|
عن أوجه التشابه والتداخل بين الفن والفلسفة
منير توما
الحوار المتمدن-العدد: 1260 - 2005 / 7 / 19 - 10:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قد يبدو للنظرة السطحية العابرة انه لا يوجد شخصان اكثر تباعدا وانفصالا عن بعضهما من الفنان والفيلسوف. فالفنان يهتم بالاثارات الحسية لجواهر اشياء، ومتع الشكل الظاهرة، ومغريات الصليل الوجداني. اما الفيلسوف فمشغول بالنظر غير العاطفي في الموضوعات التي تترابط فيما بينها على اساس منطقي، كما يهتم بالافكار العامة ومن ثم المجرد. والفنان من ناحية اخرى معني بوجه الجمال. كما ان الفيلسوف يعني بتشريح الحقيقة. وهما بعد ذلك مختلفان من حيث ما يستخدمانه من ذخيرة لفظية ومن وسائل فنية في التعبير، كما انهما مختلفان فيما يتعلق بأهداف كل منهما. على ان ثمة نقطة يتلاقى عندها الشاعر والفيلسوف، الا وهي ان كل منهما يستخدم الكلمات. هناك شبه اجماع في اغلب لغات العالم على المعنى الاشتقاقي لكلمة "فن"، وهو الذي يحدد الفن بأنه العمل الذي يتميز بالصنعة والمهارة. وهناك اتفاق ايضا على تحديد الفن بأنه مجموع الطرق او الوسائل، التي تستعمل للوصول الى نتيجة معينة حسب اصول معينة. وهناك تحديد آخر يقول بأن الفن هو انتاج جمالي ينتجه الانسان الواعي ويضيفه الى الطبيعة. فالفن بالنسبة لافلاطون هو طريقة في التعبير بواسطة اشياء حسية من عالم المُثل، فللفن بالنسبة له يلعب دورا مهما على صعيد تذكير النفس بالعالم الذي كانت فيه، وهو الذي يحرضها على العودة الى هذا العالم. اما ارسطو، فالفن بالنسبة اليه دور مزدوج هو محاكاة الطبيعة ثم التسامي عنها. وعلى الفن ان يقدم لنا نماذج وصورا مشتقة من القوانين العامة التي تحكم الطبيعة. اما في العصور الوسطى، وخصوصا عند توما الاكويني، فالفن دور واضح، وهو التعبير عن صراع النفس والآلام التي تعانيها عندما تبتعد عن الله، ودور الموسيقى والشعر والرسم يجب الا يخرج عن هذا الهدف. وباختصار، كان الفن في هذه الفترة، خادما للدين ومرتبطا اشد الارتباط بالقيم الدينية، لا يستطيع ان يحيد عنها. اما الفن عند المسلمين، فقد نظروا اليه احيانا من خلال نظرة دينية. لذلك برعوا في الفن الشعري وقد استخدموا هذا الفن في كثير من مجالات حياتهم، كما لعب الشعر دورا مهما في حياة المسلمين وخصوصا العرب منهم. وفي القرن الثامن عشر، حدد ايمانويل كنط، الفن بأنه ليس اظهار الشيء الجميل، بل انه طريقة جمالية في اظهار الشيء. والعمل الفني بالنسبة لكنط هو غائية بدون غاية، فغايته هي الانسجام الذاتي للعمل الفني، وليس له أي هدف خارجي يحققه خارج هذا الاطار، ويجب الا نقوّم العمل الفني تبعا لهدفه الاخلاقي او الفلسفي. والفنان ليس رسولا او مبشرا او محرضا، وقيمة عمله الفني لا تستمد من الهدف الذي يعمل له، بل من قيمته الجمالية الذاتية. ومن هنا جاءت نظرية "الفن للفن" التي تقول ان الفن يحمل معناه وقيمته بداخله كالدين والاخلاق، وليس بحاجة الى تحميله أي دور او رسالة، والا فقد طابعه واصبح كل شيء ما عدا كونه فنا. وقد نشأ تيار آخر