أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نصر حامد أبو زيد - الفـزع من الإسـلام















المزيد.....


الفـزع من الإسـلام


نصر حامد أبو زيد

الحوار المتمدن-العدد: 325 - 2002 / 12 / 2 - 03:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


 

تعلمون أن موضوع "الفزع من الإسلام" يغري إغراء لا يقاوم بتركيز النقد على "الغرب" وعلى إعلامه لما يحرص عليه من إبراز الصورة السلبية للإسلام والمسلمين فقط ، بل لكل ما هو عربي بصفة خاصة. واسمحوا لي أن أصارحكم بأنني أحس أن من الواجب عليّ أن أقاوم هذا الإغراء
 إن "نقد" الموقف الإعلامي الغربي من العرب والمسلمين عموماً هو فرض عين ، ولكن مكانه يجب أن يكون الإعلام الغربي ذاته. أما وأنا أتحدث إلى جمعكم هذا، فمصارحة النفس ونقد الذات أولى بنا. فلا أحب أن ينطبق علينا قول السيد المسيح عليه السلام: "إن أحدكم ليرى القشة في عين أخيه ولا يرى الخشبة في عين نفسه "
 لهذا سأبدأ بالإشارة السريعة إلى وجود قوى اجتماعية وسياسية في العالم الإسلامي تسعى للسلطة مستخدمة فزاعة "الإسلام" ورافعة شعاره
ومن المؤسف أن وصم الإسلام بصفة الإرهاب بدأ هنا في عالمنا العربي: فعل ذلك من يمارسون باسم "الإسلام" وصاية على العقول والقلوب، وفعله بالمثل من أرادوا أن يقاوموا تلك الوصاية بالتهوين من شأن العقائد والأديان في الحياة الاجتماعية والسياسية
 وفي هذا السياق المرتبك اختلط الحابل بالنابل، وصارت المطالبة بالفصل بين "الدين" و"السلطة"-فصل السلطات-تفهم بوصفها دعوة لإقصاء الدين عن الحياة ، وشتان بين الأمرين
 الأخطر من ذلك أنه لم يعد ثمة مجال مفتوح لمناقشات فكرية حرة تتناول تاريخ الفكر الديني تناولاً نقدياً، ولا كيفية تكون مدارسه واتجاهاته في السياق التاريخي والاجتماعي بطريقة تثري واقعنا الفكري المهترئ إلى أبعد الحدود ، خاصة في مجال الأفكار والمفاهيم والتصورات ، حيث تحولت بعض التصورات والأفكار التاريخية للأسف الشديد لثوابت دينية لا يجوز الاقتراب منها. لا أريد أن أفتح الجروح بذكر الأمثلة ، إذ تكفيني في هذا المجال الإشارة
طالت هذه المقدمة، ولكني أراها ضرورية للانتقال لتحليل خوف "الغرب" من الإسلام، راجياً ألا يسقط في هوة المبالغات التي تغري الكثيرين بالسقوط فيها
 لقد أتاحت لي ظروف الإقامة في الغرب خلال السنوات الست الأخيرة القدرة على النظر من بعيد ، وما تفضي إليه من رؤية الصورة كاملة. هذا بالإضافة إلى القدرة على إدراك التفاصيل في هذا "الغرب" الذي يحتويني مكانياً
لذا أجد من الضروري التمييز في "الغرب" بين مفهومين:
 مفهوم "الحضارة" التي ننسبها للغرب
وبين مفهوم "الغرب السياسي"
 يشير المفهوم الأول - الحضارة - إلى مجموعة من المنظومات - لا منظومة واحدة فقط - الفلسفية والفكرية والثقافية والسياسية ، بالإضافة إلى المنظومات - مرة أخرى بصيغة الجمع لا بصيغة المفرد - الجمالية المعمارية والفنية الأدبية
 أما المفهوم الثاني ، مفهوم "الغرب السياسي" ، فيشير إلى مجموعة النظم السياسية والأيديولوجيات الحاكمة في بلدان أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وهي نظم وأيديولوجيات لا تمثل بالضرورة " قيم " " الحضارة الحديثة "، كما أن السياسات التي تتبعها تلك النظم السياسية قد لا تعكس في أدائها وتوجهاتها مقتضيات السلوك الحضاري المثالي
