أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - علي عبد المطلب الهوني - (ديناميكية الحوار بين السطح والأعماق (الجزء الأول















المزيد.....


(ديناميكية الحوار بين السطح والأعماق (الجزء الأول


علي عبد المطلب الهوني

الحوار المتمدن-العدد: 1265 - 2005 / 7 / 24 - 05:18
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


دراسة ذات بعدين في شعر نزار قباني
بين الذهنية الدينية الخاملة والنقد التحليلي الواعي
شغل الحوار مع الآخر وما زال يشغل اهتمامات الكثيرين من البشر على اختلاف مشاربهم وبيئاتهم وأعمارهم ومستوياتهم الفكرية، لاسيما إذا لبس جبَة الدين وفرض على غيره أن يصدّقوا أن الجبّة التي يرتديها ليست جبّة من صنع البشر، بل هي من صنع الله، وأنه بهذه الجبة صار مقدساً واجب الاتِّباع، فأقواله وأفعاله لا دخل له فيها، لأنها بفضل الجبة صارت أفعالا وأقوالا إلهية، فمن خالفه الرأي كافر، لأنه خالف نصاً إلهياً، لذا بات على أتباعه ومريديه تعقب ذلك المخالف وقتله، فالمصطلح الوحيد والمسموح به بين هذه الفئات الضالة هو الصمت ثم السمع والطاعة أو مواجهة الاغتيال، وليت الذي لبس الجبة واحداً، إذن لَسَهُلَ وَهَانَ التعاطي معه رغم تزمته وتشدده، ولكن امتلأت بلادنا العربية حتى ضاقت بهم درعا، واستشرى دائهم حتى عمَ أوصال كل الوطن، فصار هذا الوطن من حيث لا يحتسب يصدر للدول غير العربية هذا اللون من الحوار على شكل فئات ذات مظهر مقزز وسلوك إجرامي لا فقه لها غير فقه القتل والاغتيالات وبث الكراهية في نفوس البشر، والتي لو وزّعت على أهل الأرض لوسعتهم فجنى وطننا من شرورهم ما لم تجنه عليه حروبه ومصائبه السابقة مجتمعة، فالكراهية التي حملها هؤلاء في قلوبهم وكتبهم إلى خارج أوطانهم من فيضها وكثرتها طبعت هذه الأمة عند الآخر بطابع الإرهاب، ومن أَكْثَرَ من شيء عُرِفَ به، فَأُخِذَت الأمة ودمرت دولها واقتصادياتها بسببهم، وقد يؤخذ الجار بذنب الجار، فما بالك الأم ألا تؤخذ بجريرة أبنائها! فصرنا نردد المثل العربي : "على نفسها جنت براقش"، وحيث أن النفس الخبيثة لا تخرج من دنياها حتى تسيء لمن أحسن إليها، كذلك فعل هؤلاء، فانظر إلى أفعالهم بالمجتمعات التي احتضنتهم بعد أن لفظتهم أوطانهم وآوتهم، بعد أن شردوا من بيوتهم، ولكن من يربي الأفعى في كُمِّهِ إلا من سَفِهَ نفسه!.
سأحاول قبل أن أعقد الدراسة التقابلية على حسب ما أراه بين المتنورين من هؤلاء الظلاميين، وبين دراسة النص الأدبي في شعر نزار قباني دراسة واعية، أقول، سأحاول، في دراسة مبسطة أن أتتبع أنواع الحوار الديني الصحيح في القرآن الكريم الذي بَعُدَ عنه هؤلاء الإرهابيون وإن كان حَريٌّ بهم أن يتبعوه.