يقول ان للفن دورا وهدفا وغاية، وقد بدأ هذا التيار في القرن التاسع عشر مع هيغل الذي يرى ان الفن ما هو الا حركة جدلية وتعبير اصلي ونهائي عن "الفكرة المطلقة". والعمل الفني ما هو الا مرحلة في مسيرتها لتجسيد الفكرة المطلقة. وقد كانت الماركسية هي التي بلورت هذا التيار وارست قواعده واعطته منحى ماديا. فالماركسية قامت تحمّل الفن رسالة، وتعطيه دورا كبيرا، ان كان على صعيد المجتمع او على صعيد العمل الفني نفسه. فعلى الصعيد الفني،لم يعد الفن تقليدا اعمي للطبيعة، وتمثيلا لوقائع الحياة يُكتفى بنقلها كما هي، بل اخذ على عاتقه اعادة خلق الاشياء وخلق العالم من جديد. اما على الصعيد الاجتماعي، فدور الفن هو دور الحافز على خلق علاقات جديدة بين عناصر مستمدة من الحياة والمجتمع والطبيعة. وبهذا فأن في الفن متعة، ولا فن بغير جمال، الا ان الفن فضلا عن هذا يحمل بالضرورة رؤى انسانية، وينقل مضمونا اجتماعيا، ويعبر عن موقف محدد من الحياة. ان الفنان يرتاب في الصيغ التي تتطلب ادراكا ذهنيا. وكل همه ان يخلق اشكالا جديدة يدركها الحس مباشرة وعلى النقيض من ذلك نجد ان المفكر يترفع عن بينة عن ذلك الاصرار على الجانب الحسي للافكار والاهتمام بمجالها العاطفي، بل انه يضيق به صراحة. اضف الى ذلك ان عقله يهتم بالبناء والتركيب، بل ان هذا الاهتمام ليتجه بما وسع جهده وضميره الى بناء الحقيقة وتركيبها. اما الشاعر والمصور فيصران على تركيز اعينهما على الشيء المنظور. وهذا ما يفعله الفيلسوف كذلك. غير ان وجه الخلاف هو ان الغاية النهائية للفيلسوف هي الوجود المطلق الخالص او التحديد الدقيق لخطوط تفكيره واتجاهاته. ان موقف الفنان هو موقف المتأمل من بعيد. انه لا يهتك ستر الواقع، ولا يشرّح الاجزاء. وحتى اذا هو فعل هذا، فان ذلك لا يكون لانتاج الفن، بل كتمهيد لانتاج الفن. فالموقف الاصيل للفنان والاديب باعتباره فنانا خامته الكلمة، هو موقف المتأمل للكل قبل الاجزاء. ولكنه اذا قام بتشريح الواقع فلكي يكون ادراكه بالنظرة الكلية ادراكا فنيا غائصا الى الداخل. وبتعبير آخر فان الفنان يجب ان ينظر من بعيد الىالواقع كي يتذوقه. والفنان حينما يكف عن ان يكون مجرد صانع ماهر موهوب، يصبح بفضل اختياره لموضوعاته وانتخابه لمواده وما يتخلف عن عمله الفني من اثر كلي ناقدا للحياة وللوجود، وهو فيلسوف بحكم طريقته الخيالية المباشرة. والفيلسوف الذي ينشئ من خلال وسيلة التعريف والايضاح او التركيب - صورة كاملة للحياة والوجود، انما يصنع لوحة للتجربة الكلية ويؤلف سيمفونية ذهنية وينشئ قصيدة، مهما تكن اللغة التي يستخدمها نثرا. ويقول افلاطون بلسان سقراط: "ان الفلسفة نوع رفيع من الموسيقى"، وهي مثل الموسيقى الجادة تحرك كوامن النفس والعقل مهما كان برود العقل الذي كتبها. ان الفيلسوف لا يستطيع مخلصا ان يتجاهل الفنون او الفنان ان كان صاحب نظرة شاملة جامعة. والاتجاه العقلي ذاته الذي يسعى الفيلسوف اليه او يحاول تحقيقه في الكون، يحاول الفنان ان يحققه ايضا لكن في حدود الخير الصغير الذي يعمل فيه وفي نطاق امكانياته. وان