حمزة رستناوي
الحوار المتمدن-العدد: 1261 - 2005 / 7 / 20 - 08:47
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
" قراءه نقدية لديوان الشعر السوري المعاصر لمحمد عضيمة "
يعيد الإنسان إنتاج المقدّس بأشكال جديدة , و بعد أن غادر الإنسان المقدس الديني دخل في متاهة المقدس الدنيوي , القائم على مجموعة من الغيبيات و الأساطير الحديثة "الأيدلوجيات" .
و عندما نقوم بدراسة خطاب ما , يهمنا الكشف عن الجوانب الأسطورية و الغيبية في حياتنا , و من ثم تجلياتها في "القول الشعري" و سوف أحاول أن أتبين جوانب ذلك الأسطوري في خطاب محمد عضيمة .
يفترض محمد عضيمة جازما بأن الطلاق بين الشعر والدين , و كذلك بين الشعر و الأفكار الكبرى , يحرر الشعر من إمكانية استخدامه من قبل السلطة , "إن كل من يفك الصلة بين الشعر و الدين , و يعجل بالطلاق بينهما , و بأسرع من فرقعة السوط هو الذي منحته وقتي و صفائي . إن كل ما ينظف الشعر من الأفكار الكبرى و يحرره من إمكانية استخدامه بوقاً دعائياً ضد هذا أو مع ذلك , هو الذي أقدمه هنا لأصدقائي القراء " و يتجاوز محمد عضيمة نقده للمقدس الديني إلى المقدس الدنيوي , فينتقد الإيديولوجيات القومية و الماركسية التي تقوم بدور مماثل لما يقوم به الدين في المجتمع , و يحمّل محمد عضيمة هذا المقدس بزواياه الثلاثة مسؤولية انحدار الشعر السوري المعاصر في العقود القليلة الماضية .
- يقدم عضيمة البديل عن الفكر التوحيدي الديني والعلماني , فيدعو إلى الابتعاد عن الموضوعات الكبرى , والتركيز على ما هو أرضي و واقعي و بسيط رافضا المجاز و التفعيلة لأنهما نتاج المتعالي إله التوحيديين .
" يجب أن نبتعد بقصيدة النثر عن الموضوعات الكبرى , لأنها في هذه الحالة تصبح مثل قصيدة التفعيلة باستثناء أنها غير موزنة "
" ندعو شعراء التفعيلة إلى الفصل بين الوزن و الشعر , ندعوهم إلى علمانية شعرية " الملاحظ في خطاب عضيمة انه يقوم بربط عضوي – يذكرنا بتلازم المسارين القومي و الاشتراكي هذه المقولة التي سادت الفكر القومي في ستينات و سبعينات القرن الماضي – إذً يقوم بربط عضوي وفق المنطق الصوري , بين مقولات " المجاز - الوزن " تنتمي لعالم الشعر , و بين مقولات " الديمقراطية – العلمانية – العقل التوحيدي" تنتمي إلى عالم السياسة و الفكر . لا أنكر وجود رابط بين هذه المقولات , ولكن لا يحتمل كل هذه الصرامة و المغالاة , إنها قضية معقدة , لا يمكن تعميمها بشكل مطلق , و بمعزل عن المتغيرات الاجتماعية و التاريخية .
كما ذكرت إن تناول أي خطاب يجب أن يسعى لكشف الجوانب الأسطورية و الغيبية في هذا الخطاب , و الأستاذ عضيمة في دراسته يقدم لنا نصوص متعددة تصلح لهذا التناول ، و لو أنكر ذلك مراراً و تكراراً
" لان الديمقراطية قادمة ولا بد , فإنها انحدرت من شعراء النثر ، و اتخذت لها رسلاً في المجتمعات العربية " في بداية مقدمته التنظيريه للكتاب يدين المقدس الديني و العلماني و الرسول كمفهوم مرتبط بالفكر الديني , فهو البشير و النذير الذي يدعو الناس للهداية , إنه صلة الوصل بين المتعالي و الأرضي .
في خطاب عضيمة تتحول الديموقراطية إلى متعالي ، ويصير شعراء قصيدة النثر أنبياء ، إنه يناقض ذاته , و يطرح مجموعة من المقدمات تصل به إلى نقيضها , لاحظ عبارة " و لان الديموقراطية قادمة " إنه واثق جداً من قيام الديموقراطية في البلاد العربية ، فهل الديمقراطية هي الآخرة " و فق الفكر الديني " أم أنها الوحدة العربية " وفق الفكر القومي " .