وللعلم أن جل أتباع ومريدي هذه الفئات غير الراشدة، لا علم لهم إلا ما تلقوه من أفواه مشائخهم الخبثاء، أو أئمتهم الظلاميين، فهم في عمومهم تركوا قاعات الدراسة المنتظمة بمدارسهم مبكراً، بسبب تخلفهم الذهني، أو بسبب سلوكهم العدواني، وهاموا في شوارع مدنهم وأزقة قراهم، حاقدين على زملائهم الذين ظلوا يواصلون التحصيل العلمي، فتحولوا تبعاً للفراغ وعدم مراقبة سلوكهم إما إلى مجرمين وإما إلى مرضى نفسانيين، إنطوائيين، فاستقطبوا نظرا لمؤهلاتهم هذه من قبل مجموعات دُرِّبَت على استقطاب الشباب غير الواعي، في غفلة عن أعين حكوماتهم العربية، وبُعِثَ النابهون منهم إلى بعض الدول التي تخصصت في تفريخ الإرهابيين، وملء عقولهم بخرافات وأباطيل عفا عليها الزمن.
فإذا علمنا أن مصدر التشريع الأول عند المسلمين هو القرآن الكريم، والذي سأحاجج به هؤلاء مبيناً أنواع الحوار الديمقراطي، بين الله والملائكة، وبين الله وإبليس، ثم بين الله وآدم، لذا وجب على من اتخذ هذا القرآن هادياً له أن يتبعه خاصةً في أدبيات الحوار.

أولاً : الحوار بين الله والملائكة :
قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ.( )
فهل رأيت حواراً وسماحة مثل هذه السماحة، إن الله عندما خاطب الملائكة، كان الخطاب بأسلوب ودّي، ولكن انظر إلى ردّ الملائكة العنيف البعيد عن أصول اللياقة، وهم يعددون لله وينبئونه بما يعلم من المساوئ والجرائم التي سيرتكبها الإنسان على الأرض، وكأني بهم يوغرون صدره على بني الإنسان، ومع ذلك فإن الله لم يقض على الملائكة بالموت، ولا حتى نهرهم، بل اكتفى بقوله لهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ.
وحتى يثبت لهم، وهو في غير حاجة لإثبات، لأنه الله، إنهم يجهلون، جاء بطريقة فريدة في كيفية التعاطي بالأفكار، فعلم آدم الأسماء كلها، وهو المستنقص من قبل الملائكة، ثم عرض المسميات على الملائكة، وطلب منهم أن يعلموه بأسمائها، فلم يجدوا إجابة، لأنهم لا يعلمون الغيب، وحتى يعلموا في قرارة أنفسهم أن الأمر كله لله، وأنهم قد تسرعوا في حكمهم على بني الإنسان، وحتى يبين لهم أن هذا الذي استنقصوه، يعلم أكثر منهم، لأن العلم كله من عند الله، فهو الذي منحهم وهو أيضاً الذي منح آدم.
قال الله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ.( )
فاعتراض الملائكة الأول على الله كان بظنهم أنهم يعلمون كما يعلم، فلما تبين لهم بالدليل عكس ذلك، قالوا: قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
وأما الاعتراض الثاني فكان على نوع العلاقة التي ستصير بين البشر وربهم، وَذَكَّروا الله بتقديسهم له، وكأنهم يملكون أمر التقديس من عدمه، لهذا أراد أن يمتحنهم بالتقديس لغيره، ممن هو في نظرهم أقل منهم، ومن هنا صدر لهم الأمر بالسجود لآدم، قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ.( )
فنجح من نجح، ورسب من رسب، وإن كان الراسب الوحيد في هذا الامتحان هو إبليس.

ثانياً : الحوار بين الله وإبليس :
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا(61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً(62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا(63) وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا(63) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً(64).( )
فهذا إبليس يحاور الله ويستفزه بأسلوب بذيء لا يليق أن يخاطب به المرء نظيره، فما بالك بمن هو أعلـى منـه منـزلةً ورتبة، انظر إلى قول إبليس لله: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا(61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً(62).
فكأني به يوبخ الله على طلبه له بالسجود، ويذكره بما يعلم، فهل رأيت بذاءةً مثل هذه البذاءة، وحلماً كهذا الحلم! أين أدبيات الحوار.
