سامي العباس
الحوار المتمدن-العدد: 1263 - 2005 / 7 / 22 - 03:46
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
أفضى حل أزمة التوسع الرأسمالي في سورية الخمسينات بالانتقال إلى رأسمالية الدولة إلى أزمة جديدة بعد مرور ما يقارب نص قرن على هذا الحل ومثلما أدى انحباس الرسملة داخل المدن منتصف القرن الماضي على، خلفية عدم حل المسألة الزراعية إلى بطالة متفاقمة ،تؤدي الازمة الراهنة لنظام رأسمالية الدولة إلى بطالة تقترب بالتدريج من لحظة الانفجار الاجتماعي ، يكون العنف فيه وسيلة للحل الذي يتعذر الوصول إليه بالسياسة. أي أن الازمة الاقتصادية الاجتماعية الراهنة وهي أزمة توسع نمط الإنتاج الرأسمالي المتجددة مرة ثانية ، تبحث عن حل لها في السياسة قبل أن يصبح العنف ممرا إجباريا إلى الحل .
مثّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّل تدخل الجيش في الخمسينات مثالا على ما يفضي إليه العجز عن الحل بالسياسة. وتشكل تجربة اكرم الحوراني " منظم الانقلابات والزعيم البرلماني" مثالا على ازدواجية الخيارات المطروحة لحل الازمة .
ان عناد ملاك الأرض " شركاء البرجوازية السورية في النظام البرلماني" أفضى بالتدريج إلى غلبة الحل بواسطة مؤسسة العنف " الجيش"على الحل السياسي. بدليل أن إدراج حل المسالة الزراعية في برنامج حزب اكرم الحوراني هو الذي أوصله إلى البرلمان بكل هذا الزخم في غضون عقد من النضال السياسي الحزبي. وكان ظهور اكرم الحوراني في مدينة حماه تعبيرا عن وصول الازمة إلى درجة الغليان في المناطق التي شكلت فيها الأرستقراطية العقارية أعلى درجة تمركز في سورية . أي أن الحوراني وليد حالة من الاستقطاب هي أيضا وليدة انحباس عملية نزع الطابع الإقطاعي للعلاقات السائدة في الريف، و فتح الطريق أمام تمدد علاقات الانتاج الرأسمالي إليه .
و كانت الهوية الاجتماعية للحوراني تشير إلى إحدى ممكنات تحالف كل من البرجوازية و الفلاحين لتصفية علاقات الإنتاج الإقطاعية على غير ما شهدته الثورة البرجوازية الفرنسية.
إلا أن عاملا آخر اشتغل على خطوط الأزمة هو موقف الأنتلجنيسا السورية المتأثرة بعمق بالفكر الاشتراكي ووعود العدالة الاجتماعية التي يستنبطها هذا الخطاب ...
و قد ساهم الطابع اللينيني للأحزاب - التي بدأت الأزمة الاقتصادية الاجتماعية تعبر عن نفسها في إطاره- في دفع خيار الحل داخل المشروع الليبرالي إلى عنق الزجاجة ...
إن أزمة التوسع الرأسمالي في منتصف القرن الماضي تحولت بمساهمة الأنتلجينسيا, إلى أزمة لكامل المشروع الليبرالي بعد أن استولى على هذه الأنتلجينسياالوهم اللينيني ( إمكانية إنجاز الثورة المركبة) أي الثورة الديموقراطية بآفاق اشتراكية ... والملفت للنظر أن هذه الفكرة اللينينية قد وجدت موطئ قدم لها أولا,لا في أوساط الحركة الشيوعية العربية المرتبطة بموسكو كما يقتضي المنطق ‘ بل إن التعبيرات الأولى المبكرة عن هذه الفكرة اللينينية سنجدها أوائل ستينات القرن الماضي في المنطلقات النظرية لحزب البعث العربي الاشتراكي التي تولى صياغتها الراحل ياسين الحافظ .
