادة بالإعلان عن استخراج وتصنيع وتسويق النفط الاّ بعد دراسة انسجام ذلك الإعلان مع المصالح والخطط السياسية لبلدانها الصناعية و خطط تقسيمها للأسواق و البلدان و تعيينها و اقامتها الحدود . . لتحقيق اعلى الأرباح الانانية لها، دون حساب للمكوّنات البشرية القاطنة عليها و مصالحها و عواطفها و تمسّكها بأرضها، و آمالها بحياة افضل .
واشار مكدريج في كتابه "الجبال والسلاح" الصادر في اوائل سبعينات القرن الماضي بالعربية (7)، الى ان شركات النفط لم تباشر باستخراج النفط، في كوردستان هناك، لوقوعه في منطقة مقسمة الى دول ثلاث، الأمر الذي ان حصل فإنه قد يثير صراعاً اقليمياً و دولياً بينها . . الاّ ان الأهم من ذلك، ان شركات النفط كانت تتحسس من استخراج النفط هناك لكونه يقع في منطقة كوردية صرفة !!
حيث ترى الشركات ان النفط في حال استخراجه وتصنيعه هناك، سيؤدي الى تطوير المنطقة وتصنيعها، و يؤدي بالتالي الى زيادة وعي ومعارف ابنائها الكورد وتطور ثقافتهم، وبالتالي سيشكّل اساساً مادياً هاماً لتصاعد مطالبتهم بكيان سياسي كوردي، الأمر الذي كانت تحذره وتقف ضده دوائر القرار في تلك الحقبة الزمنية .
لقد اجّلت الشركات النفطية استخراج وتصنيع النفط من منطقة "ميركه ور" و المناطق المحيطة بها، رغم جودته العاليه ورخص استخراجه وقربه من سطح الأرض كما مرّ، واحتكرت ذلك الحق لها ومنعت الآخرين من استخراجه وتصنيعه ايضاً، بل و ثبّتت حدود استثماراتها بإحكام بتثبيت حدود واضحة بين كل دولتين متجاورتين هناك و في كل مكان مثله يمرّ خط الحدود المرسوم بقلم على خريطة منضدية . . حدود لايسهل تخطيّها صدفة او غفلة او في ظلمة، كما قد يحصل في اماكن اخرى من البلاد و المنطقة . . لكل الأسباب المارة و على رأسها النفط !!
. . . .
. . . .
و فيما كان صاحب يفكّر بمفرزة سيلوه تلك و النفط و الحدود . . استمروا يصعدون جبلاً ثلجياً الى قمته ليصلوا الى سطح كبير ثلجي يلوح بقفره و سطوع الشمس عليه و انفتاحه على السماء و كأنه صحراء ملحية للوهلة الأولى . . الاّ ان برودة الريح تذكّر دوماً بانها ثلوج ناصعة البياض تهفهف عليها الرياح و كأنما لتعيد استوائها او بنائها و رونقها . . انها شئ يذكّر بالصحراء ايضاً لأن ماء ثلجها كأي ماء ثلج لايروي العطش . .
لم يمرّوا بقرية و لم يشاهدوا قرى او علامة حياة في الطريق و لم يصادفوا نبع ماء و لمسافات طويلة . . و بقي العديد من الأسئلة مفتوحاً، هل دُمّرت القرى هنا بفعل الطبيعة ام انها هُجّرت ؟؟ لأنهم شاهدوا دلائل لها من ابنية خربة شاخصة في منعطفات . . بل و في احد المواقع كان هناك نبع ماء مبني و مثبّت باحجار سميكة كبيرة كأنها الواح من المرمر، و يتصل بساحة حجرية واسعة تلتقي عندها طرقات حجرية ايضاً . .
و مرّوا بمناطق كانت الغيوم تلتف حولهم فيها كأنها ضباب يمنع الرؤيا . . غيوم تملأ الأخاديد التي ساروا فيها و هم يشعرون و كأنما لم تشرق الشمس بعد . . و بعد ان خرجوا من مناطق الغيوم رأوا ان الشمس صارت تتجه نحو السمت في تلك المناطق الخالية ليس من البشر فحسب، و انما من الحيوان ايضاً في صمت مطبق و ثلج طاغيين . .