ثم انظر إلى ردّة فعل الله على إبليس، هل أماته؟ هل أحرقه بالنار؟ هل كلّف أحد الملائكة باغتياله؟ إن الله لم يفعل شيئاً من ذلك، بل على العكس، أجابه إلى طلبه رغم تهديدات إبليس بغواية ذرية آدم ما عاش. وللوقوف أكثر على هذا الحوار من جوانب مختلفة، هذا الله يقول في كتابه:
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ(13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14) قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ(15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17).( )
فلم يوبخ الله إبليسا، الذي نسب الغواية لله بقوله: (أَغْوَيْتَنِي)، كما أنه لم ينهره بقوله: "اهبط يا متكبر"، بل قال له: (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا).

ثالثاً: الحوار بين الله وآدم :
قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى(116) فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى(117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى(118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى(119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى(120) فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى(121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى(122).( )
فآدم لم يعص ربه فحسب، بل تعامل مع عدوه، فهو بالمصطلح الحديث خائن وعميل، وعقوبته عند جلُّ البشر معروفة، ولكن الله الحليم غفر له وتاب عليه وهداه، وكذلك فعل الله مع كل رسله وأتباعهم وحوارييهم، فهل إلى توبة بعد أنواع الحوارات السابقة أيها الظلاميون من سبيل!!.
هذا والتعصب والغلو في كل أمر عمل مرذول، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالعقيدة، فكل مسلم يتمنى زوال الدولة الصهيونية من فلسطين، وعودة الحق لأصحابه، إلا أننا نحب رسولهم موسى ولا نفرق بين الرسل، كما جاء في محكم التنزيل، يقول تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ.( )
ولكن يبدو أن لنزار قباني الشاعر العربي السوري المعروف غير هذا الرأي، ومذهب غير هذا المذهب، فهو يتهم الرسول موسى (عليه السلام) بالسحر والشعوذة، يقول نزار قباني:
لأن موسى قطعت يداه
ولم يعد يتقن فن السحر
لان موسى كسرت عصاه
ولم يعد بوسعه
شق مياه البحر
لأنكم... لستم كأمريكا
ولسنا كالهنود الحمر
فسوف تهلكون عن أخركم
فوق صحاري مصر( )
فهل كان موسى ساحراً مشعوذا يتقن فن السحر، أو كان رسولاً جاء بمعجزات منها إبطال السحر وأعمال السحرة الذين جمعهم فرعون، يقول الله تعالى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى.( )
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تشبيه فراعنة ذلك الزمن المتعالين في الأرض بمسلمي أو مسيحيي مصر الآن، وتشبيه اليهود المؤمنين أتباع موسى (عليه السلام) باليهود الصهاينة الآن يعد من سخيف التفكير.
كما أن غُلو نزار وتحامله على النبي موسى (عليه السلام) أعماه، فدفعه إلى جعله أصلاً للمشكلة الفلسطينية، ولن يكون الحل إلا بطرده وأتباعه من أرض فلسطين.
يقول نزار مخاطباً اليهود:
ننصحكم أن تقرأوا
ما جاء في الزبور
نسألكم أن تحملوا توراتكم
وتتبعوا نبيكم للطور( )
هذه قراءة أولية سطحية للنص الشعري اعتمدت دراسة القشرة الخارجية له، فلو أردنا دراسة النص السابق دراسة مجهرية، أو دراسة سَطْحِهِ الداخلي لتطلب منا أن نطرح الأسئلة الآتية على المتلقي:
1 – من المقصود بموسى في النص؟
2 – من المخاطب بقوله لستم كأمريكا؟
3 – من المخاطب بقوله لسنا كالهنود الحمر؟
4 – من المقصود بقوله: فسوف تهلكون عن آخركم فوق صحارى مصر؟
إجابات الأسئلة السابقة تحدد لنا المقصود زمانياً ومكانياً بالنص السابق، فما موسى في النص إلا من بيده الأمر والنهي في إسرائيل المعاصرة، ونقصد بالأمر والنهي السلطتين السياسية والدينية، تماماً كموسى الذي كانت بيده السلطتين السياسية والدينية قديماً، لأن الدولة العبرية المعاصرة قائمة على أساس ديني وكيان سياسي.