التنظيم الذي يبدو عليه كل عالم صغير يخلقه الفنان هو عبارة عن صورة شجية او مجسمة من ذلك الطراز الذي سعى الفلاسفة في اصرار ودأب الى الاهتداء اليه او مطالعته في الكون. ولقد اجتذبت الفنون اهتمام الفلاسفة الموضوعي من ناحية ان النسق الذي ينشدون اظهاره قد لا يبدو او يتحقق على اكمل وجها الا في روائع الفن حيث تتداخل الاجزاء وتؤلف كيانا عقليا حيا على النحو الذي يكون عليه الكون او على النحو الذي يمكن ان يكون عليه الكون. ولقد استلفتت الفنون انظار الفلاسفة بسبب تثبيت قضايا تتعلق بالاخلاق والمعرفة والحق لا يمكن لفيلسوف مرموق ان يتجاهلها. والفنون تلعب دورا هاما في حياة البشرية سواء اكان هذا الدور خيرا ام شرا كما انها ذات شأن ليس بالقليل في عواطفها. فلا بد ان تدخل في تأملات الفلاسفة بالضرورة. وهذا ما حدث بالفعل. ان الحب الانساني الدافئ في وحدته المتكاملة وحدة "الروح" و "الجسد" كان منذ الازل وسيظل مصدرا هاما من المصادر الرئيسية في الابداع الادبي والفني، ويشكل الحب الانساني الراقي الهاما حيويا ومضمونا لارفع الاعمال الابداعية الادبية والفنية الخالدة. ومن وجهة نظر دينية متزمتة فان أي استمتاع بالسعادة والسرور، وبفرح الانتصار او بلوغ الاهداف والقيم الانسانية النبيلة يعتبرخطيئة، ذلك ان السعادة تتعلق بارادة الرب وليس بالجهد الانساني المبذول من اجل ادراكها. وبالتالي فان التزمت الديني يعتبر انه لا يحق للناس الاستمتاع باي شيء دنيوي، بما في ذلك الاعمال الابداعية الخالدة، لان ذلك من شأنه صرف نظر الناس عن المعجزات الربانية، وعن المسرة الحقيقية والوحيدة مسرة الالتحام الروحي البريء مع الرب. ومن الناحية المبدئية، يقوم جوهر العلاقة ما بين الفن والدين على التعارض في احيان كثيرة، حيث ان الفن يجسد النظام الانساني "الطبيعي" للقيم والمعايير، في حين ان اللاهوتيين يؤكدون ان الدين ظاهرة الهية "لا طبيعية" ولا يمكن ان "تهبط" الى مستوى المعايير البشرية العادية. وقد كان لظهور المسيحية ومن ثم توطد اركانها العقيدية والعملية احدث تأثيراته على صعيد العلاقة مع الفن والجماليات. والمسيحية لم تلغ دور الفن، بل اعتبرته سلاحا هاما في تثبيت دعائها واركانها. وجاءت مجموعة المنحوتات التزينية للكاتدرائيات المسيحية، او تركيب بعض الواجهات الزجاجية فيها، اداة ايديولوجية للمفاهيم والتفسيرات المسيحية للكون والحياة. ويبرز التأثير المسيحي ساطعا من خلال الانتشار الواسع للمذهب الرمزي، لمفهوم العلاقة الكونية، ومحاولة التعبير عن اية حقيقة بواسطة الترميز، حيث ان الاناجيل نفسها تتضمن مفاهيم اخلاقية عديدة جاء التعبير عنها على صورة امثال رمزية شهيرة. ومن ثم اصبحت هذه الامثال الرمزية فيما بعد موضوعات للرسوم الايقونية، كموضوع "الراعي الصالح" و "الزارع" و "العذارى المجنونات" وغيرها من الرموز. وبالرغم من ذلك كله، فان اغلب الوثائق والمقررات المسيحية وقفت بشكل غير محبذ للفنون وفي اغلب الاحيان بشكل معاد، ومناقض ورافض لها. وقد لاحظ الفيلسوف الالماني الكبير هيغل، ان الفكر