و فجأة شاهدوا على بعد طيوراً كبيرة كاسرة تشبه النسور ذوات الأعناق العارية، كانت متجمعة في مكان يطل على ساحة تجري على ارضها معركة ضارية بين طائرين منهما، تطاير فيها الريش و الثلج . . و لم يفهم صاحب لماذا لا تبالي الطيور بهما رغم انها تشاهدهم جيداً، و لكن لاحركة منها، و لاهروب او هجوم و انما كانت الطيور تلك تكتفي بالنظر اليهما و هي تتابع بكل انتباه و يقظة الصراع الجاري بين الطائرين، في معركة بدا و كأنها لا تنتهي بسهولة، خمّن البعض مايجري فيها بكونه صراعاً كالصراع بين حصانين على قيادة القطيع . . و قال آخرون انهم ينتظرون من سيُقتل منهما بضربات و تجريح و تدمير الآخر . . ليأكلوا لحمه .
شعر البيشمركة بحرقة في الوجوه . . حيث بدأ الجلد و كأنه يحترق تحت ضربات البرد القاسي الذي يسبب تيبس البشرة، و تحت ضربات الشمس التي صارت تواجههم، حتى صار من الصعوبة تحريك الحواجب و خاصة عندما تهب رياح تتسبب بتشقق الجلد المؤلم و كأنه يتلقى مقذوفات صغيرة جارحة، اضافة الى تقرح جلد اليدين لمن لم يلبس كفوفاً. و ضحكوا و هم ينظرون بعضهم لبعض لأن وجوههم اسوَدّت، و شعروا بحاجتهم الى مراهم الجلد و الى نظارات داكنة، لأن قوة الشمس و انعكاسها القوي على الثلج و لمعانه الحاد، صارت لاتطيقها العيون . .
و بينما توقفوا ليتفقد صاحب الجرحى في احدى المرّات، صاح الدليل من فوق مرتفع :
ـ لاتقفوا !! اتبعوني بلا توقف . . بسرعة !! بسرعة !!
و صاح حمه هركي فوراً و بوجه قاسي عبوس :
ـ تحركوا تحركوا بسرعة !!
و اضاف لصاحب بصوت اجش :
ـ دكتور !! هذه الغيمة الصغيرة هي اسوأ علامة !! ستهب عواصف ثلجية ممكن ان تدفننا جميعاً هنا في الثلج !! و اشار اليها و صاح :
ـ اسرع اسرع . . . !!!
و بينما التفت صاحب بسرعة ليشاهد الغيمة و يسرع صاعداً مع الآخرين، لمح غيمة صغيرة شبه ثابتة، لم يدرك ماهية خطورتها . . اسرع الجميع نحو المرتفع حيث يقف الدليل، الجرحى على حيواناتهم و الآخرون ركضاً رغم كلّ التعب، حتى وصلوا قمة المرتفع و اخذوا استراحة قصيرة تماماً للتنفس و واصلوا صعود مرتفع ثاني بهمة عالية و بهدوء و حتى طرف رابية ذات سطح جليدي قاسي هناك . . حيث قال الدليل :
ـ هنا تستطيعون الراحة . .
و فيما كانوا يحاولون الجلوس على قطعة من النايلون يحملوها معهم، صاح الجريح ابو آذار :
ـ شوفوا شوفوا هناك . . !!
استدار الجميع الى حيث اشار . . و رأوا على البعد ما يشبه الإعصار محاطاً بهالة هائلة مضببة و كأن هناك مخاض عنيف لصيرورة جديدة في المنطقة ، اعصار يتحرك منحرفا من امامهم متجها شرقاً . . كان يفترس ما امامه من تشكيلات جليدية في اماكن و يترك خلفه قبباً و جبالاً ثلجية جديدة في اماكن اخرى جديدة . . و شاهدوا على البعد انهيارات ثلجية مستمرة تبعث على الرهبة . . اذ ما الذي يمنع من انهيار المنطقة التي يسيرون عليها ؟؟ السؤال الذي اجاب عليه ابو داود بسؤاله : " لماذا وجود دليل معنا اذن ؟ " !!