أما المخاطب بقوله لستم كأمريكا فواضح أن الشاعر يتحدث عن الكيان الصهيوني المعاصر، إذ أن أمريكا في زمن النبي موسى لم تكن لها الكلمة العليا في العالم كهذه الأيام، خاصةً مع إيجاد القرينة الدالة وهي ما حدث للهنود الحمر على يد الرجل المسيحي الأبيض في التاريخ المعاصر، من هنا تتضح الإجابة عن السؤالين الثاني والثالث، فالمقصود بقوله: (لستم كأمريكا) اليهود.
أما المقصود بقوله: (لسنا كالهنود الحمر) فالعرب، وهنا تأتي إجابة السؤال الرابع دون كبير عناء، بأنه يقصد اليهود بقوله: (فسوف تهلكون عن آخركم)، ويتضح كل ذلك بجلاء من خلال نصائحه التي قدمها بطريقة التشفي التاريخي لليهود في قوله:
ننصحكم ان تقرأوا
ما جاء في الزبور
نسألكم ان تحملوا توراتكم
وتتبعوا نبيكم للطور
إحالة نزار قباني اليهود لقراءة أحد كتبهم الدينية، ليس هو غايته من النصيحة، بل غايته أن يرجعوا إلى مرجعياتهم الدينية، ليسألوا عن العلاقة بين العرب المسلمين واليهود على أرض فلسطين إبان الفتح الإسلامي أو زمن صلاح الدين، ليعلموا بعدها أن لا استقرار لهم على أرض فلسطين، فمصيرهم إلى خروج.
وأما البيت الأخير فهو إشارة واضحة إلى العهدة العمرية التي ورد فيها نصاً "ألا يساكنهم فيها اليهود".
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فجل الشعراء خلقوا ليكونوا شعراء فقط لا شعراء نقاداً، وهذا لا يعد نقيصة فيهم، بل لعلها ميزة تحسب لهم، فكل ميسّر لما خلق له، وإني لأجزم أن نزار ما خلق ليكون شاعراً ناقداً وإن أبى إلا أن يكون كذلك، فوقع في الخطأ، وكثيراً ما أوقع نفسه في المحظور، إما عن قصد أو غير قصد، وهو يحسب أنه يُحْسِن صنعاً.
من ذلك قوله عن الله جل شأنه: "حين أراد الله أن يتصل بالإنسان لجأ للشعر، إلى النغم المسكوب، والحرف الجميل، والفاصلة الأنيقة، كان بوسعه أن يستعمل سلطته كرب فيقول للإنسان (كن مؤمناً بي... فيكون)، ولكنه لم يفعل، اختار الطريق الأجمل، اختار الأسلوب الأنبل، اختار الشعر.
"واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت
من أهلها مكاناً شرقياً
فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها
روحنا فتمثل لها بشراً سويا
قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت
تقيا
قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك
غلاماً زكيا
قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني
بشر ولم أك بغيا
قال كذلك قال ربك هو عليّ هيّن
ولنجعله آية للناس ورحمة وكان أمراً
مقضياً
فحملته فانتبذت به مكاناً قصيا
فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت
يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسيا
فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل
ربك تحتك سريا
وهزي إليك بجذع النخلة تسّاقط عليك
رطباً جنيا
فكلي واشربي وقري عيناً فأما ترين
من البشر أحدا فقولي إني نذرت
للرحمن صوماً فلن أكلِّم اليوم انسياً
فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد
جئت شيئاً فريا
يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء
وما كانت أمك بغيا
فأشارت إليه، قالوا كيف نكلم من كان
في المهد صبيا
قال إني عبد الله أتاني الكتاب وأوصاني
بالصلاة والزكاة ما دمت حيا
وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيا
والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت
ويوم أبعث حيا".
