|
نهجا الحياة
راندا شوقى الحمامصى
الحوار المتمدن-العدد: 4456 - 2014 / 5 / 17 - 16:26
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن الفلسفة المادية التي تعتبر الإنسان حيواناً متطوراً، بما فيه من طاقات متواضعة قادرة على التطور والارتقاء والتغيير، قد أرخت بظلالها على الطريقة التي يتدبر الناس فيها شؤون حياتهم. فهي تتنكّر لأي هدف للحياة، وتشجّع الناس على العيش طبقاً لما توحيه إليهم رغباتهم وأحاسيسهم وغرائزهم. إنه اتجاه يستنفد كل الطاقات البشرية في سبيل إرضاء الذات وتعظيمها. ونتيجة لذلك فإن مظاهر من قبيل الجشع والظلم وأقصى غايات الغنى والفقر ثم العدوان وشن الحروب يبدو أنها أضحت أمراً لا غِنىً عنه وربما من مستلزمات الحياة. إن الفلسفة المادية تشجع الناس على التنافس والتسابق في استهلاك الموارد المحدودة في العالم دون أي اعتبار للأجيال القادمة. وفي سياق مادي بحت كهذا مُنِيَت العلاقات الشخصية باضطراب كبير، أما الميول الطبيعية للإنسان نحو الحب والمودة ورعاية الآخرين والاهتمام بهم ثم المشاعر الطيبة، فغالباً ما أُسيء فهمها وقوبلت بالسخرية والاستهزاء. ومن الطبيعي، والحال كذلك، أن تجفّ العلاقات القائمة على المحبة لأن حب الذات هو السائد ولا مكان لرغبة في التضحية والعطاء والاهتمام بالآخرين. وفي وضع كهذا نرى الفرد في صراع داخلي مثير، ذلك لأن الإنسان بفطرته ينحو إلى السموّ ويتطلع إلى درجات أعلى من المعرفة والمحبة والشفقة والعدل والجمال، بيد أن النظرة المادية للحياة وللطبيعة البشرية تدفعنا إلى استغلال معرفتنا في الحصول على الثروة واستحواذ السلطة والنفوذ، وإلى حب أنفسنا أولاً وإلى أقصى الحدود، واعتبار العدالة والحُسْن والجمال أموراً ثانوية أمام إشباع رغبات النفس والاهتمام بها. فنظريات كهذه تسببت في صراعات عميقة داخل النفس البشرية ووجدنا الكثير ممن استهواهم المذهب المادي وكرّسوا حياتهم بموجبه قد أصبحوا ضحية سعي دؤوب للحصول على السعادة وراحة البال والاطمئنان، إلا أن شيئاً من هذا لم يتحقق. ونرى آخرين حاولوا سلوك طريق الحياة المادية مع متطلبات رسموها لحياتهم الروحانية فعاشوا حياتهم يلهثون وراء الثروة والسلطة إرضاء للذات من جهة ساعين في الوقت نفسه إلى القيام بأعمال خيرية وخدمات إنسانية من جهة أخرى، فوجدناهم يعانون الإنفصام داخل النفس ذلك لأنه من المحال تحقيق المرتجى في نمط من الحياة كهذا. أما الناحية السلبية الأخرى لهذه الفلسفة المادية، وتبدو أقل وضوحاً، فإنها تتجلى في اعتبار المواهب الخلاقة والفنية والفطرية الطيبة لدى الإنسان في درجة تقلّ أهميةً بكثير عن النواحي العلمية والمنطقية والتطبيقية، ربما لأن الأخيرة تهيئ لنا فرصاً أكبر للحصول على مزيد من الثروة والسلطان. قد تتجاهل النفس مؤقتاً شعورها بالاستياء والامتهان في تعاطيها الكحول وما يَذْهَب به العقل أو الإستماع إلى الموسيقى الصاخبة المثيرة أو الإفراط في نواحٍ أخرى من الحياة، فأمور كهذه لها ثمنها الباهظ في المدى البعيد. وبما أن حياة الإنسان محدودة ولا تُعرف نهايتها فإن أسلوب الحياة المادية تسبب لنا درجة عالية من الخوف والقلق والتوتّر والاضطراب، وخوفنا من الموت يكون هو الفزع الأكبر طبعاً في مثل تلك الظروف. لذا نرى المجتمع المادي قد أصبح همّه الأعظم موضوع الموت؛ فالعلوم لديه والسياسة والصناعة والفن