و اضاف حمه هركي بادب :
ـ لأني من عشائر المنطقة . . تدربنا منذ صغرنا على هذا الطريق لأنه من طرق الكويستان (8) في اعالي جبال كيله شين التي ندوس عليها الآن، حيث تذهب عشائرنا في الصيف سنوياً نحو المراعي هناك بعيداً عن الحر و الجفاف في السهول. و كنت منتبهاً الى حركة دليلنا الذي سبقنا الى تلك النقطة و الزاوية بالضبط لتقدير الوضع في منتصف النهار. حيث ان ظهور مثل تلك الغيمة شبه المستقرة مهما كانت صغيرة في المنطقة في هذا الوقت، يعني انها نذير بهبوب عاصفة لا تُذر و لاتُبقي، و لابد و انها ستكون مصحوبة بانهيارات ثلجية، الإنهيارات التي طمرت المئات و المئات تحتها منذ تأريخ قديم، لقد طمرت العام الفائت لوحده اكثر من مئة من الأهالي مع حيواناتهم اضافة لعدد من البيشمركة . .
بعد ان استراحوا قليلاً بالجلوس على قطعة من النايلون على دكّة صخرية جفّت بتأثير حرارة الشمس، حيث شربوا شاياً من ترمسي حمه هيركي الذي مازال دافئاً، و اكلوا قليلاً مما حملوا، و دخّنوا مسترخين قليلاً تحت الشمس . . و بعد ان اطمئن صاحب على حال الجرحى، عدلوا ملابسهم و احزمتهم و ابتدأوا بالسير . .
كان الطريق يتّجه بانحدارات كبيرة نحو الأسفل، فبعد مسافة من بقعة متموجة . . بدأوا بالنزول نحو وديان عميقة و بدت المنطقة المحيطة رطبة بتأثير امطار سقطت حديثاً و اذابت اجزاءً من الجليد في ذلك الجانب من الجبال . . و بدأت تلوح اسفلهم مروجٌ خضراء اخذت تظهر فيها سجادات الربيع المزهرة المتنوعة الألوان . .
حتى صار الطريق منحدراً بشكل كبير، الأمر الذي اقلق صاحب و اخذ يتلفت لمعاينة احوال الجرحى و خاصة يوسف هركي و ابو آذار، و اطمأن و هو يراهم ممسكين بقوة و تركيز بمقدمة سروجهم، فيما بدأ يلوح لهم في الأسفل شريطاً فضياً ملتوياً اخذ يزداد وضوحاً بكونه نهر .

تذكّر صاحب قافلة جرحى اقتتال الأخوة . . التي كان يقودها في فترة سابقة حين كانوا ينزلون من جبل سفيّن من جهته الشديدة الإنحدار لأنها كانت اكثر اماناً من حيث القوى العسكرية، و كانوا متجهين الى اطراف قرية نازنين، حين تأمل بقلق حالة الجرحى الخطرين الذين انقذ حياتهم في سهل اربيل آنذاك، و خاصة فاخر المصاب بكسر في عظم الفخذ بسبب اطلاقة بندقية برنو، ومام بايز المصاب بشظية في صدره، استقرت على جدار القلب (9) . . حين كانوا ينزلون بسرعة كبيرة تحت وابل قصف مدفعية الربايا الحكومية، و هم يحسبون الف حساب لإحتمالات وجود كمائن معادية على جانبي الطريق . .
و تذكّر صاحب كيف انه كان حانقاً طوال الطريق ـ قبل نزولهم ذلك المنحدر الخطرـ على ملتحقين جدد آنذاك كانوا يتصورون الحال و كانهم في نزهة، و ليس بمهمة خطرة تتضمن نقل جرحى مخطرين في النهار امام مرمى الربايا الحكومية، و يتربص بهم مقاتلون من منظمة بيشمركة شقيقة ابتدأت حرباً ضدّهم . .
