مصطفى اسماعيل
(Mustafa Ismail)
الحوار المتمدن-العدد: 1262 - 2005 / 7 / 21 - 08:45
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
لا يريد الفكر القومي الفكاك من أسر الأنساق الإطلاقية المجازية الاستعراضية في تعاطيه مع حال الأمة العربية بعد كل الويل والثبور المحدق بها , وبعد كل الاحتشاد الهائل لجيوش الغرب على أراضيه .
الفكر القومي العربي الذي بزغ في حومة مقارعة الكولونيالية العثمانية والكولونياليات الأخرى في القرن التاسع عشر والقرن العشرين , وتبجح طويلاً بعد خروجها وانسحابها بالاستقلال الوطني , وتلقى ضرباته الموجعات على يد إسرائيل فيما سمي بالنكسة ( هزيمة 1967) . والتي كانت – والحق يقال _ البداية النهاية لإفلاس العقيدة القومجية التغريبية السديمية في لهاثها البحثي عن عالم مثل قومي عربي يكون منطلقاً لخلق منظومة أخرى عربية ودفعاً حراكياً للشلل العربي العضال نحو تنوير إنقاذي وخلاصي من التردي والانحطاط المحدق .
لكن لا يبدو أن بمقدور هذا الشرخ الكارثي الذي أحدثته التداعيات العالمية بالجدار العربي , وبعثرة أوراقه من قبل القوى العالمية المهيمنة على المسرح والكومبارس والكواليس أن ينزاح بشكل سريع عن خارطة هذه القومية العربية المفتتة والمتحولة إلى ماضٍ جميل للتغني به وإبداع الأناشيد الحماسية عنه , واستوائه على أريكة وثيرة في متحف الشمع الشرق أوسطي .
مخاتير القومية وسدنة هياكلها يتحملون القسط الأوفر من حالة النكوص والخيبات والخلل السياسي .
هذا العقل القومي العشوائي الذي يؤسس لعالم أفلاطوني مفترض , ولكنه خالٍ من كل بنية محفزة للديمقراطية والحريات واحترام إنسانية الإنسان .. لا يشكل في المحصلة إلا إغارة على مستقبل الشعوب واقتيادها كالشياه إلى مذبح الايديولوجيا الأسطورية في هدرها على نحو مذهل لكل فكر مختلف قد يؤدي إلى غد أفضل كبديل عن محطات البؤس الإنسانية التي تم تكريسها وفاقاً لرغبات أنبياء القومية المعصومين الذين ليسوا إلا رهائن للعقد الغلوائية العقائدية .
أنبياء القومية أولئك لا يؤسسون في النهاية إلا لعالم هذياني واضعين الشعوب بين فكي كماشة القومجية وميكانيك التخوين , وهم في ذلك يطوحون بمنظومة المعايير القيمية الأخلاقية والحضارية في سبيل تحويل مجتمعاتهم إلى عجينة فارغة جوفاء طيعة . يعمّ فيها الخراب والفساد والاستبداد . كل ذلك لأجل أن تنتعش آلهة الانتقائية القومية على حساب تسوية كل مناحي وأبعاد المجتمع بالأرض .
ليس ذلك بغريب إذا ما علمنا أن الكثير من الحركات القومية العربية والأحزاب العروبية كانت حتى وقت قريب تتحدث عن مجتمع المؤمنين والأخويات العقائدية وحملة الرسالة لا السياسة , واستخفافهم بالديمقراطية والأنظمة البرلمانية على أنها محض هلوسات وصبينات وزعرنات سياسية , ففي عرفهم أن البرلمان وما شابه إنما مجرد مؤسسات سطحية ولعبة لا غير .
بهكذا مقاربات للمسائل الحيوية في الدول العربية تم الانتقال بالقومية العربية والقوميات الأخرى إلى المقابر الجماعية وحملات التطهير والإبادة للإبقاء على العنصر العربي .. المروّض منه فقط . وبدلاً من استئصال جذور الصهيونية كما كانوا يطرحون في أدبياتهم عبر الثأر ومحو العار تم استئصال القوميات الأخرى غير العربية وكذلك القوى الديمقراطية العربية عبر إرهاب تنظيري وإرهاب عملياني من خلال ترسانات المقابر والأقبية الأمنية .
لم يُجِدْ هذا الفكر الخرافي غير افتراس مجتمعه بفسيفسائه وكسب الحروب الداخلية والتي كان يشنها على الخارجين في عرفه على صراط الرسالة الخالدة بينما خسر حروبه الخارجية بامتياز لا نظير له , ولا أبلغ دليلاً على ذلك من الذل والهوان الذي بلغته أمته العربية . إذ الأساطيل الأمريكية تسرح وتمرح في مياهه الإقليمية , وعربات هامفي تحولت إلى جمال في صحاراه.