ولا شك أن مواقف "الغرب السياسي" تحكمه علاقات المصالح، التي هي امتداد لمرحلة " الأطماع الاستعمارية " في سياق جديد هو سياق السوق العالمية الموحدة
 يتجلى هذا في عمليات الاعتداء على حدود السيادة الوطنية ، والتي بلغت ذروتها في زرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين ومحاولات تفريغها من أصحابها الأصليين. وما يزال مسلسل الاعتداءات مستمراً ضد شعب العراق وأطفاله. وهذا يعني أن عداءنا لذلك " الغرب السياسي " ليس أمراً نختاره أو نرفضه، بل إن الرفض والإدانة يمثلان أضعف الإيمان في سلوكنا الوطني
 ومن مهام المثقف الوطني ألا يكتفي بإدانة هذا الغرب " السياسي " بكل الوسائل والأدوات المتاحة لديه، ومن خلال كل المنابر الفكرية والثقافية والإعلامية شرقية وغربية، بل عليه أن يعلن وبكل وضوح إدانته لأنظمة الحكم العربية التي تتحمل نفس الدرجة من المسئولية عن هذا الوضع المتردي
 ليس من الحكمة أن نعلق الجرس في رقبة " الغرب السياسي " مبرئين من المسئولية حكامنا الذين يقهرون الشعوب ؛ فيغلقون أبوب التصدي الشعبي للعدوان ومقاومته إغلاقاً تاماً
بعد هذا التوضيح وتحرير المفاهيم والمصطلحات لا أظن أني بحاجة إلى تأكيد أن موقفنا من "الحضارة الحديثة" يجب أن يكون موقف التفاعل النقدي الخلاق. وهو موقف لا يقوم على التعامل معها من منظور براجماتي يعتمد على استيراد المنتج التكنولوجي ، مع تجاهل أساسه العلمي والمعرفي ، كما أنه لا يقوم على استيراد "النظريات" العلمية والمعرفية ومحاولة فرضها بطريقة ميكانيكية آلية في بيئة ومناخ ومجالات مغايرة للبيئات والمجالات التي أنتجتها
لقد تم تطبيق منهج " الاستيراد " خلال عقود طويلة-في القرن التاسع عشر والعشرين-ولم ينجح لا في تأسيس مجتمع علمي، ولا في خلق مناخ للتفكير العلمي. والعلة في تقديري أننا نظرنا إلى تفوق " الغرب " طوال هذين القرنين بوصفه تفوقاً في العلم والتكنولوجيا وحدهما، دون مجال الفكر والفلسفة والثقافة والفنون، أي دون مجال النشاط الروحي الذي تصورنا أن رصيدنا التراثي منه يتفوق على إنجاز الحضارة الحديثة فيه
 وما تزال دعوات "النهوض" و"التقدم" التي تتردد الآن وبقوة تركز على قضايا "العلم" و"التكنولوجيا" بمعزل عن تطوير علومنا الإنسانية بالتفاعل مع إنجازات مناهج الإنسانيات في الحضارة الحديثة
إن الإنسان المنتج للعلم والتكنولوجيا هو الإنسان الذي تم تكوينه معرفياً منذ مرحلة الطفولة بتدريبه على أهمية إثارة الأسئلة ، وتقليب الاحتمالات الممكنة ، والتفكير في الأجوبة قبل اختيار أحدها ، والاستعداد للتخلي عن قناعته إذا ثبت له عدم دقتها
 والأهم من ذلك كله عدم قبول الرأي الشائع دون فحص ونقد. إنه منهج "الشك"، و"المراجعة" ، "وإعادة النظر"، لا منهج "الإيمان" الأعمى و"اليقين" الزائف و"الطاعة" و"التقليد"
كم نحتاج للتعلم؟ سؤال لا ينبغي أن نخجل من إثارته، فلو لم يتعلم "الغرب" ممن سبقوه في مضمار الحضارة ما استطاع أن يكون ما هو عليه الآن
والعجيب أننا، رغم كراهيتنا للغرب السياسي بحكم ممارساته العدوانية ضد مصالح شعوبنا، مشغولون دائماً أشد الانشغال بصورتنا في عيون إعلام هذا الغرب. وهذا أمر يصيبني بدهشة تصل أحياناً إلى حد "السخرية"، إذ يجب أن يكون شاغلنا الأساسي وهمنا الأول تكوين صورة صحيحة عن أنفسنا وعن أحوالنا