هذه واحدة من قصائد الله، هل أدلكم على قصائد أخرى؟
إذن افتحوا الأناجيل، واقرأوا المزامير، لترو كيف تسيل حنجرة الله بالشعر، لتروا كيف تشف الكلمة حتى لتكاد تطير، لتروا كيف يجلس الله على مسند الحرف".( )
إن الطريقة والنهج الذي كتب به نزار الآيات السابقة من القران الكريم موحياً بأنه شعر فيه استخفاف كبير لمشاعر المسلمين، ثم هل استحضر نزار المتلقي أثناء كتابة الآيات السابقة التي كتبها بطريقة شعرية، فأبعدها عن نص المصحف، أم أنه استحضر المتلقي ولكنه استخف بدينه وعقله.
وقد رد الله على أمثال نزار ممن قالوا بأن القرآن شعر منذ البعثة المحمدية، فقال عز من قائل: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ.( )
كما أن اتهام الله بأنه شاعر فيه تعدي كبير على عظمة وقدسية الله، قال تعالى في أمثال نزار:  وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.( )
هذا ولم يتورع نزار في جعل كل الكتب السماوية دواوين شعر ليثبت أن الله شاعر ونزار شاعر وإن اختلفت الأغراض الشعرية عند كليهما، ولكن ألا نستطيع أن نقرأ نص نزار قراءة مغايرة تبعده عن دائرة الاتهام السابقة والتي لا تحتاج إلى كبير عناء لاستنطاقها من كل متلقٍ، مهما كانت درجة ثقافته فهو يستطيع أن يقرأ القراءة السابقة نفسها.
إن قول نزار أن الله لجأ للشعر حين أراد أن يتصل بالإنسان لا يقصد به إن القرآن شعراً، فنزار شاعر ويعرف الاختلاف والبون الشاسع والواسع بين كليهما، فالشعر يلزمه البحر والاستهلال والوزن والقافية، وما يطرأ على كل ذلك من زحافات وعلل وغيرها، هذا من ناحية الشكل، أما من ناحية المضمون فإن الشعر العربي ظل حتى العصر الحديث على أيام البارودي وشوقي وحافظ يسير على نفس النهج وإن اختلفت المطالع قليلاً مع العصر العباسي، من ذلك قول أبي نواس ساخراً من المطالع الجاهلية التي دأب الشعراء على تقليدها:
قل لمن يبكي على رسم درس واقفاً ما ضر لو كان جلـس
أتـرك الربـع وسلمى جانباً واصطبح كرخية مثل القبس( )
ويقول مسلم بن الوليد:
شغلـى عن الدار أبكيها وأرثيها إذا خلت من حبيب لي مغانيها
دع الروامس تسفي كلما درجت ترابـها وَدَع الأمطار تبليـها( )
وكذلك يقول ابن الرومي:
طل دمع هريـق بالأطـلال بعـد إقوائها من الحـلال
**** ****
أي حـق لها فيـرعاه راعٍ من نوال لأهلها ووصـال
فانصرافاً عن الوقوف عليها إنها من مواقف الضـلال( )
فهل كان الشعراء الأقدمون أكثر منا جرأة في التعبير عن آرائهم؟ كما أن المديح الذي ساقه نزار للقران الكريم بقوله: "لجأ للشعر، إلى النغم المسكوب، والحرف الجميل، والفاصلة الأنيقة"، يبعده عن دائرة الشك، فليس من المنطق بعد هذا المديح كله أن نتهمه بالكفر كما فعل الكثير.
أليس الذين اتهموه بالكفر خليق بهم أن يتأنوا في إصدار أحكامهم؟ وأن من حق نزار أن يرد عليهم التهمة بأنهم جهلاء؟.
إن تقطيع الآيات السابقة على نحو ما مر بنا يجعلنا نقول مطمئنين أنه لم يقطعها على أنها شعر، بل أراد أن يظهر كل آية لوحدها، حتى تظهر فيها روعة الأسلوب الذي وصفه بأنه نبيل.