و كان عليها – الفكرة - أن تنتظر إلى سبعينات القرن ليعطيها الراحل أيضا مهدي عامل مسحة لاهوتية لينينية صارمة(1) .. و تكشف شهادة للدكتور وهيب الغانم.. أن مؤسسي البعث عفلق و البيطار قصداه في اللاذقية بداية العام 1947 . و خلال الزيارة تبين له أن " البيطار على وجه الخصوص كان يعارض بشدة الأفكار الاشتراكية مؤكدا على أن البعث ينبغي أن يكون قوميا فقط. و بعد مناقشات استمرت أربعين ساعة كان عفلق هو البادئ بتقبل هذه الأفكار رغبة منه في إنشاء حزب موحد و هكذا أمكن للمؤتمر التأسيسي للحزب أن ينعقد في نيسان 1947 " (2)
تكشف هذه الشهادة أن خطاب العدالة الاجتماعية المتضمن في الخطاب الاشتراكي قد وجد أذنا صاغية لدى الجناح الريفي من الأنتلجينسيا السورية . و هو الجناح الذي التقط أولا خيط الازمة المفضي إلى عقدة المسألة الزراعية المتروكة بلا حل في برنامج حزبي البرجوازية السورية الكبيرين( الشعب و الوطني) آنذاك .
و تكشف أيضا و على نحو مبكر إرهاصات الانشقاقات المتلاحقة بعد صعود الحزب للسلطة و مباشرته وضع تصوراته موضع التنفيذ . كان نزع الطابع المديني عن الحزب هو الشكل الذي اتخذته عملية إقصاء الخطاب الليبرالي, الذي يعبر عن حضور مازال واضحا لبرجوازية المدن الكبرى دمشق حلب حمص داخل الأطر السياسية الفاعلة للحزب, و كان حزبيو الجيش الذين ثقل حضورهم السياسي بفعل دورهم الرئيسي في إيصال الحزب للسلطة ، هم ديناموا هذه الإنشقاقات التي عشقت آلياتها مع آليات الانقسامات العمودية للمجتمع السوري. بمعنى أن إقصاء الجناح المديني في إطار الصراع ريف / مدينة كان بالمحصلةا خلالا في التوازن الديني و المذهبي للحزب نظرا للطابع السني للمدينة تاريخيا. و كان هذا الانشقاق نقطة بدء سيرورة أفضت إلى تحالف مؤقت للأقليات في مواجهة الطائفة الأكبر تمهيدا لانفراد أقلية بالسلطة . ولعل السيرورتين المقلوبتي النتائج طائفيا في كل من سورية و العراق, و هما البلدان اللذان استطاع االبعث الاستيلاء على السلطة فيهما ‘ هي تأكيد على المنطق الواحد لكليهما و الذي هو محصلة لتراكب الجدليات الاقتصاديةـ الاجتماعية ذات الطبيعة الأفقية مع الجدليات الثقافية ذات الطبيعية العمودية .
إن دور الأنتلجنيسيا في هذا الخيار "حل المسألة الزراعية خارج إطار المشروع اللبرالي للبرجوازية السورية "كان دورا مركزيا . لقد لعبت الفئات المتعلمة دورا محوريا في صياغة الأيديولوجية النضالية لهذه العملية . ولاحقا صبغ هذا النوع من الوعي المتشكل على هامش المثاقفة مع المعسكر الاشتراكي بعد إغلاق صنابير المثاقفة الأخرى كامل الأفق الفكري لليسار القومي والاشتراكي . وهو ما تكشفه الأزمة المستجدة .لقد أدى رفع الغطاء قليلا- عن طنجرة الضغط التي حبست فيها أنظمة رأسمالية الدولة الحريات السياسية- إلى رؤية حجم التشوهات التي لحقت بالنخب السياسية والفكرية جراء العمل تحت إكراهات الشروط السائدة داخل طنجرة البخار . ولعل جردة بهذه التشوهات تضيء الجانب المتعلق بدور الوعي في عملية التحول التاريخي الجارية.. حيث يصبح هذا الوعي جزأ من الأزمة لا مشاركا في تخطيها .
أولا :تكلس الوعي : وهي ظاهرة دفاعية تهدف لحماية الجهاز المفهومي لهذا الخطاب الفكري ـ السياسي أو ذاك من التحلل والذوبان بفعل الضغط الهائل للإكراهات والمغريات .