ويثير هذا في نفسي سؤالاً يصعب أن أكتمه: لماذا لا ينشغل الغربيون بصورتهم عندنا، ولا يهتمون قليلاً ولا كثيراً بتصوراتنا عنهم ونظرتنا إليهم؟
أليس في هذا "الوسواس" داخلنا ما يعد عرضاً من أعراض مرض عضال ، لا أدري له اسماً في "علم النفس الاجتماعي"؟
إننا مثل الحبيب "المهجور" المشغول أبداً بما يفكر فيه الحبيب الذي هجره، وهي صورة تمثيلية تشخص إشكالية علاقتنا التاريخية بالغرب في القرنين الأخيرين: إنه المعلم المتقدم الذي يتحتم أن نتعلم منه من جهة، وهو كذلك العدو المعتدي الغاشم الذي يتحتم أن نحاربه بنفس سلاحه، من جهة أخرى
لقد وصلت نظرية "المؤامرة" إلى حد أن صارت "المفسرة" التي تحمي الذات من تحمل أية مسئولية بإلقاء التبعة كلها على الآخر، فتم تصوير الغرب باحثاً عن عدو استراتيجي "بديل عن الشيوعية، فوجد عدوه هذا في "الإسلام
 والحقيقة أن نظرة الغرب للإسلام ليست نظرة استاتيكية جامدة كما يتوهم البعض؛ فهناك من جهة أولى الاختلاف بين النظرة "الأوروبية" في مجملها وبين النظرة "الأمريكية" للإسلام
بدأ الاهتمام الأمريكي السياسي الإعلامي بالإسلام مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وما قارنه من احتلال السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز عدد من الرهائن، وفشل المحاولات العسكرية الأمريكية لتخليص الرهائن وتحرير السفارة
 لذلك من السهل أن يلاحظ الباحث أن الهاجس السياسي هو العامل المسيطر على الرؤية الأمريكية للإسلام، وهو الهاجس الذي أثمر نظرية "صدام الحضارات"، وهي نظرية انزعجت منها الدوائر الأوروبية بنفس القدر الذي أزعج المسلمين مع اختلاف أسباب الانزعاج
 هذا الهاجس السياسي يجعل السياسة الأمريكية لا تهتم كثيراً بطبيعة الأزمة التي تتعامل معها وتساندها، مهما كانت راديكاليتها الإسلامية، ما دامت لا تهدد مصالحها
ولا بأس في هذه السياسة من التعاون مع "عمر عبد الرحمن" أو "أسامة بن لادن" أو غيرهما من القيادات في لحظات معينة، ثم طلب "الرقاب"-حياً أو ميتاً-في لحظة أخرى
 وفي جميع اللحظات يبقى خط الاتصال مفتوحاً مع بعض القيادات والتنظيمات تحسباً لاحتمالات مفاجئة مهما كانت مستبعدة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقوم الاتصال المفتوح هذا-بين دوائر صنع القرار في أمريكا وبين القيادات الإسلامية الراديكالية، بل الإرهابية-بدور الفزاعة لتهديد الأنظمة السياسية في العالمين العربي والإسلامي لضمان استمرار سيرها على النظام الأمريكي المستقيم
أما نظرة "أوروبا" للإسلام فهي، وإن بدأت سياسة استعمارية منذ الحروب الصليبية، قد بدأت تتخذ الآن مسارات متعددة إعلامياً وسياسياً وأكاديمياً
 من الناحية الإعلامية من الضروري ألا ننسى أن الإعلام، مرئياً كان أم مسموعاً أم مقروءاً، أكثر اهتماماً بالرجل الذي "يعقر" الكلب منه بالكلب الذي يعقر الرجل. لهذا يجب أن نتفهم أن "قنبلة" تنفجر، أو "سائحاً" يُقتل أو "قبطياً" يهاجم، أو "طفلة" تختن، أو حكماً قضائياً يصدر ضد كاتب أو فنان، أمر يثير شهية الإعلام في كل مكان للتحليل والتعليق واستدعاء الخبراء للإدلاء بآرائهم.. إلخ
 هناك بالقطع مبالغات وتضخيم في عرض الحدث أو الواقعة، لكن أصل الحدث أو الواقعة من صنعنا نحن، ومن نتاج واقع لا نتأمله تأملاً نقدياً كافياً. الصورة الإعلامية، المبالغ في لإضافة الرتوش اللونية لها، ليست في نهاية المطاف اختلافاً من عدم