الفلسفي المثالي واللاهوتي (وقف منذ زمن بعيد ضد الفن) ولكن لا بد لنا من القول بان المسيحية رغم سيطرة الاتجاه الاصولي، المتزمت عليها في مرحلة تاريخية كبيرة كانت ينبوعا لا يستهان به لعدد كبير من الاعمال الابداعية التي اثرت في الفن ولعبت فيه دورا مؤثرا الى حد كبير. ومن هنا نجد ان كثيرا من مؤلفات "آباء الكنيسة" المسيحية تشدد على منع وتحريم التصوير، في الوقت الذي تتسامح فيه مع الفن الرمزي والتجريدي، ربما لابتعادهما عن المحسوس (الارضي)، وتجسيدهما لافكار واحاسيس رمزية تنزع الى الاعلى والمطلق اللامرئي. ولا يجوز لنا ان ننسى ان الفنون المختلفة استخدمت كأداة فعالة لشد ملايين الناس البسطاء نحو حضور الشعائر والطقوس والتراتيل والمواعظ الكنسية، فالاضواء المشعشعة الصادرة عن الثريات والشموع والمصابيح، والنسائم المشبعة بعبق الابخرة، كل هذه الاشياء اسهمت في تعميق التأثير على عقول وعواطف واحاسيس رواد الكنائس. كما ان روعة الاداء في فرق التراتيل الكنائسية لها تأثيرات سيكولوجية كبيرة، بل قد يكون انشداد الناس البسطاء الى سماعها والتمتع بها هو احد الاسباب الرئيسة لترددهم على دور العبادات، كما ان استمتاع الناس بهذه الفنون لا يتطابق في معظم الاحيان مع تفسيرات رجال الدين لتلك الاعمال، ففي حين لا يتماهى رجال الكنيسة مع القيم الفنية – الجمالية للكثير من الفنون الجمالية، نجد ان عامة الناس يحبون ويجلون تلك الاعمال لتأثرهم العاطفي والحسي بالنواحي الفنية والجمالية منها. وهناك الكثير من الايقونات التي هي اقرب الى فهم الناس البسطاء من كثير من الطقوس والشعائر الاخرى. لكن التفسير الرمزي – المجازي، والمفهوم اللاهوتي للواقع والجمالية في الفن ثبّته بصورة نهائية في القرن الثالث عشر مؤسس الفلسفة الكاثوليكية الرسمية – توما الاكويني. وقد طلع بفكرة مفادها: "ان الجمال يتطابق مع الفائدة، ولكنهما يختلفان فقط في وسائل تعبيرهما". ويبرر الاكويني ذلك، معتبرا ان المصدر الحقيقي للجمالية المطلقة هو "الخالق" الاعظم، الرب، الذي يصدر عنه كل الوان الخير والجمال والمعرفة، فالجمال حسب التفسير التومائي هو "اشعاع رباني، وعنصر مجسد لعظمة الوجود الالهي"، على الارض وفي عالم المشاعر والاحاسيس المادية. وقد حرر توما الاكويني علم الجمال من "تلوثه بالخطيئة البشرية"، التي كان متهما بها من قبل اللاهوتيين. فاعطي بذلك للكاثوليكية الرسمية مبررا ايديولوجيا للاعتراف بقيمة الفن وعلم الجمال. اما الاستمتاع بالجماليات والفن فقد كان يفسر من وجهة نظر علم الجمال الرسمي للكاثوليكية، على انه نشوة وجدانية واحساس انفعالي عميق بعظمة وروعة الرب كمنبع لكل شيء جميل في الكون. وفي الحقيقة فان المذهب التومائي تجاه علم الجمال شكّل جوهر السياسة الفنية للكاثوليكية من جهة، ومنح الكنيسة الكاثوليكية القدرة على المرونة من جهة اخرى. واذا بحثنا عن اصل نظرة الفيلسوف للفنون الجميلة، فربما وجدناه في الخصومة القائمة بين مطالب الجسد ومطالب الروح او بين الحس والعقل. ومع ذلك، فان الفيلسوف لا يستطيع تجاهل