إن الأفكار الجميلة و الأحلام لا يمكن ربطتها بالحتمية ، بل إن تحقيقها مرتبط بالجهد المبذول الذي يتوافق مع الظرف التاريخي المناسب ، فلماذا أنت متفائل كثيراً بقدوم الديمقراطية إلى الوطن العربي ، فهل يكفي أن ترسل رسلك من صفحات " ديوان الشعر العربي المعاصر " إلى المجتمعات العربية حتى تتحقق الديمقراطية . قبل أن تحتم بقدوم الديمقراطية أدعوك , لتأمل واقع المجتمعات العربية . لتشاهد ارتفاع معدلات الفقر, و ارتفاع نسبة الأمية , و انبعاث الفكر الطائفي و العشائري و الأصولي من جديد .
يقول عضيمة أن الشعر الناتج عن اللغة في حدودها الدنيا أجمل من الشعر الناتج عن المجاز, أو بكلمة واحدة " المجاز هو شعر جاهز " " المجاز عكاز العجائر " إنه يدعو إلى لغة صحفية في الشعر ، فكما هو معروف لقد لعبت الصحافة دوراً مهماً في تبسيط قواعد اللغة العريبة , و تطويرها في مطلع القرن الماضي , و لكن هذا لا يعني الدعوة إلى شعر يستخدم اللغة الصحفية ، فالصحافة و الشعر لكل منهما نسق يختلف عن الآخر ،و على اعتبار أن اللغة فكر منطوق تنضح به التجربة ، فاللغة من حيث كونها فكراً , ليست مستقلة , بل هي حصيلة حضارية لجهد جماعي ضمن شروطه الخاصة و المتغيرة , " و لغة الشعر بحكم طبيعتها تجنح لإعطاء صوره أكثر تجريداً للتجربة التي هي بالضرورة واقعية , و على هذا التجاذب الحاصل بين التجريد و الواقع لابد له من توازن كي يكون مفهوماً " [1]
وعضيمة إذ يدعو إلى اسقاط حد المجاز في الشعر, فإنه يقوم بتهديم ركيزة جمالية هامة تميز بين اللغة الشعرية و اللغة الصحافية ، فاقتراب الشعر من الواقع لا يعني بأي حال تجريده من جمالياته, و إخضاعه للاستعمال المباشر و السطحي ، فشاعر به المعنى التي يحدثها عنها عظميه و المعتده على اللقطه المحتزاء من الحياه لا يكفي ، قد تصلح لبناء ومضات شعرية جميلة . و لكنها لا تتجاوز ذلك لتصبح المعادلة عند عظمية لغة الشعر = لغة الصحافة . يشير عظيمه إلى أن استخدامه للضمير " أنا " بوتيره عالية يشعره بالمسؤولية تجاه ما يقول ، و أنه يريحه من أي ضغط خارجي لتمثيل الموضوعي " مع أنني لا أبتعد عنها على ما أظن " فعضيمة لا يدعي امتلاكه للحقيقة و فق كلامه السابق لذالك يستخدم الضمير " أنا " في تنظيره وهو يسد الطريق مسبقاً على كل من يتهمه بالذاتية .