 هل يمكن أن يتحمل المسئولية كاملة ناقل الخبر، مهما بالغ في تصويره وإبراز جوانبه السلبية وتضخيمها، دون الفاعل الأصلي والمجرم الحقيقي؟ هل صنع الإعلام الغربي كل هذا الجنون والحماقات التي تمارسها "طالبان" ضد المرأة والفنون باسم الإسلام ؟
هذا عن الإعلام الغربي، فإذا انتقلنا للسياسة ، فعلينا أن ندرك أن النظرة السياسية الأوروبية للإسلام تختلف من بلد إلى بلد، خاصة في سياق تزايد أعداد المهاجرين المسلمين لأسباب متباينة في بلدان أوروبا
 هناك "مخاوف" بعضها مشروع وبعضها مبالغ فيه (فرنسا وألمانيا على سبيل المثال)، كما هناك محاولات للفهم الهادئ والتعامل مع الحقائق هولندا وإنجلترا مؤخراً
 أما النظرة الأكاديمية في المؤسسات والجامعات الأوروبية فهي في مجملها تقدم خدمة للإسلام وتاريخه وتراثه تستحق لا التقدير والاحترام فقط، بل تستدعي التعاون بإرسال المبعوثين وتبادل الأساتذة
 هل أقول إن مؤسساتنا العلمية تحتاج في مجال الدراسات الإسلامية إلى أن تعود إلى تقاليدها في بداية هذا القرن، الذي شهد تفاعلاً أنتج لنا علماء من طراز "مصطفى عبد الرازق" و"أمين الخولي" و"شلتوت" و"دراز" و"عبد الحليم محمود"، وهو القرن الذي شهد ترجمات لأهم أعمال المستشرقين في مجال الدراسات الإسلامية، فضلاً عن مشروع ترجمة "الموسوعة الإسلامية" عما قريب ستصدر الموسوعة القرآنية أيضاً، وفي مجلس تحريرها ثلاثة من المتخصصين العرب، منهم كاتب هذه السطور، فهل تترجم أم تهمل كما أهملت الطبعة الحديثة من " الموسوعة الإسلامية "
ليس معنى ما أقول إن "التعصب"، الذي حلله تحليلاً علمياً رصيناً "إدوارد سعيد" في كتبه العديدة، قد صارت من تراث الماضي
 فما يزال التعصب يحتل مساحات في المؤسسات الأكاديمية والإعلامية وفي دوائر صنع القرار. لكن علينا أن نقرر بشجاعة أن "التعصب" سمة مشتركة بيننا وبينهم. على المستوى الفكري دافع رجال الدين عندنا-الإسلامي والمسيحي معاً-عن الاضطهاد الذي تعرض له المفكر الفرنسي "روجيه جارودي" حيث حاكمته المحاكم الفرنسية بسبب كتاب أصدره. إزاء هذه المحاكمة نهض رجال الدين عندنا دفاعاً عن حرية الفكر والتعبير، والمفارقة أنهم في أحسن أحوالهم صامتون صمت الموت إذا كان مثل ذلك يحدث عندنا. نفس المفارقة لمستها هنا في الدوائر الأكاديمية الغربية، صمت غير حكيم إزاء محاكمة جارودي وصخب غير عادي إزاء "مصادرة" كتاب أو أغنية أو محاكمة كاتب في العالم الإسلامي
 وحين اقترحت على الزملاء في "جامعة ليدن" أن تقون بتنظيم "ندوة حوار" ندعو إليها كلاً من "جارودي" و"إدوارد سعيد" وأحد حاخامات اليهود الهولنديين لم يجد اقتراحي آذاناً مصغية. همس بعض الزملاء أن ذلك قد يحدث رد فعل شعبي جماهيري لا تحتمل عواقبه ضد الجامعة
 لم أتردد أن أقول: عليكم إذن أن تتواضعوا في الادعاء بأن "الحرية" الأكاديمية في الغرب أحسن حالاً منها في العالم الإسلامي
ومن واجبي أيضاً أن أنبه من خلال منبركم هذا أن نقد الغرب لا يجب أن أبداً أن يكون تكئة لتبرئة الذات وتمجيدها تمجيداً زائفاً. كما هو الحال في خطابنا الإعلامي. واسمحوا لي أن أختم مشاركتي-التي طالت أكثر مما أريد-ببيان ما أتصوره أهمية أن تتصدى الأديان جميعاً لمواجهة خطر الدين الجديد المسمى - عولمة
إن وصف قوانين السوق في إطار "العولمة" بأنها قوانين يفرضها إله جديد اسمه "السوق" ليس مجرد تعبير مجازي من صياغتي الشخصية، بقدر ما هو "وصف" كاشف للمستور والمسكوت عنه في خطاب "العولمة" السياسي والثقافي