فقد كانوا يتحدثون عن افلام برجيت باردو و مارلين مونرو و عن اللقطات الأكثر جاذبية و اثارة لهما ، فيما كانوا يكرّزون حب الرقي المحمص و يبصقون قشوره على طول الطريق، محدثين ضجة كبيرة شوشت على اصغاء صاحب و مرافقيه لما حولهم، رغم محاولات الأقدم اسكاتهم لمرّات . . حتى نهرهم صاحب بشدة بأن ينتبهوا على الطريق لأن الجميع معرضون للقتل !! فصمتوا صمتاً مطبقاً اثر تجمّدهم من ذلك القول المفاجئ، لأنهم كانوا يسيرون فعلاً في تلك الطرق الخطرة و هم يرون ذكرياتهم المثيرة و كأنها ماثلة امامهم ؟!
. . . .
. . . .
كانوا ينزلون من جبال كيله شين ـ نحو وديان كأنها من عالم آخر، حيث كان الربيع في تلك الوديان مزدهراً . و مرّوا برعاة بقر ببنطلونات جينز و قبعات كاوبوي كما في الأفلام الأميركية . . و قد قيل انهم مسيحيون، و ان القرى المحيطة هناك هي قرى مسيحية . . . و كرر صاحب السؤال الذي لم يلق له جواب " لماذا قراهم انظف من قرانا نحن المسلمين . . و قرآننا و احاديث الرسول الأكرم كلّها تشدد على النظافة " ؟!
بعد ان اجتازوا المروج الخضر التي كانت مجاميع كثيرة من البقر ترعى فيها، و الذي استغرق اكثر من ساعة . . عبروا قنطرة حجرية قيل انها جسر نهر " غادار" (10) الشهير في المنطقة بكونه اطول انهارها . . و استمروا داخلين مدينة اشنوية الخضراء الجميلة، و اجتازوا عدداً من الطرق الى ان وصلوا الى مقر بيشمركة الحزب الديمقراطي الكوردستاني ـ حدك في اشنوية.
كانت الساعة الثانية بعد الظهر عندما وصلوا المقر و فات عليهم ان ذلك اليوم كان يوم جمعة، و ان المقر يكون في العادة مغلقاً . . الاّ ان الخفراء فتحوا الباب و ادخلوهم الى الغرف المفروشة كي يستريحوا في ذلك المكان الدافئ، و قد زادوا من تدفئته باشعالهم اكثر من صوبة فيه . و شعر الجميع كما لو انهم قدموا من عالم آخر . . و فيما كان افراد المفرزة يغتسلون و يرقدون على ظهورهم في ذلك المكان الدافئ، انشغل صاحب بفحص جميع الجرحى و تسكين من احتاج الى مسكّن، و قام بتعليق مغذي جديد للجريح يوسف مضافاً اليه المانيتول لتنظيم الضغط و النبض .
بعد ان نام قسم و رقد قسم آخر، جلسوا و شربوا الشاي الطازج الذي أُعدّ لهم، و اكل الجرحى طعاماً خفيفاً بناءً على توصية صاحب لأنهم يتهيأون للذهاب الى المستشفى حيث سيقوم الأطباء الاخصائيون هناك بفحصهم و اجراء الفحوص المختبرية و الشعاعية و غيرها لتقرير مايجب عمله معهم. و قد ارسلهم مقر اشنوية بباصين صغيرين مع مرافق الى مستشفى رضائية حيث انتظرهم معتمد حدك هناك، كاك مجيد . . الذي قام بالإجراءات الأصولية لإدخالهم و بضمنهم يوسف هيركي الى المستشفى وفق قرارات الأطباء هناك، و حدد لبيشمركة المفرزة مكان للراحة في مقرات قيادة حدك في راجان ، ثم قام بترتيب سفر الجرحى المرسلين من سرية روستي الى طهران ، و ادخال الآخرين الى مستشفى رضائية . .
استغرب طبيب الردهة الجراحية الإيراني من ان الفلاح الكوردي الواضح من ملابسه و الذي كان واقفاً في باب غرفته في المستشفى يتكلّم الإنكليزية، و صار استغرابه مفاجأة هائلة بعدما عرف ان ذلك الفلاح هو الذي قام بعملية استخراج الشظية الصاروخية من دماغ الجريح يوسف هركي !!