لا يفتأ عضيمه يعلن أنه حداثوي ، و تنسحب هذه الأنا على الآخرين لتصبح " نحن أولاد الحداثه الجديدة " و لكن هل هذا الادعاء يكفي . فالنقد التفكيكي يظهر لنا أن الخطاب العقلي مستوحى من اللاعقل ، و للكلام صيغة مخاتلة ، فعضيمه يدين تجارب مهمة شهدتها الحياة السياسية و الاجتماعية و الثقافية للعرب في النصف الأخير في القرن العشرين دعت إلى التقدم و الحرية و المساواة ، و لم تنتج سوى أضدادها ، و كذلك استخدام كلمة عقل و كلمة حداثة ، فلم تعد تستخدم بهذا الشكل اليقيني و الدغمائي " الفكر العلمي الحديث قد غادر منطقة اليقينيات وأخذ يتحرر من الأنساق المقفلة و المذاهب الشاملة " [2] فعضيمه يتعامل مع مقولات الحداثة و العلمانية و الديمقراطية و قصيدة النثر كما يتعامل المؤمن بإسم ربه ، و في الحالتين نحن أمام مقولات و صور جامدة . عضيمة يعلن أنه حداثوي و لكنه في خطبته و منهجه أصولي يتعامل مع أقانيم ثابتة ، و حقائق مطلقه ، رغم أنه يصرح عكس ذلك . كما ذكرت يعي عضيمه أنه يقدم و جهة النظر الخاصة به ، و لكنه ينسى نفسه إذ سرعان ما تتحول " الأنا المريحة " في النصف الثاني من خطبته إلى " نحن المتعاليه " بحيث يصبح عضيمه رسول الشعراء الحداثويين الجدد ، و تمتد الأنا لتطغى على الآخر ، إنه يلغي أي مسافة للحوار ، يقابل " نحن " بـ " نحن " ، و يقابل " أنا " بـ " أنا " ، ليس لديه أي خيار وسط ، و لا بأس من ذكر هذه المجتزءات من خطبته لتأكيد ذالك " نحن أولاد الحداثة الجديدة يدفعنا – نحن أولاد الحداثة الجديدة لا نحتاج – نحن أولاد الحداثة الجديدة لا علاقة لنا – نحن أولاد الحداثة الجديدة نركض – يا أولاد الحداثة الجديدة – نحن أولاد الحداثة الجديدة نرى – نحن أولاد الحداثة الجديدة نقترح – نحن أولاد الحداثة الجديدة ننفعل و نتفاعل – أبوّتنا ليست في جهة واحدة – نحن أقوام الحداثة الجديدة لا نعيش في مجتمعات ديمقراطية متقدمة – نحن أقوام الحداثة الجديدة .......... "
فالأنا الحداثوية المتعالية تتحول إلى إمبراطورية مترفة ، تنظر للآخرين على أنهم أشرار أو فقراء مساكين يستحقون الشفقة " مساكين شعراء الإيقاع ينتظرون على محطات القطار الموسيقي " أو أنهم عملاء " قصيدة التفعيلة تابعة أو مستعمرة " و شعراؤها خونة يتعاملون مع الغرب و الماضي و يحوكون المؤامرات على الشعر العربي الحقيقي و قصيدة النثر " الشعر هو قصيدة النثر و كفى "
يعمل عضيمه على استقراء الواقع الراهن للمجتمع السوري و واقع القصيدة المعاصرة في سوريا ، و يحاول بعد ذلك البرهان على صحة عقيدته في قصيدة النثر ، لذلك نراه يبحث في المفاهيم التي تلائم مقاصده ، ثم يستنتج الذي يشاء .
إنه مؤمن بقصيدة النثر أولاً ثم تأتي المفاهيم و البراهين تباعاً ، ثم يختار النماذج الشعرية المناسبة لغرضه ، ولو أنه أعتمد مفاهيم أخرى لاستطاع أن يورد لنا نماذج شعرية تدلل على العكس من ذلك " إن الدنيا مملوءة بالنقائض و المفارقات كما لا يخفى . و ما على المتكلم إلا أن يبحث في ثناياها ليجد ما يروق له من المقدمات المنطقية التي تساعد على الجدال في كل موضوع ، و الحكم في أية قضية ، لذلك اشتهر بعض البارعين في علم الكلام بالقدرة البالغة على تأيد أي رأي و على تفنيده " [3] فالملاحظ عند عضيمه و جود تقارب بين التقديم النظري و الأقوال الشعرية التي يختارها ، على عكس ما يدعي نقاده بوجود تباعد بين تنظيره و مختاراته من الأقوال الشعرية .
إن الحرية شرط ضروري للإبداع ، و الشاعر كائن متمرد بالضرورة ، مهووس باجتراء المحرمات ، إنه يعيش على تربه غير مستقرة ، و إن أي سلطة تمارس رقابتها على الشاعر تساهم في ردة فعل تتناسب مع حدود الرقابة الممارسة ، و هناك العديد من الأقوال الشعرية المجتزءه لعضيمه تدور حول هذه المحرمات .
1 – الجنس :
يشكل الجنس البؤرة الدلالية لكثير من الأقوال الشعرية المجتزأة عند عضيمه ، و لكن من اللافت أن معظم الأقوال المتّسمه بالجرأة هي لشاعرات و ليست لشعراء . إن ذلك يأكد مرة أخرى مقدار الكبت و القمع الاجتماعي الممارس على الأنثى ، إنه يتجاوز بكثير ما يمارسه المجتمع من قمع جنسي على الذكر ، فالذكر الذي يقوم الانحراف عن الثقافة السائدة لديه الكثير من الأعذار ، بل قد يكون ذلك موضع ثناء و مباركه " المفهوم الشعبي حول الفحوله – و الدنجوان " على عكس الأنثى التي يقوم المجتمع باضطهاد مضاعف عليها ، اضطهاد لأنها تجاوزت تابو الجنس و اضطهاد لأنها أنثى . و لأن الشعر يهتم بالجواني و المسكوت عنه ، لذلك كانت الأقوال الشعريه للأنثى الشاعرة هي الأكثر أهميه . و لدينا العديد من الأمثلة : .
