هيثم الحلي الحسيني
الحوار المتمدن-العدد: 4451 - 2014 / 5 / 12 - 08:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بين إستذكار الشعوب السوفيتية السابقة ليوم نصرها, وإهمال وتجاهل أيام العراقيين
دهيثم الحلي الحسيني
باحث في الدراسات الإستراتيجية
إحتفلت شعوب الإتحاد السوفيتي السابق, ومعها دولها وحكوماتها, بذكرى يوم النصر العظيم, في التاسع من أيار من العام 1945, الذي إنجزت فيه تحريرها, من الإحتلال الألماني النازي, ومن ثم أكملت أهدافها بسقوط برلين العاصمة والرمز, وبالتأكيد فإن هذه الذكرى, بما أنتجت فيه للعالم, نظاما دوليا سياسيا جديدا, قد حقق شكلا من التوازن الإستراتيجي, جعل العالم متوازنا ومستقرا, فأوقف التداعيات وإحتمالات النزاعات المسلحة, فضلا عن منحه حركات التحرر في العالم, دفعات وجرعات كبيرة, كان من نتاج مخرجاتها, الدخول في مراحل ما بعد الإستعمار, وبناء الدول الوطنية.
وسيكون لهذه الجزئية, وقفة أخرى باستحقاقها, وفي إسقاطاتها على واقعنا المعاصر, لكنها ليست المقصد في هذه الورقة, بل هي محاولة لعقد مقارنة, بين الإحتفاء بتلك الذكرى, وبين ما يختزنه سجلنا الوطني, من أيام تتماهى وذلك الحدث التأريخي, ربما ستحمل المقارنة, جنبة من المنطق, في إستجابة لحاجة وطنية ملحة.
إن ما يلفت النظر في ذلك الإحتفال السنوي الكبير, بيوم النصر السوفيتي, هو إن جميع المعطيات التأريخية, ما بين الواقعة والذكرى, في الظرفين المكاني والزماني, والذاتي والموضوعي, قد تغيّرت بالكامل, فقد تغيرت الجغرافية السياسية, ولم تعد قائمة, دولة الإتحاد السوفيتي, بل ظهرت دولة الإتحاد الروسي, ودول أخرى على شاكلتها وبنيانها.
وقد تغيرت السياسة, ولم تعد قائمة, تلك النظم الشيوعية الشمولية, بل تحولت الى أنظمة إنتخابية نيابية, بشكل من أشكال الديمقراطية, كنظم سياسية بديلة, وقد تغيرت العقائد, فلم تعد "الأيديولوجية" أو الفكر المادي الحركي "الدياليكتيكي" قائمة, وقد حلّت محلها الأفكار التحررية "الليبرالية" والفكر الحر, وقد تغيّر النظام الإقتصادي فيها بالكامل, ولم تعد الإشتراكية العلمية قائمة, ونهجها التعاوني أو الجماعي, أو ما يطلق عليه برأسمالية الدولة, وحل محلها إقتصاد السوق الرأسمالي الحر, والنشاط الخاص.
والأهم من ذلك كله, هو التغير في العلاقات الدولية عموما, إذ لم يعد قائما, ما أطلق عليه حلف وارشو, الذي إنتظمت فيه مع الإتحاد السوفيتي, جميع دول المظومة الإشترلكية, وكذلك تغيرت العلاقات البينية, إذ لم تعد علاقة العداء قائمة, بين الدولة الروسية, بصفتها الوريث الشرعي للإتحاد السوفيتي, وكذلك جميع الدول السوفيتية السابقة الأخرى, وبين ألمانيا أو دول المحور, وقد حلت محلها, العلاقات الإيجابية البينية, والتجارة المتنامية, والتعاون الثنائي, في جميع المجالات, السياسية والإنمائية والعلمية والإقتصادية وسواها.
فنظام الإتحاد السوفيتي, في أدبيات الدول التي خرجت من معطفه, وفي متبنياتها ومدركاتها المعاصرة, قد اصبح جزءا من الماضي, وبات نظاما سابقا, أو حتى "بائدا", إذ تفكك الى دول متناثرة, وكلّ "قد عرف مشربه", لكن ذلك لم يمنع هذه الشعوب, التي قدمت تضحيات بشرية كبيرة, على مذبح الحرية والتحرر, قد ناهزت العشرين مليونا, من العسكريين والمدنيين, من أن تحتفل في هذه الذكرى, تحت مسمّى يوم النصر العظيم.