ثانيا ـالجمود العقائدي : وهو خطوة أخرى في استراتيجية الدفاع السلبي ,تهدف إلى تقنين تبديد الطاقة التي لابد أن تنشأ عن العمليات الحيوية مع الوسط الخارجي . فاستمرار الانفتاح على المختلف هو في ظل هذه الشروط تبديد للطاقة لا تتحمله إستراتيجية البقاء لأطول فترة ممكنة ..
ثالثا الصرامة العقلية: وهي نتاج لهذا الاقتصاد والتقنين في الطاقة . إذ أن عدم رؤية أو عدم الرغبة في رؤية الحلول خارج الحقل النظري أو رؤية وجود عدة حلول داخل الحقل النظري الواحد هي تحصيل حاصل لنقص في الديناميكية الفكرية ـالسياسية.
رابعا ـالأرثوذكسية: إن اجترار المقولات والمفاهيم بدقة وبإصرار( بغل) يشكل ذائقة عقلية لا تستطيع أن تتحمل مذاقا مختلفا أو تعترف له بحقه في الوجود المختلف, سواء أكان المذاق المختلف أفكارا أو أنماط سلوك أو حتى أطعمة.. إنها أشبه باستيلاء نهائي ومطلق لنتاج عقلي على عقل.هبطت قدراتة النقدية الى الصفر .
خامساـ الانفصام: ففي شروط التكتم الشديد على المعلومات,و تعقيم الحدود الوطنية من ميكروبات المعرفة التي يمكن أن تتسلل داخل الدولة-القلعة . يصبح النشاط الفكري السياسي داخل القلعة أشبه بالتهويم و التأملات على طريقة أنبياء العهد القديم ، حيث المعرفة تتنزل من الملكوت الأعلى على شكل إشراقات عر فانية .
سادسا : التوقف عن النمو : باعتبار المعرفة تراكمية . ففي شروط الدولة – القلعة المغلقة و المعقم غلافها الجوي، تتوقف عملية التراكم و يعيش الوعي حالة تثبت على لحظة إقفال الحدود. إن التمعن في محتوى الخطاب الفكري- السياسي للإنتلجنسيا السورية على سبيل المثال يكشف أن وعيها قد تثبت على خطاب الأيديولوجية النضالية المنتجة في ظروف خمسينيات القرن الماضي, و الذي ساهم في طي المشروع الليبرالي ، ووضع الاشتراكية في أمر اليوم, و أقفل قنوات الحوار الثقافي مع الغرب غير الاشتراكي ، مغلبا داخل وعيه القراءة اللينينية للماركسية ، و هي ماركسية أيديولوجية فاقم من سلبياتها أنها وصلت مقطوعة الجذور عن تربتها الأوروبية ، فبدت كأنها خارجة عن سياقها التاريخي الذي ينغمس في فلسفة عصر الأنوار وصولا إلى عقلانية ابن رشد العابرة للمتوسط و المتصلة بالإتجاهات غير الإشراقية للتفلسف اليوناني .
يقف المثقف السوري أمام سؤال الديموقراطية حائرا، أي الفئات الاجتماعية التي ستنهض بهذا السؤال ؟.. وعيه اللينيني يشده إلى المغامرة مرة أخرى لتركيب مهام مركبة على هذا العاتق أو ذاك ، لهذا الائتلاف الضيق أو العريض من هذا الحطام الطبقي المميز لبلدان العالم الثالث . و هو في مناوراته لتفادي تسمية الأشياء بأسمائها يظن نفسه مخلصا بعمق لوعيه الماركسي ، غافلا عن أن الماركسية في موقفها النقدي من الليبرالية تركز على التخوم النهائية لهذا المشروع لا على خطواته التمهيدية .
و مرة ثانية تقف الأنتلجنسيا السورية حائرة أمام الممكنات المتاحة: استعادة المشروع الليبرالي لبناء دولة العقد الاجتماعي بسلطاتها الثلاث و صحافتها الحرة ؟ .. أم تجديد شباب الدولة الشمولية بيافطتها الدينية هذه المرة ؟ ..
المراجع:
-1- للتوسع راجع مهدي عامل-أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني-دار الفارابي
2-لوموند دبلوماتك الفرنسية – أيلول -1947-مصطفى دندشلي-حزب البعث العربي الاشتراكي -
#سامي_العباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