" أعطيت كبريائي .
إجازة
فقد جاء الحبيب " انتصار سليمان
الجنس هنا يساوي الملكية و ممارسه السلطة ، إنها وجه نظر جديدة للجمال مرجيعيتها المازوخيه تصدم الذائقه الشعرية السائدة .
" أمشط انوثتي بين ذراعيه
أقشر تفاحتي
و أحرق كستنائي
الشامة تحت الأبط الأيسر " ميادة لبابيدي
إنها محاوله تقوم بها "الأنا " : أمشط – أقشر – أحرق , للدخول إلى الجسد المشتهي من خلال هتك حجاب الأماكن السرّية من الجسد الأنثوي " الشامة تحت الابط الأيسر "
" هل كان الإخطبوط
عاشقة أحبت كثيراً منحتها الألهه
عشرات الأيدي
و قدره لا متناهيهً على الاحتضان " مها أحمد
إنها رؤيه اسطوريه ، تتضح من خلال اسقاط الذات على الآخر الإخطبوط الذي يملك ما يفوق الأنثى من الأيدي ، و بالتالي ما يفوق الأنثى على الإحتضان .
هنا : " الأنا " ينظم إلى الواقع ، و ليس الواقع ينعكس في " الأنا " .
" نقامر على درجات الحرارة .
في خط الاستواء .
ثم نمارس الجنس من أجل
إثبات رجولتنا " فاتح كلثوم
في العبارة الأولى " نقامر على درجات الحرارة في خط الاستواء " المقامره الاحتمال
أما في العبارة الثانية " ثم نمارس الجنس من أجل إثبات رجولتنا " الجنس إثبات الرجوله .
في هذه العبارة يكرس الشاعر مقوله شائعة ، وهي ارتباط الرجوله بممارسه الجنس ، و ليس هناك من جديد
ولكن استخدام حرف العطف ثم الذي يفيد التعاقب يشهد على حدوث الإثبات و استثناء الاحتمالات الأخرى .
2 – السياسه
إن الأقوال الشعرية المصنفة في خانه السياسي ليست سوى أصداء الحديث الشارع، وتعبر عن خيبة الأمل و الإحباط و تعمل على إدانه المتاجرين بإسم الوطن . إذاً جاءت هذه الأقوال بأسلوب مباشر مستخدمه تعميه مقصوده .
" أيتها البلاد الحبيبة
ساعة يأتي النمل و يجرك إلى ثقبه
كقشة صغيره
عندها
سأرفع قبعتي و أنحني للجنازه " محمد عيسى .
فعندما تتحول البلاد إلى قشة صغيرة يجرها النمل إلى ثقبه ، سينحي لجنازتها و يرفع قبعته احتراماً لها ، لأنه يحبها و يحترمها .
إنه اليأس التام ، ننتظر النهاية محتومة و كأن الأمر قد قضى ، إن هذه الجنازة واقعة لا محاله ، و لكن اللافت للانتباه غياب الحداد و الدمع و الانفعال الذي من المفترض أن يواكب الجنازة . ففي هذا القول يتغلب الفكري على العاطفي .
" أصدقاء سرقتهم الحكومات
و آخرون هدتهم النساء .
بالأمس مروا ،
لقد مروا ما شافهم أحد " طه خليل .
المسروق كالبضاعة في الحانوت " السجن – المنفى – الموت " و المهدود الذي أضناه عشق النساء ، كلاهما هامشيّ ، لم يكترث بهما أحد ، فاليومي المعاش يتجاوز التاريخ و الإنساني في منطق العميان .
" ورق ، ورق
ورق ، ورق ،... ، ... ،
شهرت سيوف من ورق
رفعت شعارات الورق " عبد الناصر حداد
السيوف و الخيول : ذات مدلول تاريخي تراثي .
الشعارات : ذات مدلول معاصر ترتبط بحركة الثورة العربية و حركات التحرر الوطني . فعندما تتحول الكتابة إلى بديل عن الفعل في هذا الزمان ، تفقد الأفعال " صهلت – شهرت – رفعت " دلالاتها و تتحول إلى نقيضها ، مع أنها لغوياً أفعال إيجابية تفيد الفعل و المقاومة .