و قد خلّصه كاك مجيد من حالة المفاجأة تلك و هدّئه بتوضيحاته و بأثبات ان شظية الصاروخ التي اصابته هي تلك التي كانت في جيب صاحب، الذي من جانبه قدّمها لطبيب الردهة ليرى حجمها و مادتها و شكلها ليستطيع تكوين تصوّر اولي حول حجم الإصابة، تصوّر يساعد فحصه السريري لتقدير ماهية حجم الإصابة و بالتالي للتوصل الى تقرير ما اذا كانت مستشفى رضائية قادرة على القيام بالعلاج سريرياً او جراحياً ام لا ، ام كيف .
بعد ان اتصل طبيب الردهة الجراحية برئيس قسمه و تفاهم معه تليفونياً عن كيفية التصرف مع الجريح يوسف هركي، حيّا طبيب الردهة صاحب و قاده الى جناح اقامة رئيس قسم الجراحة في المستشفى ليرتاح فيه، و جلب له مناشف كي يأخذ حمّاماً، و سيت داخلي للنوم و اطلعه على تفاصيل الجناح الذي توفرت في مطبخه انواع الأطعمة و الألبان و المشروبات الغازية، طالباً منه ان يحاول الهدوء لأن من المحتمل ان يكون امامه شغل متعب .
بعد ان اخذ حماماً و ابدل ملابسه و اكل قليلاً مما موجود، ذهب صاحب في سبات نوم عميق، ايقظه منه طبيب الردهة في حدود السابعة مساءً طالباً منه برجاء، اعداد شئ لعقد سيمينار مع اطباء قسم الجراحة في المستشفى حول عملية الدماغ التي قام بها و ظروفها، و الأدوات و المواد الطبية المستعملة، و ان يعدّ تقريراً طبياً بالأنكليزية بذلك، لأرساله الى بروفيسور مستشفى الجراحة العصبية في طهران، بناءً على طلبه .
و اعدّ صاحب الخطوط الرئيسية التي سيتحدّث عنها في السمينار، و ذهب صحبة طبيب الردهة الى قاعة كان ينتظره فيها اكثر من خمسة عشر طبيباً و طبيبة، استوضحوا منه و ناقشوا بحماس . . . و بعد السمينار اعد صاحب التقرير الطبي للجريح يوسف بالإنكليزية و ارسله في نفس الوقت بفاكس المستشفى الى البروفيسور في طهران، الذي كلّم صاحب بعدئذ تلفونياً من هناك . . ثم عاد و اتصل بصاحب مرة اخرى و ثمّنه على ما قام به و اخبره بانه سيرسل تقريرا طبيا بذلك التثمين الى مستشفى رضائية وفق الطريق الحكومي الأصولي، على اسمه .
. . . .
. . . .
استيقظ صاحب في الصباح الباكر في غرفة رئيس قسم الجراحة . . على صوت ضجة كبيرة في حدائق المستشفى الأمامية . . و شاهد من الشباك المئات من الرجال و النساء و الأطفال من افراد العشائر امتلأت بهم حدائق المستشفى الأمامية الفسيحة، و لم يفهم مالذي يحدث هناك . و بعد قليل جاء اليه كاك مجيد و قال، انهم من عشيرة هركي جاءوا للسلام على يوسف هركي و عليك لإنقاذك حياته، و كان اربعة من الكهول خلفه سلّموا على الطبيب بحرارة عالية و قرأ احدهم عليه تعاويذاً ، فيما خرج هو الى البلكون ليحيي ابناء العشيرة، كما اقترح كاك مجيد .
و بعد اجراء الفحوصات المختبرية الضرورية بالأجهزة المتوفرة في المستشفى، و التي استغرقت يومين، نظّم كاك مجيد ارسال يوسف هيركي مع مرافقين من اقاربه الى مستشفى بروفسور الجراحة العصبية في طهران و فق توصيته . . و قد تأثر صاحب كثيراً بكلمات الامتنان و الوداع التي قالها له يوسف هيركي و هو يودّعه .
ثم ذهب صاحب صحبة كاك مجيد بسيارة الباص الصغيرة العائدة لمقر البارت في اشنوية، الى رازان، حيث مقر قيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني العراقي ـ حدك . . و قد استقبله هناك الفقيد فلك الدين كاكائي مسؤول المكتب الإعلامي للبارتي آنذاك، الذي رحّب به بحرارة و دعاه الى زيارة قسم الإعلام هناك للتعارف .
