|
في الرملة سيفرحون بنجاح حمدي
جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 4467 - 2014 / 5 / 29 - 10:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"سمعت أنك ستزور أبو حمدي غدًا، فرجائي أن تنقل له سلامنا جميعًا وطمئنه عنّا، نحن بخير ومشتاقون له، بلّغه أن "حمدي" أنهى جميع امتحاناته وهو الأول في صفّه، بيرفع الراس فليفرح له وبه، لا تنسى ذلك يا أستاذ".. تنهي أم حمدي محادثتها وتحمّلني ذلك الشوق والبشرى أمانات، لأعود أنا إلى قلمي ليستذكر ولينزف. أوصلني سجّان من بوابة السجن الرئيسية إلى غرفة صغيرة، هي مكاتب التسجيل في سجن "أيلون" في الرملة. لا جديد في هذه الغرفة التي يذكّر كل شيء فيها بالبؤس. طاولتان من خشب رخيص قديم وحيطان متعبة لونها كلون الجراد. وراء الطاولة التي في الصدر ينكب "طارق"، سجّان عرفته منذ سنوات بعيدة على دفتر من ورق مجدول وله هوامش، عيناه مغروزتان فيه، وبقلمه الذي يحرّكه كطالب في الصف الأول، يملأه بملل، وأفأفة واضحة، شعره كان كثير اللمعان، لم أتحقق إن كان ذلك من فعل "جيل" مرّغه للزينة أو من كثرة عرق، في لحظة دخولي رفع عينيه ورحب بي بحيادية مصطنعة. تبادلنا بعض الجمل وشرحًا عن أسباب غيابي لأكثر من عقد، ففي هذه السنوات لم يحتجز هناك أسرى فلسطينيون أمنيون. نقل "طارق" أسماء الأسرى الذين طلبت زيارتهم وشدّد على من يتلقى القائمة في الطرف الآخر للهاتف، أنهم إداريون مضربون عن الطعام. على يساره يجلس سجّان أسمر، شعره مقصوص على قالب "كاظم"، خدّاه أسيلان وعيناه توعزان بجدّية شاب راض بوظيفته، صدره مدفوع ويعلن: عاش السجن. عرّفني على نفسه فتبيّن أنه قريب لصديق لي منذ كنا طلّابًا في الجامعة. مازحًا توعدّت أن أشكوه لقريبه إذا لم يحسن معاملتي فحظيت بابتسامة عريضة على وجهه، لم ترحني. تركتهما في الغرفة وخطوت إلى الخلف لأقف قريبًا من مدخلها وعلى طرف ما يشبه الساحة. أمامي حركة يقظة لأفواج من بشر يتحركون كدمى تعمل على بطّاريات مستعملة. صراخ ينداح مثل الرعد من جميع الجهات، بعض مصادره تأتي من وراء قضبان تشابكت على شبابيك تخفي غرفًا معتمة وراءها. سجناء يلبسون البرتقالي، مكبّلون في الأرجل والأيادي ويمشون ما بين " القفقزة" و"الشحشطة"، رؤوسهم "تتقمّع" كبنادل لساعة حائط قديمة، يحرسهم سجّانون يلبسون ثيابًا يصعب تحديد لونها، لكنّها عابسة قاتمةً، تميل الى لون خوخة بدأت تتخمّر، وبعضها يبدو بلون الطحالب عند أقدام ساقية. أحاول أن أفهم من أين يأتي الصراخ وعلى ماذا؟ لكنني كنت وحيدًا في هذا الهمّ، فالكل هناك يسمع والكل يطنّش، لقد ربّوا أذانًا لها مصافٍ ومغالق. فجأة يمد أحدهم يده ويشير باتجاه الأرض، قريبًا من قدمي ويصيح : "إنّه جرذون ..جرذون كبير"، لم يكترث معظم من كان في الساحة، واستمروا بحركتهم، البعض بدأ يضحك. نظرت للأسفل، فبدا الجرذ تائهًا مذعورًا؛ مدّ رأسه إلى الأمام فصار يشبه خنزيرًا بريًا صغيرًا، يغرز رجليه الخلفيتين ويدفعهما بقوة ملتصقًا بالأرض وكأنه سيارة سباق عجيبة. بلحظة غاب عن أنظاري. "عادي"، قالها أحد السجانين الذي كان بجانبي في الساحة ودخل مسرعًا إلى المطبخ. عدت إلى الغرفة الصغيرة حيث نادي وطارق ما زالا يمارسان الملل. بعد ساعة قضيتها في ساحة العجب أدخلني صديقي السجّان إلى غرفة الزيارة حيث بدأت رحلتي مع الوجع وفي عالم كلّه بشر وحقيقة، حنين وأمل يتجدد. زرت ثلاثة من الأسرى المضربين عن الطعام منذ أكثر من شهر اعتمدوا فيه على شرب الماء فقط. بدوا في حالة ضعف مقلقة، على وجوههم صفرة تكلّل بريق عيونهم المتَّقد من حب وشوق. تحدّثنا طويلًا وأكدوا أنهم سيمضون حتى نهاية الطريق فلقد عافوا المذلة وانتظار "الرحمة " ويعرفون أن فاقد الشيء لا يعطيه. والأهم أنهم أهابوا بأحرار العالم ليقفوا معهم