" عرق .... عرق "
شعب عرق ، وطن عرق ، أفق عرق .
وطن يضيق و ينغلق
هات العرق ، صب العرق "
يتحول العرق هنا إلى شعار وطني
وهل من شيء يواسي الإنسان مثل العرق ، فالهروب من الواقع الكابوسي الذي يتجاوز الوعي . هو السمه البارزة للمثقف الحديث الذي ضاق به الوطن
3 – الدين
" أيتها الحرية ، أيتها .....
قولي للبنت القادمة إلى هنا صوب قلبي
إن الله لايرانا " جودت حسن .
الحرية تعني في أحد وجوهها الخلوة ، و عدم مراقبة الآخرين لنا ، خاصة عندما يتعلق الأمر بلقاء عاطفي ، في هذا المقطع ينتقل الشاعر من الحسي المجسد إلى وجهه نظر للألوهية تناقض المعتقد السائد " إن الله لا يرانا "
" كأن الأحد منزوع من مفكره الأسبوع
انتظرتك الاثنين ، الثلاثاء ، الأربعاء
الخميس ، الجمعة ،
و يوم السبت استرحت إلى
فاكهة الشك و الجنون " بشير البكر .
مثلما استراح الرب التوراتي في يوم السبت بعد أن فرغ من الخلق يستريح الحبيب هنا من فعل الانتظار في اليوم ذاته . و لكن الرب استراح من التعب أما الحبيب هنا مستسلم إلى متعة الشك و الجنون , هناك انتقال حرف الجر " من" الإلهي إلى الحرف " إلى " البشري ، إن مقاربة الشاعر هنا ، و بناءه للنص يناقض النص القرآني " و ما مسنا من لغوب "
" يلحنون باسمي
و كأن قرأناً على رأسي في سور محكومة .
يظهر فيه الحرف ظهور دويله
أو ظهور غزاه ببيارق سود
تخرج من مسافة الدبق بين الأخرين " إبراهيم الجبين .
اللحن في اللغة يساوي الخطيئة في التراث العربي ، و عندما يقترن اللحن بتلاوة القرآن الكريم نحن أمام خطيئة مضاعفه .
السور هنا محكومه و الحرف دويلة و بالتالي ينظر الشاعر إلى النص المتعالي نظرة أرضية ، مقيدة بزمن الهزيمة الشاملة التي يعيشها عرب اليوم . ورد في القرآن " كأن على رؤوسهم الطير " كنايه عن الوجل أما هنا فعبارته " كأن القرآن على رأسي " و في هذا دلالة مفارقة حيث يمنح الشاعر دلالة سلطوية للقرآن عليه . البيارق السود مرتبطة تاريخياً بجيش أبو مسلم الخرساني و قدومه
من الشرق مع بداية ظهور العباسين إلى المسرح التاريخي ، فالشاعر يبدأ من بؤره تاريخيه محدودة و ينتهي في " مسافة الدبق بين الآخرين " أي ينتهي في المكان المتلاشي إلى حد الغياب المأزوم .
و للوقوف عند ما يعنيه " اللحن " في التراث العربي لا بأس من ذكر هذه الحادثة حيث كان عبد الملك بن مروان من أكثر الناس اهتماماً بفصاحة اللسان و بغضاً للحن فيه . قيل أنه ذات يوم جلس مع قومه و هو يلعب الشطرنج . فأستأذن عليه رجل من كبار أهل الشام ، فأمر عبد الملك غلامه بأن يغطي الشطرنج احتراماً للرجل ، و لما دخل الرجل لحن في كلامه . فقال عبد الملك " يا غلام ، اكشف عنها الغطاء ، ليس لللاحن حرمه "
"لماذا سحبت جثتي إلى ساحة الله
كنت أعلم
من اسمي الذي لم أختره
بأنه ضد قواميسه المعجمية
في هذا الشرق المخيف " فهان كيراكوس .
على افترض الضمير في أنه يعود إلى الله ، فالتساؤل في بداية المقطع هو ظاهري يفيد الإخبار بل يتعداه إلى اليقين " كنت أعلم "
فالاسم الغريب الذي يبتعد عن الخارطة التي اختارها الله للأسماء ، يجعل الشاعر يكفر بالقواميس و المعاجم التي ترعرعت و اشتد عودها في الشرق المخيف الذي يقدم له الشاعر بــ " هذا" .