و كان قسم الاعلام متطوراً فعلاً ، بما فيه من اجهزة اتصال، و اجهزة طباعية حديثة و ارشيفات متنوعة كتابية و صوتية، و جلسا هناك متناولين الشاي مع اكل خفيف، و دارت نقاشات متنوعة عن دور الإعلام و ماهيته، و التقى هناك بالشخصية الكوردية الفقيد عزيز عقراوي الذي كان مشغولاً باكمال و طبع اول معجم كوردي كان يقوم بتأليفه، ثم دلّه كاك فلك الدين على غرفة هناك ليرتاح فيها، و ليقرأ عدد من صحف و مطبوعات عربية حديثة متنوعة متوفرة هناك .
فقرأ هناك عدداً جديداً من مجلة " الهدف الفلسطينية" احتوى على ملف كامل مزوّد بصور هامة عن معركة "سي كاني " التي مرّ ذكرها، التي خاضتها قوة من الفوج الخامس اربيل مع قوات الدكتاتورية و جاشها في تلك القرية في ذلك العام، وقد سمّت المجلة تلك المعركة باسم " معركة سهل كويسنجاق " . كان يقرأ و هو يفكر بـ . . " فيما اخذت المعركة حيّزاً مهماً في صحافة المنطقة . . لاتزال عندنا قيد التقييم بين مهاجم و بين مثمن في ذلك الوقت . . في وقت لم يصدر فيه بلاغ وافي عنها او ملف عن المعركة من اعلامنا " ؟؟
و بعد و بحدود الساعة دعي من قبل المناضل علي عبد الله الذي كان سكرتير الحزب آنذاك . . فذهب الى غرفته صحبة مرافق حيث رحّب به و هنّئه بحرارة على نتيجة العملية . . ثم قدم له هدية باسم رئيس الحزب السيد مسعود بارزاني الذي كان غائباً عن المقر لإنشغاله، كانت عبارة عن قمصلة جبلية دافئة و سيت ادوات جراحية ميداني . . قابلها صاحب بالشكر و الإعتزاز .
و بعد استراحة ليومين هناك بناء على الحاح السيد علي عبد الله . . عاد صاحب مع العدد المتبقي من المفرزة الى طبابته في مقر الفوج الخامس اربيل، في بشت ئاشان عن طريق خانة ـ ميراوة ـ نوزنك، مواصلاً عمله في الفوج .
و بعد اشهر وصل له خبر من مفرزة مارّة هناك، عن صدور تثمين بروفيسور طهران له و بأسمه بكتاب رسمي، على ان يكون تسليم ذلك التثمين اصولياً، و باليد في احتفالية في مستشفى الجراحة العصبية في طهران، و ان الجريح يوسف هركي بعد جلسات العلاج الكبيعي، بصحة جيدة ولايشكي من شئ سوى ضعف في حركة الاصبعين الصغيرين لليد اليسرى و هو يداوم على علاجهما في قسم العلاج الطبيعي هناك . .
الاّ ان صاحب لم يستطع السفر الى هناك، لأنه كان في طبابة الفوج الخامس عند قرية بناوي في سفح جبل كورك آنذاك . . حيث كان النشاط و الآمال كلّها منصبّة على عراقنا بكوردستانه . . وفي وقتها كان الطريق بين نوزنك و ايران ـ اي بين العراق و ايران هناك ـ قد انقطع تماماً بفعل تطورات الحرب العراقية ـ الإيرانية .



خاتمة :
ما مرّ من احداث في السنوات التي وثّقت في هذا الكتاب . . كانت جزءاً من احداث الشهور و السنوات الاولى لنشوء حركة البيشمركةالانصار و شكّلت محطة جديدة لزيادة انطلاق من سبقتها، و اخذها ابعاداً جديدة اوسع، بسبب زيادة وحشية الدكتاتورية ثم بسبب الحرب الضارية بين الدولتين الجارتين التي لم تمرّ بمثلها البلاد قبلاً .