والموسيقى والأدب ووسائل الترفيه والتسلية كلها تصطبغ بصبغة نهاية الحياة. فالقنابل تُصَنّع، والصناعات الحربية تُؤسس، وتتجه الجهود الفنية والأدبية والترفيهية نحو التركيز على موضوع الموت على أنه أمر حتمي ومجهول وكأنه حفرة خاوية ظلماء من المُقدّر لنا أن نسقط فيها. ونتيجة لذلك يسيطر على الناس أحيانا شعور بالسخرية من الحياة وتصبح لديهم لا معنى لها. إن العجز عن استيعاب وقبول حقيقة الموت وما يعنيه للإنسان هو الذي يولّد العنف والعدوان ويمنح صلاحية قتل الملايين باسم توفير الأمن والحرية والعدالة والديمقراطية أو من أجل الضبط والربط وسيادة القانون. وفي نهاية المطاف نرى المادية أنها تسلب الناس شعورهم بالإستمتاع والبهجة والأمل وتُميت لديهم الخلاقية والابتكار والإبداع والجمال، فتحيل الحياة إلى صراع ونزاع، وتجعل من المحبة والمودة عبئاً ثقيلاً، والمعرفة سلعة متداولة، والجمال تَرَفاً، والسلام وهْماً لا يمكن تحقيقه. الروحانية نهج للحياة نظراً لتعدُّد وجهات النظر في الموضوع، فليس من السهل تحديد تعريف للنهج الروحاني للحياة. ومن المهم أن نعلم أن كون الإنسان متديِّناً لا يعني أنه يحيا حياة روحانية. فهناك من هم متديّنون كُثْرٌ يؤمنون بالله والروح وبالحياة بعد الموت ومع ذلك يعيشون حياة مادية في طبيعتها. فالله سبحانه وتعالى بالنسبة إليهم هو المانح والمانع، الباذل المعطي بحبّه والمنتقم الجبار في غضبه. علاقتهم بالله كعلاقتهم بأي سلطة وهي قائمة على إرضاء الحق من أجل التمتّع بعطاياه وإخفاء ما في مكنون أنفسهم من أفكار ونوايا. مبتغاهم في الحياة الفوز بخلاصهم الذاتي لدخول جنة صوّروها لأنفسهم، وهدفهم الأساس الحصول على شيء ما – وهو في هذه الحالة نِعَمُ الله وأفضاله والعروج إلى جنة أبدية كونهم مميزين عن الخُطاة. إنه اتجاه يتفق والموقف المادي للحياة شكلاً إن لم يكن مضموناً أيضاً. فهو يركّز على اكتناز الثروة والحصول على المتعة والتفوق والقوة. وهناك طبقة أخرى من الناس نراهم ينحون بحياتهم نحو الروحانية واتخاذها وسيلة للتغطية على قصورهم وفشلهم وإحجامهم عن مواجهة تحديات الحياة الإجتماعية. وهؤلاء الذين يتوارون وراء ستار الإنقطاع عن الشؤون الدنيوية يعزلون أنفسهم عن رَكْب المجتمع الرئيسي ليصيبوا قليلاً من المسؤولية أو يعافوها بالكلية أمام تحديات الوجود الإنساني، فيعيشون حياة محورها ذاتهم وكيانهم الشخصي. بعض هؤلاء هم كسلى أنانيون، وكثير منهم أساءوا فهم الحياة الروحانية لأنهم اعتبروها مجرد الإبتعاد عن الشؤون الحياتية اليومية للمجتمع باعتبارها مادية صرفة. ومع كل ذلك، لا يمكن اعتبار الروحانية بكل بساطة نقيض المادية أو هي الصورة العكسية لها، بل بالعكس فإنها في جوهرها عملية لها هدفها الأسمى وأغراضها المتنامية المتطورة الرفيعة. ففي رحلتنا الروحانية نتطلع دوماً إلى تحقيق الأسمى والأنبل لأنفسنا، وبذلك نصنع حضارة إنسانية دائمة التقدم تسودها الوحدة والإتحاد. إننا معشر البشر نقف في مفترق حقيقتين: الحقيقة المادية والحقيقة الروحانية. وبالذات في نقطة تلتقي فيها المادية بالروحانية. فجانب لنا في عالم الحيوان يعيش والآخر في عوالم الروح يسمو. وعليه فإن بإمكاننا أن نعيش حياة مادية بحتة نتمثل فيها بالحيوان، أو حياة تسمو بنا عن الطبيعة الحيوانية لنَلِجَ بها عوالم الروح. هذا الخيار إنما هو لُباب حريتنا