هناك ركام كبير في مختارات عضيمه الشعرية يصل حجمه إلى النصف تقريباً ، يمكن أن نتغاضى عن الركام في القصيدة الطويلة التي يبغضها عضيمه " بصراحة لا أحب القصائد الطويلة ، أو بالأحرى أتعب من الكلام الكثير داخل عمل شعري . ثم أراني أقول – وأنا أقرأ – لماذا كل هذه اللغة ، لماذا كل هذا التمهيد للوصول إلى الخبر أو ذاك "
و لكن ما عذر عضيمة و هو في اختياراته لا يتجاوز الأسطر القليلة ، حيث تم الاختيار من بين 300 مجموعة شعرية على حد قوله ، فما عذره أن يقدم لنا هذا الركام اللغوي و هذه الترهات ، و سألجأ مضطراً لذكر بعض النماذج
" كان يوماً ثقيلاً
حاراً و عارياً
يشبه كثيراً ما يمكن يوم القيامة " خليل درويش .
" لكم كل الحق
أن تضاجعوا نساءكم
و تنجبوا أمواتكم
لكم كل الحق " أحمد اسكندر
" كأنها هي ، هي
شمس عمودية لا تغرب
أبداً " أكرم قريب .
" تعانقنا طويلاً
ثم اتجهنا بجسدينا النحيلين
إلى غرفة منسيه في الشارع الطويل " عمر كوش
" لم يتغير شيء
لم أتغير ، لازلت امرأة
عاشقة للأرض " فاديا غيبور
" لا أريد مزيداً من اليقظة المرهقه
فقط حبّه فاليوم .
لأنام دقيقة واحدة " وفاء الخش
" و دمشق تختال
و دمشق
مزهوة بالفنادق و الواجهات " حسان عزت
هناك تبسيط في المقاطع السابقة يصل إلى درجة السذاجه ، و لا تعدو هذه المقاطع أن تكون جمل و صفية للواقع ، بدون اتكاء على مجاز ، أو مفارقة حياتية ، أو انزياح فني ، حيث أن معظم الأشخاص غير الأميين ينتجون في حياتهم العادية من الأقوال الشعرية على هذه الشاكلة ما يفوق أقوال الشعراء من قبيلة عضيمه و أولاد الحداثة الجديدة كما يسميهم ، ففي أي رواية ذات مستوى فني متوسط نستطيع أن نجد مئات الأقوال الشعرية إذا كانت الشعر هكذا ؟ .
فما علينا سوى أن نغير ترتيب الجمل في الصفحة هكذا ببساطة حتى نحصل على شعرية أولاد الحداثة الجديدة ، إن أي مجموعة شعرية لشاعر حقيقي مثل الماغوط تحتوي من " الأقوال الشعرية " على حسب تعبير عضيمه أضعاف ما يحتويه ديوان الشعر السوري المعاصر مع الأخذ بعين الاعتبار بداهات عضيمة الشعرية " قصيدة النثر – اجتراء المقدس و روح التمرد – الانتصار للفرح و الحياة – نبذ المجاز " .
عندما نقول عن شخص أنه شاعر هذا يعني تراكم جمالي معين ، و أقصد هنا تراكم كمي و إلا أصبحت كل البشرية شعراء " انظروا إلى ما حولكم فكل ما حولكم شعر ، و لا شيء غير الشعر ، و يكفي أن تكونوا كائنات أرضية لكي تكونوا شعراء ، و لكي تتذوقوا الشعر بصفته فرحاً و ابتهاجا و غناء " نعم يكفي أن تكون إنساناً لكي تتذوق الشعر ، و لكن ليس كل إنسان شاعر بمعنى الاصطلاحي لكلمة شاعر ، و لكن بالمعنى المطلق يمكن لعدد كبير من الناس أن يكونوا شعراء بطريقة تعاملهم مع الحياة و معاشهم بها ، و كيف ينظرون للحياة ،وكيف يستمتعون بها ، إنهما قضيتان مختلفتان .
يدعو عضيمة قصيدة النثر " إلى الابتعاد عن الموضوعات الكبرى ، لأنها في هذه الحالة تصبح مثل التفعيلة ، باستثناء أنها موزونة "
فهل الموضوعات الكبرى استبعاد للموضوعات الصغرى و الخاصة ، و هل المطلق إغفال الشرط و طمس الحدث .