و تليها السنوات الصعبة و التي تحققت فيها نجاحات بارتزانية متنوعة ادّت الى وقوع مدن عراقية صغيرة و متوسطة تحت نفوذ البيشمركة ثم مدن اكبر . . الامر الذي ادىّ الى استخدام السلطة الدكتاتورية سياسات التهجير و حرق القرى و المدن الصغيرة بوتائر اوسع و اكثر وحشية . . ثم السنوات الاكثر صعوبة اللاحقة التي هاجمت فيها قوات البيشمركةالانصار مواقع الدكتاتورية الدموية، مقدمة آيات البطولة و الصبر و الفداء و عشرات الشهداء و انواع التضحيات . .
و اصابت الدكتاتورية بجراح بليغة ادّت الى هياجها و استخدامها وتيرة اعلى من انواع الطرق العسكرية و الاسلحة و الحيل السياسية في مواجهة حركات البيشمركةالانصار، حتى وصلت الى استخدام الاسلحة الكيمياوية في باليسان و حلبجة و عمليات الانفال سيئة الصيت ، كما سيأتي و الذي نُشر موثقاً في جزئي كتاب المؤلف " اي رقيب " الاول و الثاني، الذي نشرته مشكورة مؤسسة "سردم" في السليمانية و تبني رئيسها الفقيد الشاعر المعروف " شيركو بيكه س" لنشره، و بتقديم البروفيسور د. " كاظم حبيب " . . و المساعدة المشكورة للعزيز الكاتب " شه مال عادل سليم " الذي بذل جهوده في تدقيق معلومات و التذكير بأسماء كان شاهدها، و بنقل و توزيع عدد كبير من نسخ الجزئين الى مدن كوردستان و الى بغداد و اوروبا . .
و يشير الكاتب الى ان الكتاب الحالي قد مرّ مروراً فقط او لم يتناول نشاطات متنوعة اخرى للبيشمركةالانصار لتلك الفترة الزمنية كنشاط النساء المتفاني في سبيل انشاء و تقوية و زيادة فاعلية المنظمة و الالتحاقات فيها، لأن سريّة نشاطاتهن كانت آنذاك هي الصفة الغالبة لها لتأمين نجاح تلك النشاطات الاساسية. و لم يمرّ الكتاب على فرق المدن الانصارية الفاعلة التي لم تظهر بعد في تلك الفترة، و لا على البيشمركة الداخليين لنفس الاسباب، كما لم يمر على النشاطات المتفانية للمخابرين و مراسلي المناطق الخطرة رجالاّ و نساء و غيرها من النشاطات الاساسية . . التي ورد قسم منها في كتابَيْ " اي رقيب " بجزئيه و سيرد قسم آخر في اجزاء اخرى لم تُنشر بعد .
ولايسع الكاتب الاّ تقديم شكره العميق للذين تبرعوا و يتبرعون و يعملون لأجل طبع و نشر هذا الكتاب .

ملاحظة : هناك ارشيف صور عن المنطقة و الاحداث التي مرّت في هذا الكتاب، اضافة الى صور عدد من اشخاصه .
(انتهى)

نيسان 2011 ، كوردستان العراق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. كاني بفر . . اعتقاد قديم في تلك الأنحاء البعيدة المقطوعة، مفاده ان الثلوج " البفر " لاتسقط فقط من السماء، و انما تنبع ايضاً من باطن الأرض عند القمم العاصية، مدللين على ذلك بما موجود في كيله شين، فالثلج دائم ثابت هناك شتاءً و صيفاً، و هو متغلغل عميقاً في الشقوق الصخرية بضغط ثقله الدائم . .
2. تتناقل مصادر متنوعة انه في تلك المناطق وجدت مسلة كيله شين المشيّدة في حدود الألف الأول قبل الميلاد، والمكتوبة بالمسمارية بلغة بلاد اورارتو و الآشوريين التي قيل انها تحمل اخبار من هلكوا بسبب الثلج و البرد هناك، و يقال انها كانت نقطة علاّم للمارين على ذلك الطريق، باعتباره الطريق الشمالي الرئيسي بين بلاد الرافدين و آذربيجان و بلاد فارس . .
3. كاني . . تعني بالعربية، النبع، عين الماء . و تعني الجملة : " اجلبي النفط من النبع " ؟؟
4. المدفئة المعدنية، المعدة اصلاً لحرق الخشب للتدفئة .