إذ يأخذ الإحتفال سنويا, شكلا رسميا وشعبيا, وتجري الإحتفالات وفق مظاهر البهجة, وإستذكار المفقودين والضحايا, برفع صورهم, وزيارة المشاهد الرامزة لذكراهم, ولم يستثن بذلك فرد من شعوبها, بدءا بدولة "روسيا" الأم, وإمتدادا من "أوكراينيا" الأزمة, و"بيلاروسيا" و"ملدافيا" في العمق الأوربي, وحتى "كازاخستان وطاجكستان" في عمق آسيا الوسطى, مرورا "بأرمينيا" وشعوب ماوراء القفقاز, على إختلاف مشاربهم المعاصرة.
إن الإستدلال الأقرب لهذه الظاهرة, أنه بالتأكيد ليس إستمالة للدولة, ولا نزوعا من المحتفلين بالذكرى, للدعوة للإنتقام أو الثأر أو لتجديد العداء, أو الدفع بأتجاه الحروب, بل أن الجميع يؤكد في الإحتفال, أن الأصل في العلاقة بين الشعوب, والمتجاورة منها حصرا, هو السلم والتعاون وحسن الجوار, فالجغرافية لا يمكن تغييرها, وأن الشعب الجار, سيبقى بهذه الشاكلة, دون تغيير, تتشابك معه المصالح والأماني, والتطلعات الى المستقبل الواعد.
بل أن إستذكار الحدث, يدعو الى أمر آخر, مفاده أن تلك الضحايا, لا يعنيها إن كانت قد تغيرت النظم, أو تغيرت العقائد أو تغيرت السياسات, فهي قد سالت دماءها على تراب الوطن, وفي سبيل الدفاع عنه, ولأجل أن يحيى الذين بقوا على قيد الحياة, فبدمائهم وهبوا الحياة لشعوبهم, إذ يستذكر في المقدمة, أبناء القوات المسلحة, الذين نفذوا مهامهم وواجباتهم, بمهنية وبطولة, بما فيهم من يختلف ونظام الدولة, في السياسة والعقيدة, لأن مسألة التراب الوطني وسلامة الشعوب, هي أكبر من العقائد والسياسات.
والحال أن إستذكارهم وتمجيدهم, لا يعتمد عن المتغيرات الجيوسياسية, لأنه موضوع مبدئي وثابت, وهو يعتمد منهجا منطقيا وذهنيا, لا دخلية فيه للتحليلية أو التجريبية, فهو يقارب التأريخ والتراث الوطني والإنساني, إذ لا يحق للغير, أن يصادر هذه المنجزات الوطنية, لأنها في رسم الموروث الوطني, وسجل المؤسسة العسكرية والوطنية.
وهنالك موضوع إيجابي آخر, جوهره أن أفراد القوات المسلحة المعاصرين, سيكونوا على تصميم معنوي لا ينثني, بأن ينفذوا مهامهم في الدفاع عن تراب الوطن, وعن سلامة الشعوب, دون أن يكون الموضوع متعلقا, بمن يجلس في "الكرملن", أو في قصر الرئاسة في "كييف" أو في "ميسنك" أو "أستانا", لأن مهنية القوات المسلحة ومهامها, لا تعتمد شكل العقائد والسياسات.
وهنا نطرق الذهن قليلا, صوب الحالة العراقية المعاصرة, فقواتنا المسلحة قد سالت دماء أبنائها المقدسة, في التراب العربي, على مشارف القدس, في حربي النكسة والنكبة, وقد كان لتضحياتها, الأثر الكبير, في بقاء الأرض التي يعترف العالم بها مشروع لدولة فلسطينية, في الواقع والمستقبل, أو في قوة التفاوض مع الآخر, وكذا في حرب تشرين, إذ روت دماء ضباط وجنود الجيش العراقي, تراب ضواحي دمشق وأرض الجولان, في الدفاع المتميز عنها, وفي إجبار الجيش الإسرائيلي, على تغيير أهادفه وسوقه "إستراتيجيته", من الهجوم الى الدفاع, وبالتالي طلب وقف الحرب, وكذلك إذ روت الدماء المقدسة والشريفة, أرض سيناء, حيث صال صقور الجيش العراقي, في أول صولة على أعماق العدو, كان من نتائجها عبور مانع بارليف المحصن, ثم تحرير سيناء.