إذا كان المقصود بالموضوعات الكبرى " مقاومة الاحتلال - القضية الفلسطينية – مشروع النهضة العربية – مشروع التنمية الاجتماعية – حقوق الإنسان " فالشعر قد يبتعد عن هذه الموضوعات ، و تكون مشاكل الحياة و خصوصيات الشاعر و الأشياء المهملة هي مجال الكتابة لديه ، إذاً ابتعاد الشاعر عن القضايا الكبرى أمر نسبي لأن مفهوم " القضايا الكبرى " بحد ذاته هو كذلك ، أما أن يدعو عضيمه إلى شعر يرفض القضايا الكبرى جملة و تفصيلاً فهذا أمر آخر ، إنه هروب من الواقع اسمح لي أن أزاود عليك قليلاً يا صديقي، رغم أني أبغض هذا النمط من الخطاب : يا ترى ما وضع حقوق الإنسان في و إلى أي حد و صل المشروع الديمقراطي على صعيد الممارسة ، و ماذا يقول عضيمة في الردة و مفهوم التكفير و ماذا يقول في الأمية و الاستغلال الاقتصادي ؟ !
إنه هروب من الواقع ، فعلى الشعر إضافةً إلى كونه متعة جمالية خالصة أن يكون له دور اجتماعي لأن الشاعر ببساطه نتاج هذا المجتمع . إن المتعالي هو ما يتلو الممارسة و التجربة ، و ليس العكس ، قد يكتب الشاعر الجزء و المحدد و الشخصي , و لكنه في النهاية لا غنى له عن المتعالي , قد نختلف حول طبيعة المتعالي , و هذا اختلاف مشروع , لان المتعالي بالنهاية هو مفهوم .
فالالتزام بمعناه الخاص " الوحدة العربية – القضية الفلسطينية – الاشتراكية "
خاض تجربة فاشلة و مروعة, و هذا ما يفسر ابتعاد الشعراء المعاصرين في سوريا عن طرح هذه القضايا من و جهة النظر السابقة ، فلا أحد حالياً يقرأ الالتزام بالمفهوم التقليدي الذي تلقناه في الكتب المدرسية . إن الالتزام التقليدي عملية قرصنة تمارس على الشعر باسم الوطن و القضايا الكبرى , بالنهاية الشعر هو الشعر ، و السياسة هي السياسة , فلا أحد يذكر حالياً شعراء من أمثال سليمان العيسى و أيمن أبو شعر و يوسف الخطيب إلا قليلاً .
و إلى متى سيدوم ذكر شعراء آخرين كالبياتي و عبد المعطي حجازي لا أدري ؟ !.
الشاعر الملتزم بالقضايا الكبرى لا يعني أن ينكر الشاعر نفسه ، و يقدم نفسه قرباً على مذبح القضية ، و لكن الرهان الحقيقي يكمن في أن نحوّل العام إلى خاص ، إن نحول القضية الفلسطينية إلى قضية شخصية ، و هذا ما يميز محمود درويش عن أقرانه من الشعراء الملتزمين بالقضية الفلسطينية " سميح القاسم – يوسف الخطيب – فدوى طوقان و غيرهم كثير .... " فإخفاق المشروع القومي و الاجتماعي معاً , و عدم قدرتنا على تحويل الالتزام السياسي و الطبقي إلى واقع انعكس شعرياً برفض الالتزام الذي واكب هذه المسيرة المتقهقرة . فهناك العديد من القضايا الكبرى التي تطرح الآن , و أخص بالذكر قضية " الإنسان " التي تصلح لأن تكون ينبوعاً يشرب منه كل شعراء بني البشر , الإنسان خليفة الله على الأرض , الإنسان هذا الكائن الذي انطوى فيه العالم الأكبر , الإنسان هذا المتشابه المختلف ، الإنسان هذا العظيم التافه , انه القضية الكبرى , إنه بداية الشعر و إليه النهاية . و كما ذكرت المتعالي تالي للتجربة و الممارسة , فمن الجزء تنطلق إلى الكل , و القضايا الصغيرة هي كبيرة بنفس الوقت ، فالراتب الزهيد أو التسول يطرح إشكالية التفاوت الطبقي في المجتمع , و الصراع بين طائفتين في قرية نائية يذهب ضحيته العشرات ، يطرح إشكاليات البنية الاجتماعية و تجانسها ، و إمكانيات تقبل الآخر , إذاً الأمور ليست بهذه البساطة قضايا كبرى و قضايا صغرى , إنها علاقة جدلية يقع سؤال الشعر في صميمها و يؤسفني أن يقول عضيمة : " أصدق لحظة في التاريخ العربي هي الشعر , أما المفكرون فإني لا أثق بمفكر واحد " .