بعد كل ذلك لا يخجل بطاركة المجاز القومي العربي من التصريح التنظيري التهويمي والتحليق في فضاءات اليوتوبيا إذ يخرج علينا التجمع القومي الموحد يومياً وعلى شاشة إحدى الفضائيات المدجنة لهذا الغرض بالطلاسم والأحجيات القومجية التغريبية , وليخدروا ما بقي من الوعي القومي العربي عقب كل تلك النكسات والنكبات والزلازل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عبر البيانولوجيات الأفاقة .
إحدى العبارات المضحكة لهذا التجمع المضحك تقول :
" إن الأمة التي يمكنها أن تغرق بالماء لا تستطيع أن تعيش بدونه , ومثلها القومية " .
حرٌّ هو كل شعب في التمسك بفكره القومي ولكن لا يجب أن يكون ذلك على ظهر الشعوب الأخرى .وينبغي لأجل ذلك أن يتحلى أيما فكر قومي بالديمقراطية والأخلاق وألا يكون صعوده حارقاً للقوميات الأخرى , وعلى حساب جغرافياها وتاريخها ومنظوماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية . الأمر الذي يولد خرائط واسعة النطاق من البؤس الإنساني والتراجيديات والقهر المزمن . يستوي في ذلك الفكر الموجه للنازية والفكر الموجه للفاشية والفكر الموجه للخمير الحمر والفكر الموجه للماوية والفكر الموجه للعروبوية في رفسهم لكل القيم والأخلاق وحقائق الجغرافية والتاريخ والحضارة .
إن انتعاش الفكر القومي على حساب الآخر المختلف من القوميات الأخرى والدول الأخرى يعتبر أمراً مرفوضاً , وفي حالة الفكر العروبي لم ينتعش هذا الفكر إلا على حساب الداخل , موزعاً المقابر الجماعية وحملات التطهير العنصرية وحملات التعريب والتجريد من الجنسية .. إلخ الممارسات الشائنة تلك بالقسطاس على الإثنيات العرقية والثقافية , فالعدو الوحيد هو العدو الداخلي . أما العدو الخارجي فله مطلق الحرية في الإغارة على حدود البلد واقتطاع أجزاء منه . لا بل يتم في أحيان كثيرة التنازل من البلد / حاضنة العروبة عن كثير من مساحات البلد للعدو الخارجي الجار وذلك للتفرغ لقمع العدو الداخلي ومحاولة إركاعه . مثال ذلك اتفاقية الجزائر 1975 بين حارس البوابة الشرقية العربي والشاه الإيراني .
لقد قدم النص القومي العربي القادم من شهوات الرعيل الأول من قديسي العروبة لعالم عربي هش مؤسس على البلاغة والإعجاز اللغوي للنصوص , وشعرية الخطاب فخلق نوعاً من الطقوسية الشعاراتية مازال مستمراً إلى اليوم وما العبارة المذكورة أعلاه عن تشبيه القومية بالماء إلا مثالاً حياً على مدى هذا اللجوء المكرور والسمج إلى الصور الفنية والبديع والجناس والطباق .. إلخ ما هنالك مما يدخل في هذا القبيل .
لم يفلح هذا الخطاب السياسي المستند على ترثنة العصر . فشل , وهيأ العرب أينما كانوا لاستقبال الاستعمار ما بعد الكولونيالي بصيغتيه : المباشر وغير المباشر , ولم يقدم النص القومي العربي أجوبة شافية وحلول عملية في حدها الأدنى لكافة المسائل العالقة التي تواجه الدولة القومية العربية المفترضة .
لا حلول لأجل الديمقراطية . لا حلول لأجل الإصلاح في النظام السياسي . لا مقاربات عملية من مسائل الأقليات القومية . كل ما هنالك خلق لعالم متغاير ومتنافر قائم على ترسانات من عقد الإقصاء والخوف والترهيب والتخويف .
إن القارىء لنصوص وكتابات رهبان القومية العربية وكهنتها مثل : ساطع الحصري . زكي الأرسوزي . قسطنطين زريق . علي ناصر الدين . ميشيل عفلق ليشعر بالدوار أمام أعمال هذيانية سوريالية لا تمت للواقع والسياسة والتاريخ بصلة , والحاصل أن القومية بالنسبة للعرب ليست كالماء , وإنما هي نار حارقة تقضي على الزرع والضرع , وتجعل الأمة العربية ودولها مجرد علبة سردين في مهب الفتح من أيما كان , وكان ينبغي للأحزاب المنضوية تحت راية التجمع القومي الموحد والأحزاب العروبوية الأخرى أن تبحث عن آفاق أخرى لمعضلات مجتمعاتهم المتنامية بدلاً من اجترار الشعارات والبلاغات البالونية الاختبارية وإسكان الناس في حالة رهاب لا نهائي , ولكن لا يبدو أنهم بقادرين على التخلص من رواسب الخطاب الماضوي العفن والاستهلاكي
#مصطفى_اسماعيل (هاشتاغ)
Mustafa_Ismail#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