والحال أن لا الدولة العراقية, ولا المؤسسة العسكرية, تستذكر تلك التضحيات والمنجزات بما تستحق, فالوزير يشد رحاله, الى دول عربية أخرى, للإحتفاء بالمناسبة, وكأن الجيش العراقي كان متفرجا ومراقبا فيها, وذلك ليس تقليلا أو إساءة, لأدوار وتضحيات, أبناء الجيوش الشقيقة, لكن المؤسسة العسكرية العراقية, معنية أيضا, أن تستذكر وتدرس وتبحث, في أدوار الجيش العراقي ومنجزاته, تطلعا لتعزيز قدراته المستقبليه.
ثم الأمر ذاته, في حرب السنين الثمانية, خاصة في صفحات دفع الموجات التعرضية, عن حدود الوطن الشرقية, إذ دافع ضباط الجيش العراقي وجنوده, سواء الدائميون منهم أو المكلفون بالخدمة, عن سور الوطن, وعن ترابه المقدس, والحال أن الأمر لم يتغير في قدسية الدماء التي سالت, إن كانت قد تغيرت السياسات ونظام الحكم, أو حتى قد تغيرت النخب السياسية الحاكمة, فجميعها متغيرات, والعراق هو الباق.
فالجندي أو الضابط العراقي, الذي استشهد دفاعا عن تراب وطنه, وعن أمن شعبه, بمهنية واعدة, وفي شرف الخدمة, لا يمكن أن ُينس, أو يجري تهميش ذكراه, إذ وصل الحال بالبعض, أن يدعو الى الإساءة لذكراهم, وكأن أبناء الشعب اليوم, ليسوا مدينين بحياتهم, لتلك الدماء التي سالت, على تربة الوطن, والحال أن لا علاقة بكل ذلك بالتغيير.
فليكن ما يكون من تغيير, لكن ذكرى التضحيات, يجب أن لا تشوّه ولا تستباح أو تخدش, وهي ليست دعوة لإستذكار العداء, لأن العلاقة الطبيعية, والأصل فيها, هو السلم والتعاون وحسن الجوار, بما يجتمع من وشائج مشتركة, في التأريخ والجغوافية والثقافة وحتى العقيدة, وذلك ما يتمناه أبناء الجيش إبتداءاَ, وكذا ما يتطلع اليه ذوو الشهداء قبل غيرهم.
وكذا لا يمكن أن تنس, تلك الدماء الطاهرة, التي سالت في الدفاع إزاء الغزو الأمريكي والثلاثيني, خاصة في جنوب العراق وفي بغداد الخالدة وسواها, والتي فرضت التقدير والإحترام, على العدو ذاته, في معركة قاسية, لا تكافؤ فيها, والذي يحلو له, أن يفسّر بسخرية, ترك الجيش لمواقعه, يتناسى أن ذلك القرار, قد جنّب العراق وشعبه, حربا داخلية طاحنة, لا نهاية لها, في حال قتال الجيوش, دون قيادة وسيطرة, فالجيش العراقي بذلك, قد قدّم موقفا واعيا, لا ينسى.
فالدعوة لإستذكار شهداء الوطن, وأيامه الخوالد, هي مهمة وطنية عليا, وهو إحياء لسجل المؤسسة العسكرية المجيدة, وللتراث الوطني, ولذاكرة الشعب, وهو أيضا, يشكل رافعة لمعنويات الضابط والجندي العراقي, الذي يقف اليوم مدافع عن تراب وطنه, وعن أمن شعبه, وهو في ظروف قاسية, قد تألمت وبكت لشهدائه, حتى المرجعية الرشيدة, كونه إزاء عدو, لا شعور له في الوطن, أو في الإنتماء للشعب, لأن أهدافه وإهتماماته وحتى إرتباطاته, في مكان آخر, بينما عُرف عن أبناء العراق, من شماله الى جنوبه, تقدير الجيش العراقي وتعزيره إعتباريا, لرمزيته الوطنية, أيا كانت تشكيلاته أو عنوانه, فضلا أن أصعب القتالات التي تخوضها الجيوش النظامية, هي في مواجهة عدو غير نظامي.
فالشعب عندما كان يحتفل بالذكرى, بما أسماه بيوم "الماء" لرمزيته, إنما كان يعبّر عن عشقه للسلام, ورفضه للحرب, وعليه فالدولة والشعب, مدعوان لإستذكار الدماء الزكية, التي سالت على تراب الوطن المقدس, وليفخر العراقيون بسجل جيشهم البطولي المهني, وليغادر الجميع عقد الماضي وتعقيداته, فحاضر الوطن ومستقبله, هما الأغلى, وهما الوسيلة والغاية والهدف.
#هيثم_الحلي_الحسيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