المثقف العربي سواء كان شاعراً أو مفكراً أمام تحدٍ مزدوج.
أولاً : أن يمارس دوره النقدي تجاه نفسه و الآخرين . و ثانياً : تحويل الخطاب الذي يطرحه سواء أكان شعرياً أو فكرياً إلى حقيقة و موقف حياتي و يستوي في ذلك الشاعر و المفكر . إنك لا تثق بمفكر عربي واحد ؟! هذه مشكلتك و لكن الواقع الذي أدعيه غير ذلك .
فمن وجهة نظرك : الشعراء هم الصادقون و المفكرون كذبه
القصيدة صادقة و النص الفكري كاذب
ما هذه المعادلة الغبية ؟!
إن كل منهما يحمل إمكانية الصدق و الكذب
فعرب اليوم لم ينتجوا منذ ما يزيد عن ثلاث عقود شعراء أقوياء ، لكن لديهم مفكرين مهمين أدعوك لقراءه نتاجاتهم " محمد أرغون – محمد عابد الجبرى – علي حرب – عبد الله العروي " و ماذا تقول في فرج فوده و اغتياله من قبل الأصولين ؟! .
و ماذا تقول في التهجير شبه الرسمي لنصر حامد أبو زيد ؟ ! .
و ماذا تقول في نوال السعداوي و محاكمتها التي لم تنتهي إلى الأن ؟ ! .
- إن الحزن و الفرح وجهان لعمله واحدة هي الإنسان , نعم قد يكون الفرح طارئاً في حياتنا لجملة قضايا معقدة , و لا بأس من تخليد هذا الطارئ شعراً , و معظم " أقوال عضيمة الشعرية " كيانات مجتزأة و منتقاة وفق شرط الفرح ، فهو لا يبرح يردد هذه اللازمة " نحن أقوام الحداثة الجديدة , حداثة الفرح و الابتهاج "
إنه يقوم بإهمال الجزء الطاغي من حياتنا ، ألا و هو الحزن ، كيف تطالب المضطهد المستلب المعدم بالفرح ؟ !.
كيف تطالب - المواطن - المأزوم على الصعيد الفردي و القومي بالفرح ؟ !
قد يلجأ إلى الفرح كطارئ و لكنه لم و لن يكون فرحاً ، و إلا بماذا تفسر ظاهرة الاغتراب في اشعر السوري المعاصر ؟ !
هذه الظاهرة التي أهمل دراستها ، هذا البكاء الذي قمعناه بالزغاريد و القهقهات و ضرب الطبول .
إن قراءتي النقدية لمحمد عضيمة في كتابه " ديوان الشعر السوري المعاصر " لا يعني النفي التام لعمله ، و لكني حاولت قدر الإمكان الكشف عن الوجه الآخر لما يقول . إن عضيمة يقوم بمحاولة نفض الغبار عن هذا الكم الهائل من الشعراء السورين, قد يصيب فنكتشف شاعراً جميلاً , أو يخطأ فيخدعنا و يقدم لنا مهرجاَ جميلاً ، و لكنه في كلتا الحالتين يزيح الغبار عن المشهد الشعري السوري المعاصر
فهو يطرح العديد من القضايا بجرأة غير معهودة في الوسط الثقافي السوري
1- هيمنة شعراء - كبار - متعجرفين على وسائل الإعلام .
2- التشابه الذي يعاني منه نتاج الشعراء السورين المعاصرين ، و دور الرقابة في تكريس هذه الظاهرة .
3- المنابر السورية الرسمية الخاضعة للرقابة و دورها في إنتاج الرديء .
4- الكشف عن عقلية الإجازة و الموافقة ذات الأصول الدينية التي تتحكم بالنتاج الشعري في سوريا .
كتاب عضيمه " ديوان الشعر العربي المعاصر " على ما يثيره من إشكاليات هو خطوة في طريق جديدة قد تكون خطوه متعثرة ، و لكنها خطوه على أي حال .
آمل أن يكون نقدي له قد ساهم في تنشيط رياضة المشي , كي نزيل الشحوم عن المشهد الشعري في سوريا , و تلك مسؤولية نتحمل وزرها جميعاً شعراءً و نقاداً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ[1] لغة الشعر – أحمد يوسف داوود- منشورات وزارة الثقافة – ص 106
[2] نقد النص – علي حرب – المركز الثقافي العربي- ص 218
[3] أسطورة الأدب الرفيع – علي الوردي – دار كوفان- ص 223
#حمزة_رستناوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