الفنون الجميلة حتى ولو رغب في ذلك، بل انه مجبر على التسليم ببعض الاهتمام بها حتى ولو كان جاهلا بكل شيء عنها. واغلب الفلسفات التي تدعي انها ليست اكثر من منطق جامد صرف او ميتافيزيقا خالصة قائمة بذاتها او حتى تلك التي لا تدعي انها اكثر من ذلك، انما تصدر عن فلسفة اخلاقية. الا ان الفلسفة الاخلاقية مهما كان منشؤها والغاية التي تسعى اليها والحدود التي تتجه نحوها، ليست سوى اختبار للحياة الفاضلة. هذه الحياة الفاضلة هي برنامج للمستقبل في الحياة الدنيا او الآخرة وهي نظام للسلوك تهتدي به الحياة، وهي تعني بالشرور القابلة للعلاج او بأوجه الصلاح التي يمكن بلوغها وبالسعادة في هذه الدنيا وبالخلاص في الآخرة. ومع ذلك فقد احلت الفنون خيرات الحياة في الحاضر، اما بالقدوة او بالتضمين. واهتدت الى هذه الخيرات في المتع الملموسة للحواس وفيما تنقله الحواس بطريق مباشر. ومهما بلغت الطريقة التي تتبعها من نقاء وحسن، فاللذة هي مبرر وجودها. وفي هذا الصدد يعرّف سانتيانا الجمال بأنه "اللذة مجسمة" وبذلك تعلن الفنون صراحة انها لن تعطي شيئا اللهم الا ترفيق لحظات حياتنا والسمو بها، ومن ثم فالفنون في اشكالها وقوالبها الحيوية لا في صيغها النظرية، توضح الاهداف الضمنية ومجال القيمة الفعلية او المتخيلة التي تتضمنها اية نظرية اخلاقية. وخيرات الحياة ذاتها، التي هي قوام الاخلاق، تحقق وجودها الجلي المحسوس في الفنون، ويندر ان نجد خيرا قد تقدره او تشير به أي نظرية اخلاقية، لا يجلوه او يجده على هذا النحو فن من الفنون بطريقة او باخرى. وهكذا، فان فلاسفة الاخلاق يستوحون بدورهم ما تنطوي عليه الفنون من خواطر وآراء. فما يدّعونه لانفسهم من حق الحديث عن قيم الحياة والتوافق والانسجام والسعادة والحيوية وحياة مستنيرة، حافلة، منوعة، زكية وراسخة قد تحققت مرارا وتكرارا على ايدي عباقرة الفن واستمتع بها عشاق روائع الفنون. ومن هنا تأتي الفنون فتعطي حقيقة الاشياء بقدر ما تطبع اثرا في مشاعر الناس وخيالهم. وهي تحاول بل وتفلح احيانا في تقديم الخاصية الواضحة للموجود العقلي لا مجرد صفته العامة المحضة، بكل ما في الحس والشعور من تفاوت لوني يدور حولها. وعليه فان الفلاسفة وجميع ذوي الحس المرهف من رجال ونساء، يحسون احيانا ان الصدق الذي يصدر عن الفنون اكثر ثباتا واشد انطلاقا من اية لغة رشيدة متزنة تستخدم في اغراض التخاطب العملية حيث ان اسلوب التخاطب العلمي يمكّننا من تجريد الاشياء وتحويلها الى فعال يمكن ادراكها والتحكم فيها، اما الفنون فلا تحدثنا عن الشكل الخارجي المجرد وانما تعرض الماهية ذاتها. وخلاصة القول ان الفيلسوف يميل الى المعرفة، بينما يميل الفنان الى التذوق، فالفنان يتناول الوجود بنظرة شيئية، بينما ينظر الفيلسوف اليه بنظرة تجريدية، والفنان يتمسك بتفاصيل الواقع وجزئياته، بل انه قد يجد في تلك التفاصيل والجزئيات المجال الحقيقي لانتاجه الفني. كما ان الرموز عند الفنان هي رموز تذوقية وليست رموزا منطقية كما هو الشأن عند الفيلسوف. فالفنان عندما يستخدم الرموز فانه يدق بها على