5. و تسمى " شنو " ايضاً .
6. التي تقابلها في العربية كلمة " نفط " .
7. الذي نشرته صحيفة التآخي الغراء بحلقات آنذاك و طبعته مؤسسة كاوة للادباء الاكراد في بيروت .
8. كويستان، جويستان . . هي مناطق المراعي الخضراء في اعالي الجبال التي تنتقل اليها عدة عشائر منها الهركية و حيواناتها صيفاً بعيداً عن حر و جفاف السهول. و المعروف عن عشائر الهركية في مناطق اربيل، انها تقيم في بيوت الشعر في سهل اربيل شتاءً، حيث يكون الجو هناك اشبه بالربيع، حيث تتوفر المراعي الخضر للحيوانات ، و يتنقلون اكثر من مرة في السنة مع اقتراب الصيف نحو المناطق الأكثر ارتفاعاً التي تعيش ربيعها، الى ان يصلوا ببيوتهم و حيواناتهم الى اعالي الجبال التي منها جبال كيله شين، في ذروة حر الصيف .
9. فاخر، كان آمر مجموعة مقاتلة، و بعد اصابته البليغة صار اداري فصيل . . بيشمركة شجاع من ارياف كويسنجق، مام بايز بيشمركة شجاع كهل من اهالي قرية بايز آغا في سهل كويسنجق، جرحا معاً في كمين برده سبي عندما عادت سريتهم بعد ان قامت بعملية كبيرة ناجحة ضد اجهزة الدكتاتورية في مدينة اربيل .
10. نهر غادار Gader ، ينبع من اراضي كوردستان العراق و يدخل ايران عبر اشنوية و يمر بمدينة نقدة ليصب في بحيرة رضائية .



الفهرست


1. الفصل الأول الى الجبال البعيدة
2. الفصل الثاني توزله
3. الفصل الثالث الى مهاباد
4. الفصل الرابع نوزنك
5. الفصل الخامس في غمار تكوين طبابة بيشمركة
6. الفصل السادس سردشت
7. الفصل السابع و اندلعت الحرب
8. الفصل الثامن طريق كيله شين



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هناك . . عند الحدود (15)
- هناك . . عند الحدود (14)
- هناك . . عند الحدود (13)
- هناك . . عند الحدود (12)
- هل عادت انتخابات الفوز ب 99,9 %
- هناك . . عند الحدود (11)
- هناك . . عند الحدود (10)
- هناك . . عند الحدود (9)
- هناك . . عند الحدود (8)
- هناك . . عند الحدود (7)
- اين -الدولة الجديدة- بديل الدكتاتورية ؟
- هناك . . عند الحدود (6)
- للإسراع باعلان نتائج الإنتخابات !
- هناك . . عند الحدود (5)
- هناك . . عند الحدود (4)
- هناك . . عند الحدود (3)
- ما معنى الإنتخابات و الى اين ؟
- هناك . . عند الحدود (2)
- هناك . . عند الحدود (1)
- ثمانون عاما من اجل قضيتنا الوطنية . .


المزيد.....




- المدافن الجماعية في سوريا ودور -حفار القبور-.. آخر التطورات ...
- أكبر خطر يهدد سوريا بعد سقوط نظام الأسد ووصول الفصائل للحكم. ...
- كوريا الجنوبية.. الرئيس يون يرفض حضور التحقيق في قضية -الأحك ...
- الدفاع المدني بغزة: مقتل شخص وإصابة 5 بقصف إسرائيلي على منطق ...
- فلسطينيون يقاضون بلينكن والخارجية الأمريكية لدعمهم الجيش الإ ...
- نصائح طبية لعلاج فطريات الأظافر بطرق منزلية بسيطة
- عاش قبل عصر الديناصورات.. العثور على حفرية لأقدم كائن ثديي ع ...
- كيف تميز بين الأسباب المختلفة لالتهاب الحلق؟
- آبل تطور حواسب وهواتف قابلة للطي
- العلماء الروس يطورون نظاما لمراقبة النفايات الفضائية الدقيقة ...


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - مهند البراك - هناك . . عند الحدود (16) الاخيرة