وجوهرها. فالإنسان مخلوق منحه الله القدرة على اكتساب المعرفة ومَلَكة المحبة وموهبة الإرادة. ففي المعرفة لنا الخيار في تحديد نوعها وكيفية استخدامها؛ بإمكاننا تسخيرها لشن الحروب أو لتأسيس السلام. فإذا ما اخترنا السلام وكرّسنا أنفسنا في هذا السبيل نكون قد اخترنا الروحانية نهجاً للحياة، وهذا ما ينسحب على الخيارات الأخرى من قبيل الصدق والأمانة والعدالة والشفقة والتعاون والحُسْن والجمال والتواضع والخدمة وجميع الفضائل الروحانية الأخرى. وإذا ما وضعنا أمامنا هدف استعمال عقولنا لممارسة المزيد من تلك الفضائل وتسخير طاقاتنا في المحبة وانجذابنا لها وتطويع إرادتنا في العمل لأجل ذلك، فإننا بذلك سلكنا طريق الحياة الروحانية. والأمر لا يقف عند هذا الحدّ، ذلك لأن الحياة الروحانية هي عالم الترقي والإنقطاع (عدم التعلّق) والتوجّه نحو الهدف بالتأمّل والتقييم والإنضباط والخلاّقية والإبداع، حياة فيها الواقع الموضوعي والتطلع إلى المستقبل البعيد، عبادة وعمل، تصميم وإصرار مجبول بالإذعان. إنها أمور تبدو لنا متضاربة، إلا أنها في خاتمتها تسمو بنا عن حدودات الزمان والمكان وعن متعلّقات النفس البشرية، وتدعونا إلى إعادة شاملة لما يجول في خاطرنا من مواقف وتجارب في الحياة. إنه نهج من الحياة لا يعمل على تفحُّص ما بقرارة أنفسنا فحسب، بل وعلاقتنا الشخصية مع الآخرين وعلاقتنا مع الله سبحانه وتعالى – وهو عملية من شأنها أن تساعدنا حتماً في التعرّف على الهدف من حياتنا والمعنى الأسمى لوجودنا.
#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسالة مفتوحة من البهائيين بمصر إلى كلّ المصريّين
-
صعود السيد المسيح
-
التقاليد خلاف الحقيقة
-
حقيقة مسألة التّناسخ التي يعتقدها بعض الملل
-
في بادرة غير مسبوقة-رجل دين بارز في ايران يدعو إلى التعايش ا
...
-
طلوع الشمس من مغربها
-
البداء في الأديان عبر العصور والأزمان
-
المرأة والرجل جناحي الحياة
-
-وسلام هى حتى مطلع الفجر- 5 جمادى الأول سنة 1260 هجرية الموا
...
-
دلالة حديث ( العجب كل العجب ما بين جمادى ورجب)
-
سبحان اللّه! لكلّ شيء رزقه، فحيثما كان الشّجر نزل إليه المطر
...
-
من منظوري البهائي
-
المسيح الدجّال
-
الحسد
-
قصة أهل الكهف
-
تعميد حضرة السيد المسيح
-
الحوار والعيش الواحد
-
هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟
-
ليه يا ابن الوجود بتتصارع وتتقاتل مع ابن الوجود والوحدة هى أ
...
-
نقطة ومن أول السطر!
المزيد.....
-
القوى الوطنية والاسلامية في طوباس تعلن غدا الخميس اضرابا شام
...
-
البابا فرنسيس يكتب عن العراق: من المستحيل تخيله بلا مسيحيين
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: ندين المجزرة الوحشية التي ارتكبها العد
...
-
البوندستاغ يوافق على طلب المعارضة المسيحية حول تشديد سياسة ا
...
-
تردد قناة طيور الجنة على القمر الصناعي 2024 لضحك الأطفال
-
شولتس يحذر من ائتلاف حكومي بين التحالف المسيحي وحزب -البديل-
...
-
أبو عبيدة: الإفراج عن المحتجزة أربال يهود غدا
-
مكتب نتنياهو يعلن أسماء رهائن سيُطلق سراحهم من غزة الخميس..
...
-
ابو عبيدة: قررت القسام الافراج غدا عن الاسرى اربيل يهود وبير
...
-
المجلس المركزي لليهود في ألمانيا يوجه رسالة تحذير إلى 103 من
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|