 في الخطاب السياسي بشرنا البعض-أعني فوكوياما- بنهاية التاريخ وانتهاء عصر الأيديولوجيات. ومفهوم "نهاية التاريخ" مفهوم ديني بامتياز؛ بمعنى أن كل الأديان في مرحلة انبثاقها على الأقل تنطلق من الزعم بأنها البشارة الأخيرة بخلاص البشر من عذابهم ومعاناتهم
 هكذا يبشرنا "فوكوياما" أن التاريخ قد وصل إلى رحلته الأخيرة واستقر، لم يعد أمام البشر-كل البشر-من سبيل إلا الراحة في جنة "الرأسمالية" والتمتع بنعيم "الديموقراطية" "على النمط "الأمريكي
 لكن بشارة "فوكوياما" ظلت في إطار "الأيديولوجيا" ولم ترق أبداً إلى مستوى "اليوتوبيا" الدينية، وما يرتبط بها من مفاهيم مثل اقتراب يوم "الدينونة والحساب"، الذي فيه يتحقق العدل المطلق تعويضاً لمن أصابهم الضيم والظلم في هذه الحياة
 ليس في دين "العولمة" تعويض قادم في عالم آخر، ليس فيه أي عزاء ولو محتملاً للضعفاء والمنكسرين. ولأن "الأيديولوجيا" لا تكف عن إعادة إنتاج نفسها فقد تطورت "بشارة" فوكوياما، التي تبدو على السطح متفائلة، إلى "نبوءة" سوداوية متشائمة عند "هنتنجتون" في مفهوم "صراع الحضارات". لكن أية حضارات تلك التي تنبأ "هنتنجتون" أن الصراع بينها سيكون سمة القرن لحادي والعشرين؟ إنها كل الحضارات القديمة التي حلت محلها حضارة "الغرب" الحديثة ، إنها حضارات "آسيا"-الصين واليابان على وجه الخصوص-و"إفريقيا" و"الإسلام" تحديداً
 لم يقل "هنتنجتون" شيئاً عن "الأصولية المسيحية" في أمريكا نفسها، ولم يذكر كلمة واحدة عن "الأصولية اليهودية" في "إسرائيل" وكلتا الأصوليتين تستعيدان بهاءهما ومجدهما في عداء واضح لقيم "الحداثة" وعلمانيتها. لم يذكر "هنتنجتون" شيئاً من تفاصيل المشهد؛ لأنه كان مشغولاً بأمر واحد محدد، خلق عدو "جديد" يحل محل "الشيطان الأحمر"، وليكن "العدو الجديد" شيطاناً "أصفر" أو "أخضر" أو شيطاناً بلا لون، فالمهم أن يقوم "الشيطان" بدور "القناع" الديني لإبراز وجه "المخلص" الأمريكي خصوصاً و"الغربي" على وجه العموم
هكذا تطرح "العولمة" نفسها سياسياً وثقافياً وحضارياً بوصفها "الدين" الأخير، الدين الذي يمثل فيه "السوق" وشريعته الإله الجديد المسلح بأداة "القوة" التي لا تقهر أبداً، ويستحيل على البشر مقاومتها أو التفكير-مجرد التفكير-في التصدي لجبروتها
 إنها قوة قادرة على كل شيء، فسلاحها المال والعلم والسلاح، إنها القوة التي تنتهك بسهولة فائقة الخصوصيات أدوات هذا الدين للسيطرة هي "حرية التجارة وتدفق المعلومات"، ومواعظه هي: "الديموقراطية" و"حقوق الإنسان" على المقاس الغربي الأمريكي بصفة خاصة
 أليس من الطبيعي، وقد صارت "العولمة" ديناً، أن يسعى البشر لمقاومة هذا "الدين" الجديد، والتصدي للاهوته المضمر، باستدعاء "الدين" في كل الثقافات بلا استثناء، حتى داخل المجتمعات التي صنعت "الحداثة"؟
 أليست الأديان التي جربتها البشرية خيراً ألف مرة من هذا الدين الجديد، دين العولمة؟
إن " آلهة " الأديان التي عرفتها البشرية على امتداد تاريخها الطويل ليست في قسوة وفظاظة إله "العولمة"-السوق-لأنها على الأقل تجمع بين صفات القوة والقسوة و"الجلال" من جهة، وبين صفات "الجمال" والرحمة من جهة أخرى