ويعلوا صوتهم من أجل الكرامة الإنسانية والحرية وصرخوا لأبناء شعبهم عاتبين بأن "اتحدوا وراء راية فلسطين واتركوا الرايات المفرّقة، فالزمن يستصرخ الوحدة والصوت يجب أن يردد ما قاله الحادي؛ لا وقت للأخضر يناطح، ليغلب في الساحات الأصفر أو الأحمر، فهل كان للحرّية لون إلا لون الروح والنفس". سجّلت ما قالوه بدقة وألم، وسجّلت أن محمودًا قضى ثلاثة عشر عامًا في السجن الإداري، عاش منها حرًا ثمانية وعشرين شهرًا فقط. استطاع أن يخطب شريكة حياته المختارة في العام 2001، واستطاع أن يتزوّجها فقط في العام 2005. ولد بكره "حمدي" في تموز من عام 2006، بعد ولادته بثلاثين يومًا اعتقلوه مرّة أخرى إداريًا. ولد ابنه الثاني "حسام الدين" في كانون الثاني من عام 2010 وكان محمود في السجن لأنهم اعتقلوه إداريًا قبل ولادته. وأمّا "عمر" ابنه الثالث، فولد يوم 2014/2/13، ومرّةً أخرى كان محمود في السجن فهو معتقل منذ 2014/2/2 حيث مازال يكابد هذا العبث. كان محمود شبانة، أبو حمدي، يروي لي قصته بصوت ينتفض إنسانية وشموخًا، وأوصاني أن أنقل للعالم ولأهله حكايات الرملة وأخواتها وكان يصرخ ورفاقه: "هاكم ذروة القمع والبطش فلا تختلفوا على "رابعة" ولا على صورة "مرسي" أو "السيسي"، في فلسطين ما يكفي من ألم وفخر وعزة، وفيها قصص لبشر دفع ويدفع حياته عربونًا لحرّية معطّلة، وفيها ما يشرّف من صور ورموز كي توضع على الصدور نياشين؛ أوقفوا تلك المزاحمات الوهمية، وارفعوا صرخة الوطن في ساحات فلسطين المترددة والمتوجسة". في طريقي إلى خارج السجن رافقني سجّان حاول أن يكون ودودًا. لم أنتبه لحديثه معي وفكّرت بمن تركت خلفي وما رأيت. بدأت أرسم تفاصيل زيارتي القادمة. غدًا سأعود إلى الرملة وسأوصل الأمانات لأصحابها، سأجد البؤس يحتفل في كل زاوية وساحة، إلا على وجوه فرسان الحرّية، سأجد البسمة وفي الحدقات وعود العاصفة. سيلاقونني مؤمنين بأن "البئر أبقى من الرشاء" وسيفرحون بنجاح حمدي الفلسطيني لأنّه وأترابه سيحملون راية المستقبل وشعلة النور، سأخفي عنهم بعضًا من تأتآت ساحات فلسطين لأعود من عندهم محملًا حبًا وعزيمة ورسالة "لحمدي" تقول: من يعش على حب وايمان سينام على ورد ونبض.
#جواد_بولس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أهلًا حزيران
-
عندما يصبح أولمرت خائنًا
-
توفيق زيّاد البعيد القريب
-
الشعب لا يريد- دفع الثمن-
-
التغيير والاصلاح في المحكمة العليا
-
أحبوا بعضكم بعضًا - كانت الوصية -
-
محامون تحت نارين
-
في القدس، ألهوية الزرقاء إن حكت
-
حين نتقاتل على السماء نخسر البلد
-
أعدلٌ وناصرة عليا؟
-
تاريخ أخرس
-
لكُنَّ في آذار السلامة والحب
-
لماذا وُلدّتَ يا عمر ؟
-
ليت الفتى إمرأة
-
لا للتجنيد: صرخة أو صرختان
-
حق إضراب ألأسرى عن الطعام لا يمس
-
بين كيري وقدسنا بندقية
-
ألحريّة لمرّوان البرغوثي
-
عنجهية VIP
-
عند العقدة يبرع النجّار
المزيد.....
-
رغم تحذير الجيش الإسرائيلي.. لبنانيون يبدأون بالعودة لمناطقه
...
-
مسؤول استخباراتي إسرائيلي سابق: وقف إطلاق النار اختبار للبنا
...
-
الداخلية الكويتية تعلن ضبط مواطن ووافد سوري ضمن تشكيل عصابي
...
-
مصر: اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان يجب أن يكون توطئة لوقف إ
...
-
ما هي أبرز بنود اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان؟
-
بسبب تكلفة اختيار المقعد.. شركات طيران تحقق أرباحا بالمليارا
...
-
خبير ألماني: -الإسلامويّون- يفضلون استخدام السكاكين في اعتدا
...
-
تحديد علامة رئيسية للاضطراب النفسي
-
الرقابة الروسية تحذر من خطورة تفشي فيروس -نورو-
-
مسؤول كبير في -حماس-: الحركة مستعدة للتوصل إلى اتفاق بعد -وق
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|