ابواب الوجدان وليس على ابواب العقل. كذلك، فان الفنان في استخدامه للرموز فانه يشير بها الى الواقع المحسوس على عكس الفيلسوف الذي يشير برموزه الى الفكر المجرد المتعالي على الواقع المحسوس. وعندما يهتم الفنان بالعلاقات، فانه يهتم بالعلاقات المكانية وبالنسب بين الاشكال والاحجام وبالعلاقات الصوتية واللونية والحركية، بينما يهتم الفيلسوف بنوع آخر من العلاقات يمكن تسميها بالعلاقات الجوهرية او العلاقات الوجودية. والفرق بين النوعين من العلاقات هو ان العلاقات عند الفنان هي علاقات يخلقها هو خلقا ويبتكرها هو ابتكارا. اما العلاقات عند الفيلسوف فهي امور يبحث عنها ويقف عليها ويبرزها للعيان. من هنا فان الفنان يوصف بانه خالق ومبتكر ومبدع، بينما يوصف الفيلسوف انه مكتشف لاسرار الوجود والكون والانسان. وعلاوة على ذلك، فان الفنان يقوم بعملية خلق تشكيلي، بينما يقوم الفيلسوف بعملية كشف تحليلي فكري تركيبي. واخيرا، فاننا نستطيع في الواقع ان نجد نقط التقاء كثيرة بين الفنان والفيلسوف بحيث نستطيع ان نؤكد ان الفنان والفيلسوف يبحثان كل بمنهجه الخاص عن الحقيقة. ولا شك ان الفيلسوف هو انسان قبل ان يكون فيلسوفا. واشد الفلاسفة تجردا من الاحساس بالجمال لا يستطيع ان يخفي اعجابه بما يتراءى في الطبيعة والكون من جمال فالفيلسوف ينبهر ولكنه قد يخفي انبهاره بما يشاهده حفاظا على منهجه العلمي الفكري التجريدي. اما الفنان، من جهة اخرى، فكلما كان اكثر معرفة، فانه يستطيع ان يوظف معرفته لفنه فيرتفع بمستوى انتاجه الفني. وعلى هذا الاساس، فان الانحياز الى العقل عند الفيلسوف، وكذا الانحياز الى الوجدان عند الفنان، انما هو انحياز منهجي وليس انحيازا نفسيا. فالفيلسوف يجب ان يظل متمتعا بحرارة الوجدان، كما ان الفنان يجب ان يتمتع بنعمة اصدار الاحكام المنطقية السليمة، فليس هناك في الواقع تعارض بين ان يكون الانسان فنانا وفيلسوفا في الوقت نفسه كما كان الشأن مع الاديب الكبير جبران خليل جبران مثلا الذي جمع بين كونه اديبا وفيلسوفا وفنانا في آن واحد.
(كفر ياسيف)
#منير_توما (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلمانيّة ومبدأ التصالح بين الدين والدولة في الغرب
المزيد.....
-
موزة ملصقة على حائط.. تُحقّق 6.24 مليون دولار في مزاد
-
تقارير عن معارك عنيفة بجنوب لبنان.. ومصدر أمني ينفي وجود قاد
...
-
قوات كييف تعترف بخسارة أكثر من 40% من الأراضي التي احتلتها ف
...
-
إسرائيل تهاجم يوتيوبر مصري شهير وتوجه له اتهامات خطيرة.. وال
...
-
بوليتيكو: الصين تتجاوز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في
...
-
وسائل إعلام عبرية: اختفاء إسرائيلي في الإمارات والموساد يشار
...
-
غرابة الزمن وتآكل الذاكرة في أعمال عبد الله السعدي
-
فوائده كثيرة .. ابدأ يومك بشرب الماء الدافئ!
-
الناطق باسم -القسام- أبو عبيدة يعلن مقتل إحدى الأسيرات الإسر
...
-
-تحليق مسيرة ولحظة سقوط صواريخ-.. حزب الله يعرض مشاهد استهدا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|