 وعلى العكس من ذلك ليس في صفات إله العولمة جمال أو رحمة، إنه إله قد من قوانين صارمة صنعها الأقوياء، إنه تجسيد سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي لأسطورة مصاص الدماء "دراكيولا" مع فارق أساسي أن مصاص الدماء في الأسطورة لا ينشط إلا ليلاً ليتصيد ضحاياه، بينما إله العولمة نشط أبداً على مدى الأربع والعشرين ساعة "الكونية"، حيث لا تمييز بين ليل أو نهار أو بين نوم أو يقظة. فارق أخير لابد من "الإشارة إليه بين إله الأسطورة - مصاص الدماء - وبين مصاص الدماء العيني إله السوق "
 كان مجرد تركيز حزمة من الضوء أو رفع علامة "الصليب" كافياً لدفع مصاص الدماء في الأسطورة للهرب. ولم يكن قتله يحتاج لأكثر من دق وتد خشبي في صدره. مصاص "العولمة" على الجانب الآخر، لا تخيفه كل أضواء العالم ولا تصيبه كل الصلبان بدوار ولو خفيفاً
لقد استوعب مصاص الدماء الجديد تجربة سلفه في الأسطورة، فصار هو صانع الأنوار ومنتج الصلبان فكيف يخاف منها؟
أكثر من ذلك أنه-إله العولمة-مثل سلفه قادر على إعادة إنتاج نفسه في أشكال وصيغ وملامح لا تخلو من جاذبية. إنه "شيطان" لا تؤثر فيه التراتيل ولا عبارات الاستعاذة ولا الآيات القرآنية. وهكذا تصبح دعوات "العودة إلى الدين" في كل الثقافات-مسيحية ويهودية وإسلامية وبوذية وكنفوشيوسية .. إلخ أشبه بمحاولات استخدام "لصليب" أو تلاوة "التعاويذ" لمقاومة شر الشيطان الجديد، إله العولمة
 إنها أسلحة قديمة تحصن الإله الجديد ضدها مستوعباً إياها في بنية لاهوته. ليس معنى ذلك أنه لا سبيل لمناجزة الشيطان بأسلحة دينية، بل إن سبيل المنازلة الممكن لا يكفي فيه استخدام الأسلحة الدينية التقليدية، بل لابد من شحذ أسلحة دينية لم يتحصن ضدها " إله العولمة " بعد
لا ينبغي أن ننخدع بالتطابق الذي سربه "هنتنجتون"في خطابه بين "الأديان" و"الحضارات"، فجعل من كل "دين" حضارة مستقلة متميزة، بهدف إبراز حضارة الغرب، لا بوصفها بناء تركيباً للحضارات الإنسانية، ومجرد محطة من محطاتها
 أراد "هنتنجتون" أن يجعل من حضارة الغرب "نهاية التاريخ"، وأراد أن يجعل من "الثقافات" و"الأديان" التي أصر على اعتبارها حضارات-خطراً على الإنسانية. وحين استبعد من تحليله الأصوليتين المسيحية واليهودية من دائرة "الأديان" الخطرة كشف عن "الأيديولوجيا" الدينية المقنعة بقناع سياسي. لا يختلف خطاب "هنتنجتون" هنا عن خطاب المتعصبين المسلمين إلا في بنيته السطحية فقط
ماذا عن خطاب الكنيسة المسيحية الغربية ممثلة في "الفاتيكان"؟ وإلى أي مدى يعتبر خطاب الفاتيكان الديني صدى لخطاب "العولمة" السياسي الثقافي؟
من اللافت للنظر والجدير بالإشارة أن "الفاتيكان" رغم اعترافه منذ الستينيات في وثائقه البابوية الرسمية بالإسلام ديناً إلهياً، فإن الاعتراف بنبوة "محمد" أمر غائب تماماً، لا يكاد اسم "محمد" عليه السلام يذكر في الوثائق الرسمية للفاتيكان ولا في الخطب البابوية الكثيرة
 تعترف "المسيحية" باليهودية وتعترف بالقطع بنبوة "موسى" عليه السلام، وهذا أمر تفرضه حقائق التاريخ الديني. ومن الطبيعي كذلك وقد اندمجت التوراة والأناجيل في بنية "الكتاب المقدس" أن تصبح اليهودية جزءاً من التراث المسيحي. وهو "اندماج" من طرف واحد، أي أن اليهودية لا تقر بالمسيحية ديناً ولا تعترف بنبوة عيسى عليه السلام
الإسلام هو الدين الجامع، أي الدين الذي لا يستبعد أياً من اليهودية أو المسيحية، ويقر بنبوة "موسى" و"عيسى" عليهما السلام ويعتبر الاعتراف بهما وتوقيرهما واجباً دينياً على كل فرد مسلم. لنعترف إذن أن الدافع ليس تسامح المسلمين بقدر ما هو حقيقة أن الإسلام هو الدين التالي زمانياً، وهو "خاتم" الأديان؟