وعن الكتابة على جدران المعابد يقول نزار: "القصائد المحفورة على جدران المعابد في ذرى التبت، في مجاهل الصين، في صوامع الأقصر، في هياكل أثينا، وفي أديرة الشاطئ الفينيقي، تشير إلى قدرة الشعر على فتح أبواب السماء".( )
ولو عدنا إلى الدراسة القشرية التي تنظر إلى القشرة ولا تتمعن في اللب نقول إن تحمس نزار أعماه عن أي حقيقة بقوله إن الكتابات التي صاغها الإنسان ليمجد بها أوثانه في أصقاع الدنيا صيغت شعراً ليساوي بذلك بين الكتب السماوية وكلام البشر وإلا فما علاقة أبواب السماء بتعاويذ وطقوس وأسجاع من صنع البشر.
ويزيدك عجباً قوله: "ولكن لماذا اذهب بعيداً؟ ألم يكن أجدادنا في بوادي الحجاز يعلقون القصائد على جدران الكعبة على مستوى واحد مع اللاة والعزى فيعبدون اللات مرة ويعبدون الشعر مرات". ( )
وللرد على أصحاب هذه القراءة النصية السطحية, نقول:
أولاً: أليس من السفه تفسير النصوص الأدبية بطريقة بوليسية تبدو وكأنها تهم تلفيقة للإيقاع بالشاعر في الشرك الأمر الذي يضعف الملكة الإبداعية عند الأمم لأن على الشاعر أن يستحضر المتلقي ذا العقل الخامل واللسان الطويل.
ثانياً: كل الأديان على اختلافها تحاول أن تتقرب إلى خالقها بألفاظ يجب أن تكون أرقى من الشعر وإن كانت مهما رقت لا تزيد عن كونها شعراً, وهذا ما يجعل القرآن في مقدمتها لأسلوبه الساحر ولأنه أرقى من كلام البشر لأنه صيغ من رب البشر.
ثالثاً: لم تصلنا القصائد والأشعار التي كان يتقرب بها الشعراء الجاهليون لأوثانهم وبذا فقول نزار جاء من باب التخمين وإن كان بضياع هذه الأشعار قد ضاعت لنا فترة من الفترات المهمة في تاريخ الشعر الجاهلي, ولعلها بسبب سوء فهم للدين الجديد الذي ظُن أنه يعادي كل قيمة معرفية غير إسلامية, وإن كان ضياع هذه الأشعار على أهميته من الناحية التاريخية والفنية لا يعادل ضياع شعر القبائل, وأقصد به الشعر الذي سجلت به القبائل مفاخرها ومآثرها وحروبها وأيامها وفرسانها وسادتها وعاداتها إلى غير ذلك، ولعل ذلك بسبب المفهوم الإسلامي غير الصحيح للذين تآمروا على طمس هذا الشعر وللإيضاح أكثر نقول إن اللغة العربية في جاهليتها لم تكن لغة واحدة, بل كانت لغات عديدة ويطيب للبعض أن يسميها لهجات:
"كانت اللغة العربية لهجات عديدة تختلف باختلاف القبائل والبطون".( )
وإن خالف الجطلاوي في كتابه (الشعر الجاهلي) ذلك, إذ عدها لغات لا لهجات: "ويُسمي القدماء من علماء العربية هذه اللهجات لغات عند دراستها والكلام عليها" .( )
وللحديث بقية ,,,,,,,



#علي_عبد_المطلب_الهوني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- هل يمكن أن يعتقل فعلا؟ غالانت يزور واشنطن بعد إصدار -الجنائي ...
- هيت .. إحدى أقدم المدن المأهولة في العالم
- ما هي حركة -حباد- التي قتل مبعوثها في الإمارات؟
- محمد صلاح -محبط- بسبب عدم تلقي عرض من ليفربول ويعلن أن -الرح ...
- إيران تنفي مسؤوليتها عن مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات
- سيدة من بين 10 نساء تتعرض للعنف في بلجيكا
- الدوري الإنكليزي: ثنائية محمد صلاح تبعد ليفربول في الصدارة
- تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية وقتال عنيف ...
- هل باتت الحكومة الفرنسية على وشك السقوط؟
- نتنياهو يوافق مبدئيا على وقف إطلاق النار مع لبنان.. هل تصعيد ...


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - علي عبد المطلب الهوني - (ديناميكية الحوار بين السطح والأعماق (الجزء الأول