ورغم كل الصياغات النبيلة لحوار الأديان وحوار الحضارات، فعلينا من منظور لاهوتي/ سياسي ألا نتوقع من "الفاتيكان" أن يتعامل مع "الإسلام" كما يتعامل مع "اليهودية"، ولا يجب أن تصيبنا حالة من "الفزع" حين يعتذر الفاتيكان لليهود عن الاضطهاد الذي أصابهم ولا يعتذر للمسلمين عن جرائم " الحروب الصليبية "
 إن الاعتراف الكامل بالإسلام ديناً وبمحمد عليه السلام نبياً يهدم البناء اللاهوتي للكنيسة من أساسه، هذا هو السبب "الكامن" وراء ما يبدو انحيازاً غير مفهوم ضد الإسلام والمسلمين
 لكن علينا ألا نفصل "اللاهوت" عن السياسة والاقتصاد، أي عن التاريخ والمصالح. من منطلق هذا التاريخ وعلى أرض المصالح أمكن للفاتيكان أن يميز بين يهود اليوم ويهود الناصرة زمن المسيح عليه السلام وأصدر وثيقته بذلك
 لكنه ومن على أرض المصالح، التي تجمع تاريخ الكنيسة والفاتيكان بتاريخ الاستعمار منذ القرن الثامن عشر، لم يفصل بين يهود "اليوم" ويهود التاريخ، فأصبح الحق التاريخي لليهود في فلسطين عامة وفي "القدس" خاصة قضية مسلماً بها
 هل نطالب "الفاتيكان" بالاتساق مع نفسه، فإما أن يلغي وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح، وإما أن يعلن يهود اليوم-الذين لم يقتلوا المسيح-لا حق تاريخياً لهم ولا حق سياسياً ولا دينياً في فلسطين ولا في القدس؟
هل يمكن الآن أن نفهم أن للانحياز ضد المسلمين والعرب أسباباً أعمق من مجرد "الخوف من الإسلام"؟
وهل آن الأوان أن ندرك أن "الفزع من الإسلام" حالة منشؤها العالم الإسلامي في ارتباكه التاريخي، لكنها حالة أعطت مبرراً ليصوغ للغرب السياسي والإعلامي من خلال النفخ فيها بالتهويل والمبالغة أيديولوجية لتمرير دين العولمة بمباركة الكنيسة والفاتيكان. في هذا الدين الجديد تحتل المسيحية الصهيونية موقعاً ممتازاً
 وفي القلب من هذا الموقع تصبح الدولة الصهيونية-دولة الاستعمار الاستيطاني-طفل العالم المدلل
هل يصلح إسلام الأحكام العسكرية-إسلام قانون العقوبات و"الحدود" ومطاردة العقل واضطهاد المرأة والخوف من التساؤل-لمواجهة تلك الأخطار؟ سؤال لابد من طرحه في نهاية مداخلتي
 أرجو لكم التوفيق والنجاح من أعماق قلبي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته




#نصر_حامد_أبو_زيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القرآن نص تاريخي وثقافي
- النقد والنقض في حرب الكراهية بين الإسلام والغرب


المزيد.....




- وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور ...
- بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
- ” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس ...
- قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل ...
- نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب ...
- اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو ...
- الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
- صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
- بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021 ...
- كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نصر حامد أبو زيد - الفـزع من الإسـلام